مشبال: لولا والدتي رحمها الله لأصبت بالجنون داخل أسوار المعتقل

مشبال: لولا والدتي رحمها الله لأصبت بالجنون داخل أسوار المعتقل
الأربعاء 30 ماي 2018 - 01:00

تستضيف هسبريس، من خلال هذه السلسلة من الحوارات، المعتقل السياسي السابق محمد الأمين مشبال، الذي حكم عليه بـ20 سنة، في إطار محاكمة الدار البيضاء لسنة 1977، التي حوكم فيها 139 من النشطاء السياسيين المنتمين إلى تنظيمات ماركسية لينينية، كانت تروم تغيير النظام القائم بالعنف، وإقامة نظام جمهوري على غرار أنظمة “الديمقراطيات الشعبية”، التي كانت قائمة في أوروبا الشرقية وبلدان أخرى من قبيل كوبا والفيتنام.

في هذه الحلقات يحكي محمد الأمين مشبال تجربة استغرقت 14 سنة، ابتداء من خطواته في منظمة “إلى الأمام”، مرورا بتجربة التعذيب والانهيارات في المعتقل الرهيب مولاي الشريف والمحاكمة، وصولا إلى الصراعات السياسية داخل السجن، وتفاصيل الحياة اليومية داخل أسوار السجن.

وبقدر ما تنقل لنا هذه الحلقات حجم المعاناة الإنسانية، فهي في الآن نفسه تكشف جوانب مهمة من تاريخ المغرب الراهن، ما زالت في حاجة إلى البحث والتمحيص.

كيف واجهت حياتك الجديدة في السجن المركزي بالقنيطرة؟

بعد مدة وجيزة من صدور الأحكام تم ترحيلنا إلى القنيطرة .كان السجن المركزي رهيبا وشامخا ، ساحة عارية ومتسعة ،وبناء ضخم ممتد .داخل البناية الضخمة يوجد ممر فسيح طويل يتوسط صفين من الزنازن.

مالبثنا أن وصلنا إلى حي “أ”. وضعت أمتعتي البئيسة: ملابس داخلية، علب نسكافي، مربى، كتب. كان إلى جواري كل من عبد الباري الطيار والركاب إدريس. طلب منهما الحراس أن يخلعا جميع ملابسهما وظلا عاريان حتى تم تفتيشهما بشكل دقيق ومهين.وعندما جاء دوري ،وبعدما خلعت آخر قطعة من ثيابي ،أمرني الحارس بأن أصعد وأنزل إلى تحت وأن أسعل بشدة .ثم منحني بذلة السجن:سروال وقميص بني من الثوب الخشن،وحذاء مطاطي .وأدخلوا كل واحد منا إلى زنزانة فردية. بينما تم نقل مجموعة من قياديي وأطر”23 مارس” و”إلى الأمام” إلى حي العزلة “د” حيث الزنازن وباحة الاستراحة أكثر ضيقا بكثير،ومما يضغط أكثر على نفسية السجناء.

كانت مساحة الزنزانة لا تتجاوز مترين طولا ومتر ونصف عرضا ،ولاح لي سرير أرضي فوقه متربة متعرجة من التبن ،ووسادة هشة تفوح منها رائحة التراب ،وتحت المتربة مرحاض ضيق عار تنبعث منه رائحة كريهة وأصوات الفئران. في التاسعة ليلا أطفأت الأنوار وساد صمت كئيب.

في الصباح كان يسمع صوت المفتاح في أبواب الزنازن ،ثم يوزعون علينا الماء الساخن .كنت أعددت كأس قهوة من نسكافي وحليب مجفف وأتناول قطعة خبز وجبن أو مربى. ثم نخرج إلى الاستراحة لمدة نصف ساعة في الصباح ونصف ساعة في المساء.أما الطعام فكانت تشمئز منه الكلاب التائهة فبالأحرى الإنسان، لذا كنا ننتظر بلهفة زيارة العائلات لنتذوق طعم طعام لائق.

كان علي أن أتكيف مع الواقع الجديد ،فليس من السهل أن يقضي إنسان محكوم بعشرين سنة سجنا مدة 23 ساعة في اليوم داخل زنزانة فردية بدون أن يفقد عقله. ومن حسن حظي كانت المطالعة من هواياتي المفضلة ،فقضيت اوقاتا ممتعة مع روايات ” التحفة” و”جرمينال” إميل زولا و”عناقيد الغضب” لشتاينبك و”ضوء أغسطس” لوليام فولكنر و”الامل” لاندري مالرو،و”العين ذات الجفن المعدنية” لشريف حتاتة ،”والضفاف الاخرى “لاسماعيل فهد اسماعيل ،و”كوابيس بيروت” لغادة السمان…الخ.فلقد حملتني الرواية بشخوصها وفضاءاتها من قلعة النسيان التي وضعت فيها إلى عالم ملون وفسيح.

