غزّة في الشارع والقلب والقمر

غزّة في الشارع والقلب والقمر
الأحد 18 يناير 2009 - 03:47

شهدت شوارع الرباط مسيرة تضامنية مع غزة يوم الأحد 4-1-2009، مسيرة كثيفة رغم الإمطار، رُفع فيها العلم الفلسطيني وأعلام حماس وحزب الله وصور تشي غيفارا والأحذية أيضا، وردد خلالها المحتجون شعارات “هذا عار هذا عار غزة في خطر”، صامدون صامدون للتطبيع رافضون”، “يا حكام الهزيمة أعطوا للشعب الكلمة”…



صبيحة اليوم الموالي طلعت الصحف المغربية بالعناوين التالية:



“مسيرة مليونية في الرباط تضامنا مع غزة”، “مسيرة الشعب المغربي مع غزة”،”وزراء يدوسون علم إسرائيل بالأقدام”، “إدانة شعبية للأنظمة العربية والقوى الإسلامية تهيمن على مسيرة التضامن”، “الرباط تغلي بالجماهير المغربية الغاضبة في بمسيرة المسيرات”،”مسيرة حاشدة بأكثر من رأس للتضامن مع غزة”…



قبل وبعد هذا اليوم المشهود، عاشت جل المدن المغربية مظاهر مختلفة للتضامن، أرسلت جمعيات مغربية قوافل تضامنية مع غزة، تطوع أطباء وصيادلة مغاربة للإسعاف، تم إلغاء احتفالات رأس السنة بالإعلام العمومي، أجلت الأسرة الملكية خطبة ابنة شقيقة الملك، تم تأجيل الدورة 16 من البطولة الوطنية لكرة القدم التي كانت مقررة بداية الشهر الحالي، وفسرت بعض الصحف التأجيل بتخوف السلطة من خروج الجماهير في مظاهرات في الشارع… لكن الحذر لم ينفع، نُظمت مسيرات تضامنية أطرتها الفعاليات الحقوقية والسياسية، خرج تلاميذ وتلميذات الإعداديات والثانويات في مسيرات، تم تعطيل التعليم لتجنب انفلات أمني، الحرم الجامعي يغلي، في فاس جرت احتجاجات ومواجهات ترتب عنها تخريب ممتلكات عمومية وإطلاق القنابل المسيلة للدموع ودخلت قوات الأمن الحرم الجامعي بحثا عن طلبة النهج الديمقراطي القاعدي…



حين أتحدث إلى الناس في الشارع، تتفجر درجات عالية من الغضب والإهانة بسبب العجز عن التأثير على مجرى الأحداث، قال أحد الشيوخ “لم يطوع الجوع غزة دخل الجيش لتطويعها… والله ما تطوع”، على الإنترنيت، وخاصة على الموقع المغربي www.hespress.com سيل تعاليق غاضبة تجاوزت كل الخطوط الحمر، كتب مدون مغربي مشهور “خلعت الدول العربية سروالها أمام إسرائيل” وأضاف “أنا لم أعد أرى في إسرائيل ولا في أمريكا خطرا علينا ، لأن الخطر الأكبر بالنسبة لنا ، نحن الذين حتمت علينا الأقدار أن نعيش في هذه الرقعة الجغرافية المظلمة ، يكمن تحديدا في هؤلاء الحكام المستبدين”…



في المقهى حيث أجلس، يتبادل الناس التعاليق حول الصور المنشورة في الصحف، دبابات وطائرات ومشاة ومتفجرات على مساحة صغيرة طولها 60 كلم وعرضها 6كلم وصيتها على مقاس السماوات والأرض، على الأرض خراب ودم وشهداء، أطفال ورجال ونساء… بشاعة تسبب غصة في الحلق وتجمد الدمع والدم في العيون…



على القناة المغربية حصص من الطرب الأندلسي، بعده الأخبار، مراسلة القناة المغربية من غزة شابة مبتدئة متوترة قالت في اليوم الثامن للعدوان أن غزة “تعيش حربا حقيقية”. صحيح؟ بعد النشرة، عادت القناة لعرض مسلسل قديم.



ينقل النادل المشهد إلى القمر الصناعي، يطلب المشاهدون قناتي الجزيرة والمنار، عطوان منطلق ووئام وهاب يسخر بمرارة من أبي الغيط… يشعر المشاهدون بأن حقهم استوفي. لا يستطيع النادل اختيار قنوات أخرى…



في البيت، أختار القمر الصناعي والقنوات بنفسي، لأشاهد حرب تحاليل للأصدقاء والأعداء، هؤلاء واضحون، الخطير هم الأصدقاء المعتدلون، أختار القنوات التي تستفزني، العربية وإلبس LBC، هنا حرب يخوضها بالوكالة إعلاميون بعيدون عن خط النار، ينفون ما تبثه الجزيرة والمنار حرفا بحرف.



قال محمود عباس “لا نريد أن تُدمر حماس لنحل محلها”. قال مستشاره نمر حماد إن محرضي المحتجين “يستغلون مأساة الشعب الفلسطيني لتصريف إحباطاتهم ويتهمون الأنظمة”، روى محمد دحلان أن “حزب الله تخلى عن حماس”.