إلى جانب قراءة الروايات كنت أحاول تحضير بعض مواد شعبة العلوم القانونية التي كنت مسجلا في السنة الأولى منها في فاس لما تم اعتقالي.وكنت أجد صعوبة في الحصول على المقرر لكون أغلبية الرفاق كانوا مسجلين في شعبة الآداب أو الفلسفة. لكن مع اقتراب موعد الامتحانات أخبرتنا إدارة السجون بقرار منع اجتيازها .أدركت أن الأمر يندرج ضمن الإجراءات الهادفة إلى الانتقام وتحطيم المعنويات،وبأن فاتورة تحدي النظام الموقف ومساندة البوليزاريو من طرف البعض منا خلال المحاكمة لابد من تسديدها.

أذكر جيدا رفيقا صغير السن كان ينتحب كلما ولج زنزانته في المساء، يذوب في دخان همومه، يصدأ تفكيره ويحس أن النهاية حلت به، وأذكر أيضا صوتا شجيا كان يتسلل إلي هاربا من كوة الزنزانة يرجرجني ثم يعبث بي قليلا ويرمي بي إلى الأحلام المستحيلة، صوت عذب يشدو بإحساس مرهف في فضاء الليل، رفاق كثيرون كانوا يقتلون الصمت بأصواتهم العذبة، لكني فضلت دوما صوت عبد العزيز الميموني خصوصا حين ينشد أغنية محمد عبد الوهاب “جفنه علم الغزل”، لم أكن أتذوق هذه الأغنية من قبل، بل لم أكن أحب عبد الوهاب، لكن أداء الميموني عبد العزيز العذب جعلني أكتشف سحرمحمد عبد الوهاب. كان صوت الميموني ينزلق هادئا ناعما في الممر الفاصل بين الزنازن فيرتج الصدى نغما منعشا، وكنت أبتسم حالما لما يتعالى صوته مرددا: “وحرقنا قلوبنا في جحيم من القبل”.

كيف كان رد فعل أسرتك والعائلات عموما بعد صدور الأحكام وكيف كانت تتم زياراتها؟

كانت صدمة شديدة بالنسبة للوالدين وأظن أن الأمر كان كذلك بالنسبة لجميع العائلات. في تلك المرحلة التاريخية لم تكن هناك منظمات لحقوق الإنسان ولا جمعيات للمجتمع المدني ولا هم يحزنون. ولولا عائلاتنا لم نكن لنجد من يعطينا ولو عود ثقاب ولأصيب معظمنا بالجنون. وكثيرا ما فكرت آنذاك في ما كانت تلقنه لنا المنظمة نقلا عن كتاب إنجلس “أصل الملكية والعائلة والدولة”، بأن العائلة “مؤسسة برجوازية” ينبغي التخلص منها ،وما بين المؤازرة والحب اللامحدودين الذي وجده المعتقلون السياسيون في أسرهم.

شخصيا كانت المرحومة والدتي تحرص على زيارتي باستمرار وأن وتحضر معها أشياء أحبها. وبما أنها كانت تجد صعوبة في السفر وحدها ،فقد أصبحت تأتي من تطوان رفقة رفقة أفراد من عائلات أخرى خصوصا كل من المرحومة والدة جمال بنعمر أو المرحومة والدة يونس مجاهد ،بحيث وحدتهن المعاناة وامتدت صداقتهن بعد انتهاء محنة الاعتقال إلى أن غادرن تباعا هذا العالم.وبالمناسبة لابد من التنويه بسيدة فاضلة كانت تقيم بالقنيطرة وكانت تفتح أبواب بيتها لكل العائلات التي تأتي من بعيد ويتعذر عليها الحصول على تذكرة الرجوع ،ويتعلق الأمر بالمرحومة والدة رفيقنا حسن السملالي.

والدة الأمين مشبال تحكي عن ظروف اعتقاله

أما والدي فكان قد بدأ يتقدم في السن ولا يزورني إلا في فترات متباعدة، لكن أخي عبد اللطيف وعبد المومن كانا يحرصان على زيارتي بانتظام ،في حين كان أخي الأكبرجمال بإسبانيا فكانت زياراته أقل.

‫تعليقات الزوار

7
  • citoyen
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 01:55

    C’est vrai que les familles des prisonniers de
    Kenitra ont joué un rôle crucial pour soutenir
    moralement et matériellement leur fils .Qui peut oublier la mère passionaria de Zazaa , la mère de A
    El Moudden , la mère deH.Semlali … les sœurs et les épouses ,elles aussi étaient impliquées dans ce
    . combat
    A part l’AMDH et quelques avocats , le silence
    .régna quand on évoqua ceux de Kenitra

  • cast away
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 02:05

    فعلا ليس هناك قلب حنون في هذه الدنيا اكثر من قلب الأم اللهم ارحم امهات ……….

  • منصف
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 02:39

    سيبقى نضال عائلات المعتقلين السياسيين و أمهاتهم على الخصوص تجربة رائدة في الكفاح و الصمود،هذا النضال الذي فتح الباب لنشأة الحركة الحقوقية بالمغرب بل و فتح فجوة في حائط الاستبداد المطلق الذي كان سائدا و لعل التغيير الجذري الذي ستعرفه وضعية المعتقلين السياسيين في السجون (نحو الأفضل طبعا ) عقب الإضرابات الطويلة عن الطعام خير شاهد على ذلك..
    إن القمع الرهيب الذي سلط على هؤلاء الشباب اليساريين ليس مرده فقط هذا الموقف أو ذاك من الصحراء لأن المرحوم عبد الرحيم نفسه زج به في السجن لأن موقفه بالضبط كان مع مغربية الصحراء و ضد الاستفتاء..إذن فالقمع الرهيب يرجع بالأساس إلى تجرؤ شباب على معارضة جذرية لسياسات المخزن و حمل لواء النضال من أجل الحرية و المساواة و العدالة الاجتماعية..
    الرحمة على والدة الأستاذ مشبال و على أمهات كافة المعتقلين السياسيين سابقا و أكيد سينمن مرتاحات لأن كفاحهن لم يذهب سدى

  • boujmia
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 08:02

    احن الى امي وقهوت امي فتكبر في الطفولة

    يا من هو بَازْ فْ لَقفازْ
    les hommes libres sont en prisons

    يا من هو فروج عل الكَنْدْرَة ونشر جناحه
    les imbéciles se pavannnet

    يا من هو تِلِّيسْ اعطى ظهرو لَتَّغـْـرَازْ
    les traitres ont abadonnés leur honneur (leurs dérières… )

    عمرني ما ريت لغزال تمشي بَلْمْهْمَازْ
    je n'ai jamais vu les femmes libres avec des mennotes

    وفراخ الخيل عَادُوا سْرَاحُوا
    الغيوان

    قلتم الحق في وجه الطغات
    فخاف منكم
    لانه يخاف من يفكر بنفسه
    ادخلوكم السجن حتى لا يسمع الشعب الحقيقة
    ويتبعكم
    ويصبح ينصت اليكم
    ولا يطيعهم
    فعلا السجن كان المكان الوحيد الدي كات فيه حرية التعبير في دلك الوقت

    بوجميع

  • عبد السلام أندلوسي
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 10:36

    سيبقى اسم الأستاذ الأمين مشبال خالدا إلى الأبد
    وستبقى أمه رحمها الله نموذج للأم الشمالية المكافحة المجاهدة
    تحية خالصة لهما ولأسرة الامين

  • عبده/ الرباط
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 10:48

    اللهم ارحم هذه السيدة الطيبة فهي مثال للام الحنون و هذا كل ما يمكنك ان تفتخر به السيد مشبال …. لو فكرت قليلا و انت في فورة شبابك في والديك لما ضحيت بزهرة شبابك في قضية خاسرة بعيدة عن قيمنا و تقاليدنا و عاداتنا … لو استشرت مع والديك لكفيتهما هذا العناء و هذه المعاناة… و على حال فنرجو لوالدتك هذه و والدك و جميع المسلمين رحمة واسعة

  • محمدين
    الأربعاء 30 ماي 2018 - 17:25

    عندما تحظى النخبة المناضلة بالسند العائلي و الشعبي، يتحقق الصمود للمناضلين و أيضا للمجتمع و تنتشر ثقافة النضال و التضامن. لكن و في عهدنا الحاضر،،يجب التأكيد على أن يكون العمل النضالي متحليا بالسلم و المشروعية و النضج و المسؤولية، و أن يسعى إلى توثيق الوحدة بين الشعب و المؤسسة الملكية في وجه أعداء التغيير الهادف إلى بناء مغرب ديمقراطي زاخر بالعدالة الاجتماعية و بسيادة دولة الحق و القانون و استقلال القضاء و ضمان الحريات و طابع التعدد السياسي و التنوع الثقافي و أيضا لتحرير الاقتصاد من المصالح الطفيلية و تحديثه على أساس تكنولوجي معاصر و تغيير نموذج التعليم … كما أن الهدف يكون هو تمتين الجبهة الداخلية ضد أعداء وحدتنا الترابية و ضد المخططات الإمبريالية المتربصة بالمغرب و بالمنطقة.

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30

احتجاج أساتذة موقوفين

صوت وصورة
جمعية حقوق الإنسان ومدونة الأسرة
الأربعاء 27 مارس 2024 - 19:35 3

جمعية حقوق الإنسان ومدونة الأسرة

صوت وصورة
نتائج "بارومتر الصناعة المغربية"
الأربعاء 27 مارس 2024 - 19:15

نتائج "بارومتر الصناعة المغربية"

صوت وصورة
الفهم عن الله | الاحتواء والاحتضان الرباني
الأربعاء 27 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | الاحتواء والاحتضان الرباني

صوت وصورة
نصومو مرتاحين | مشاكل الأسنان في رمضان
الأربعاء 27 مارس 2024 - 17:00

نصومو مرتاحين | مشاكل الأسنان في رمضان

صوت وصورة
البياض يكسو جبال مودج
الأربعاء 27 مارس 2024 - 12:15 1

البياض يكسو جبال مودج