بعد تصريحات القادة يتهلل وجه محللي القناتين وهم يكشتفون محورا إيرانيا قطريا حمساويا نصراويا في المنطقة لكن الفلسطينيين وحدهم يدفعون الثمن، وسوريا تحرض والجولان هادئ، ممثل حماس في الحوار محمد النزال ينفي وجود هذا المحور، وكان عليه أن يسأل ممن يتكون المحور الآخر. لم يسأل ونصبت له المذيعة فخا: كيف تساعدكم فتح في القتال؟ لم تسعفه الإجابة فتلقى لكمة ثانية: كيف يخدم انقسامكم إسرائيل؟ حينها تسلم مصري الكلمة وقال إن حماس تفردت بوقف الهدنة وقسمت الصف العربي… لا تتساءل المذيعة: ومتى كان الصف موحدا؟



روى اللواء حسام سويلم من القاهرة أنه وصل جنرال إيراني إلى حماس وأنشأ مدنا تحت الأرض وعلمهم وأن الأساليب الحمساوية مثل أساليب حزب الله وأن حماس ستعلن انتصارها مهما كانت الخسائر. سكت اللواء وترك للمشاهد فرصة استنتاج ما يلي: حماس شبيهة بحزب الله، حزب الله شبيه إيران، على مقاس كل إنسان فان إذن سقراط فان.



في البرامج الحربائية، حتى الضيوف يسألون أنفسهم، قال احدهم:كم سيكون عدد القتلى قبل أن تعلن حماس استسلامها؟



سألت مذيعة برنامج “أنت والحدث” – حلقة 3-1-09- ضيفا من فتح عن المسئول عما يجري فأجاب بكلمة واحدة “الاحتلال”. بُهتت المذيعة الجميلة ولم تعرف كيف تتابع، فأخذت استراحة وظهر شمعون بيريس يقول أنه لا يريد القضاء على غزة ولا على حماس بل على الإرهاب وتلا ذلك تقرير يقول ان الجيش الإسرائيلي الآن أفضل من حاله في يونيو 2006… بعد الاستراحة تسلم ضيف خبير الكلمة وأفشي أن قوة حماس تحت الأرض وأن إسرائيل لن تتورط في قتال داخل المدن وستقوم بعمليات جراحية ثم طرح سؤالا يليق بضابط إسرائيلي “هل إسرائيل مستعدة لتستدرجها حماس إلى شوارع غزة؟” لا يظهر هل هذا سؤال أم رسالة لجهة ما… كان محمد النزال يستمع مذهولا وقد تم تهريب النقاش من جثث الأطفال إلى خرائط لخبطها سيادة اللواء للارتزاق بها.



للإشارة سبق لصحفي إسرائيلي أن شبه التعامل مع حماس أو اجتياح غزة بالاختيار بين الكوليرا والطاعون، ستحصل عليهما إسرائيل معا، اجتاحت غزة دون أن تحقق شيئا وبعدها ستتفاوض مع حماس لأن المقاومة هي الشعب الفلسطيني وليست المقاومة زائدة دودية سنزيلها بعملية جراحية. معذرة هذا موقفي. أعود للمحللين الحربائيين.



يقول مصري أن حماس تفردت بإنهاء التهدئة فيفصّل له محلل من دبي “العملية في غزة ستحرم إيران من ورقة حماس”، يكرر ضيف ثالث أن إسرائيل لم تحقق أهدافها بعد. ما هي؟ منع حماس من الاحتفاظ بقوتها لتشكل خطرا على إسرائيل. هل ستحصل إسرائيل على الهدنة بعد الحرب؟ إسرائيل لن تحتل غزة رغم أخطاء حركة حماس فإن…



رغم زعمي أني أتمتع بالمناعة المكتسبة ضد هذه التمارين الإعلامية المفبركة، ورغم أني أجتهد لكشف الأنفاق التي تحفرها المذيعة للمشاهدين، فإن دمي يتعكر، أنتقل إلى قناة المستقبل، هذا ضيف يقول أن روبي توقظ الموتى دون أن تغني. هربت إلى الإخبارية فدهسني مذيع يسأل ضيفه: لماذا ستعقد قمة عربية إذا كان الفلسطينيون منقسمون؟



في الحقيقة، التمارين الإعلامية القادمة من القمر الصناعي لا تشرح، بل تضلل. وقد عمل إعلاميو البترودولار على توصيف الصراع في الشرق الأوسط على أنه يجري بين محور سني عربي وأجندة إيرانية، وقد جرفت هذه الثنائية الكثيرين من العقلاء، لأن التكرار والتبسيط واستخدام الوقائع بمهارة فبرك صورة متكاملة، لكن كثافة ودموية العدوان على غزة أعاد التوصيف الصحيح: هنا مقامة وهناك احتلال. والحقيقة هي ما يجري في الشارع وتنبض به قلوب الناس، أما ما يجري في القمر فهو تمارين إعلامية مسمومة.



ملحوظة: كتب المقال خصيصا لجريدة الأخبار اللبنانية التي يكتب فيها عزمي بشارة.


نشر هذا المقال في صفحة الرأي مع مقال سماح إدريس رئيس تحرير مجلة الآداب.


الأخبار 14-01-2009.

‫تعليقات الزوار

3
  • نورالدين لشهب
    الأحد 18 يناير 2009 - 03:51

    قرأته وأنا أنفجر بالضحك، بوركت السي محمد، شكرا لك.

  • خديجة
    الأحد 18 يناير 2009 - 03:49

    شكرا للزاز المكناسي على التوضيحات، فقط أصحح له أن محرر “المنهل” هو سهيل إدريس رحمه الله، وليس ابنه سماح إدريس.

  • اللزاز المكناسي
    الأحد 18 يناير 2009 - 03:53

    شكرا للاخت خديجة على ردهاواود ان اقول لك بان معجم المنهل حرر بشراكة مع الوالد سهيل وابنه سماح وبمساهمة غير مباشرة من طرف ام سماح عايدة مطرجي ادريس وقد كان لي شرف النشر بمجلة الاداب والالتقاء بهذه العائلة الشامخة والمتواضعةفي بيروت …

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة