"الشأن الحزبي وصراع الأجيال"

"الشأن الحزبي وصراع الأجيال"
الأربعاء 29 يناير 2014 - 09:46

يعتبر الفعل السياسي أحد أهم أعمدة تدبير الشأن العام، اذ يشكل بنكا حيا للأطر والنخب السياسية القادرة على اقتحام المشهد السياسي، ومن ثمة اتخاذ قرارات قادرة على الرقي بالمستوى المعيشي للمواطنين، وذلك عبر بلورة سياسات قادرة على تطوير النسيج التنموي في شقيه الوطني والترابي.

لقد شهدت الحياة الانسانية عدة تغيرات ، كان المساهم الأول والأخير فيها هو الانسان، هذا الأخير الذي استطاع الانتقال بوضعيته المعيشة من منهج التحكم والتسلط والاستبداد الى خيار الديمقراطية والتي تعتبر المشاركة المواطنة في صناعة القرار السياسي من بين أهم مقوماتها، الأمر الذي شكل النواة الأولى لميلاد منظومة الأحزاب السياسية، باعتبارها مؤسسات لتأطير المواطنين تأطيرا يتماشى مع تطلعاتهم من جهة، ومع متطلبات التنمية للدولة في ارتباطها بالمحيط الدولي من جهة أخرى.

ان الحديث عن الأحزاب السياسية في هذا المقال، ليس من أجل التعريف بأدوارها، ولكن من أجل الوقوف على تحليل أهم معضلة تعترض تقدمها ومن ثمة قيامها بمهامها أحسن قيام، ويتعلق الأمر هنا بآفة صراع الأجيال السياسية.

لقد أبانت التجارب السياسية الدولية، على أن مسألة تدبير الشأن الحزبي يجب أن تتوارث جيلا بعد جيل، لا لشيء الا لأن كل جيل محكوم بخصوصيات زمانه ، ما مفاده أن تطلعات جيل الماضي ليست هي تطلعات جيل الحاضر وبطبيعة الحال لا يمكنها أن تكون مناسبة لجيل المستقبل، كل هذه التداخلات نجد بأن الدول التي قطعت أشواطا مهمة في مسألة التدبير الديمقراطي لمنظومة الأحزاب السياسية ، قد فطنت منذ زمن بعيد لهذا المشكل وقامت بمحاولة معالجته تدريجيا وذلك مغبة تجنب كارثة صراع الأجيال، وذلك من خلال اعتمادها لسياسية التخطيط السياسي المبني على وضوح الأهداف والنتائج مع احترام الخصوصية هذا من جهة، كما أنه وفي نفس الوقت قامت بخلق قنوات للتواصل السياسي المستمر الهادف مع الجيل المقبل، وذلك من خلال اهتمامها بالتواصل السياسي سواء من خلال تنظيمها لدورات تكوينية ، ندوات وأيام دراسية ، سواء في الأماكن العمومية المغلقة أو المفتوحة و حتى في الأحياء ، تعرف بمرجعيتها السياسية في انسجام مع المرجعية الوطنية، مما خلق مشاتل حية لأطر وكفاءات لم تجد بدا من ضرورة خوضها لغمار المنافسة السياسية عبر منظومة الأحزاب السياسية، كل هذه الاليات قد مكنت هاته المؤسسات من احترام تطلعات المواطنين جيلا بعد جيل ، هذا اذا ما علمنا بأن الجيل الذي يخلف الجيل الاخر يجد بين يديه مرجعا مهما يتجلى في أسلافه الذين يظلون بمثابة المرجع الحي للتاريخ السياسي ومن ثمة يساهمون في في تصحيح بعض الانحرافات التي يمكنها أن تعصف بالموروث التاريخي لأحزابها، وذلك بدون التدخل لا في توجيه أو تسيير دواليب الحزب احتراما لخصوصيات الجيل السياسي الوطنية والدولية.

ومن هذا المنطلق ، يمكننا القول بأن مجموعة من الأحزاب السياسية الدولية ، قد أبانت عن نجاعتها في مسألة تعاطيها مع مشكل صراع الأجيال السياسية، ما مرده الى حرصها الدائم على ضمان تطبيق مبادئ الديمقراطية الحزبية من خلال أعمال منطق التناوب السياسي جيلا بعد جيل، وعبره منطق الشفافية المقرون بمبدأي المساءلة والمحاسبة اللذين يجب أن تنبني عليهما اللعبة السياسية ، كل هذه المقومات الانف ذكرها نجد بأنها قد مهدت لميلاد أجيال سياسية تعتز بانتمائها الوطني، قادرة على التفاعل مع المشهد السياسي تفاعلا ساهم في الرقي بمسألة تدبير الشأن العام تدبيرا كان له الوقع الحسن على مسلسل تنميتها الاقتصادية والاجتماعية ، وبالتالي أصبحت تلقب بالدول المتقدمة، ومثالا يحتذى به من قبل الدول التواقة الى معانقة حلم الديمقراطية الحزبية.

لقد عمل المغرب، ومنذ حصوله على الاستقلال، على محاولة التأسيس لميلاد الممارسة الحزبية المواطنة، ما مرده الى الرغبة الملحة للدولة المغربية وعبرها الشعب المغربي للتعبئة جنبا الى جنب من أجل صنع مصير سياسي يقطع مع الممارسات الاستعمارية المجحفة ويشيد لميلاد رزنامة سياسية مغربية مائة بالمائة، وبالفعل فقد استطاعت بلادنا أن تحقق مجموعة من المكتسبات عبر منظومة الأحزاب السياسية ، انعكست ايجابا على عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلادنا، مكتسبات تم الوصول الى تحقيقها بمعية مناضلين سياسيين بصموا تاريخ جيلهم أمثال الزعيم علال الفاسي ، الا أن الأمر لم يسلم من مجموعة من النقائص التي لازالت ترخي بظلالها على الفعل الحزبي المغربي والتي تشكل معضلة صراع الأجيال أهمها، ما مفاده استمرار التداخل والتضاد بين جيل الماضي، الحاضر والمستقبل، ما أسفر عن ميلاد حلبة للمصارعة السياسية .

لازال الحقل السياسي المغربي، محكوما بمجموعة من العقليات الحزبية التي تأخذ من النهج البيروقراطي شرعة سياسية لها، ما مفاده أن مناصب القيادة السياسية تقتصر على أشخاص دون غيرهم، أشخاص بلغوا سن الشيخوخة السياسية لكنهم لازالوا يتحكمون في مصير جيل ولما لا جيلين ، فعن أي مردودية نبحث، وأي اصلاح سياسي نرجو، في ظل استمرار تجذر هذا السرطان السياسي الخطير الذي لم ينفع مع علاج الى الان، ما أدى الى احتضار الفعل السياسي ومن ثمة تنامي نسبة العزوف السياسي وخاصة في صفوف النساء والشباب، وحتى التشجيع الذي طال هاتين الفئتين من خلال اللائحتين الوطنيتين للشباب والنساء لم يأت أكله، لا لشيء الا لأن هذين المكسبين قد تم استغلالهما استغلالا بشعا من قبل شيوخ أحزابنا السياسية، اذ أصبحنا نعيش مفهوم الضيعة أو العائلة تحت قبة البرلمان، ما يصدق معه قول أنا وأخي على ابن عمي، فعن أية ديمقراطية حزبية نتحدث في غياب سافر لتطبيق منهاج التناوب الحزبي ان على مستوى مواقع القرار الحزبي، أو على مستوى التمثيلية داخل المؤسسة التشريعية بالخصوص، وبالتالي فمن يتحدث عن جيل الحاضر يمكنني اجابته بأنه غائب ومحكوم باختيارات جيل الماضي المتأسس على عقلية القطيع المبنية على الخنوع والانبطاح.

هاته السلبيات التي يلقبها جيلنا في شقه المنتفع من عطايا أسياده السياسيين أي جيل الماضي، بالتوجه السياسي للقيادة، وانا أقول لهم بأن المصلحة الشخصية قد أصبحت حاضرة بقوة في جيل الحاضر ، لا لشيء الا لأنه قد جعل نفسه محكوما بعقليات الماضي التي لم ولن تؤمن في يوم من الأيام بثقافة الحوار البناء والهادف، بحيث أن كل من يعترض مخططاتها يحمل لقب “المحروق سياسيا” باللغة العامية، كل هذه التصرفات المشينة لازالت تغلق الباب أمام كفاءات وطاقات شابة لها من الامكانات العلمية والمعرفية ما يمكنها للارتقاء بالمنظومة الحزبية لبلادنا الى أحسن الأحوال، وذلك عبر المساهمة في تطوير اليات التدبير السياسي وعبره تدبير الشأن العام الوطني والترابي.

ان صراع الأجيال ببلادنا، قد أصبح مرضا عضالا وجب استئصاله اذا ما أردنا مواصلة البناء الديمقراطي بطريقة سليمة، صراع لا زال يجهز بشكل لا فت للنظر على المردودية المنشودة من وراء الفعل الحزبي السياسي، والمحكوم في عمقه بإلزامية تكوين أطر بمقدورها اقتحام معترك العملية الانتخابية، وبإعداد برامج حزبية تمتاز بالواقعية والامكانات المتوفرة، ما مفاده تعبيد الطريق أمام المواطن من أجل الاهتمام أكثر بالفعل السياسي واقتحام منظومة الأحزاب السياسية ، مما سيتحقق معه لا محالة التفعيل الحقيقي والسليم لمبدأي المساءلة والمحاسبة المتضمنين في دستور 2011 ، واللذين من خلالهما سنستطيع القطع مع معطى العائلة السياسية وتعويضها بمنطق العائلة المناضلة والمواطنة.

ان الجيل الحزبي الذي نقصده في هذا المقال ، هم الأطر والكفاءات الوطنية الحاضرة ، وخاصة تلك التي تؤمن بأن التغيير السياسي لا يمكنه أن يتأتى الا من خلال دمقرطة المشهد السياسي، وذلك من خلال نهج سياسة اعادة بناء جسر العلاقة بين أبناء هذا الجيل، في أفق استرجاع ثقتهم في الفعل والممارسة السياسية البناءة، ومن ثمة القطع مع معطى جيل “الجهة الغالبة” الذي أصبح يؤثث ساحات أحزابنا السياسية ، في انتظار منصب بديوان وزير أو حتى أعطية من عطايا سماسرة ومرتزقة العمل السياسي.

ان الجيل السياسي الحالي، لا يبد وأن يسلم بأنه لا مناص من تسليم المشعل للجيل الحاضر ثم الجيل الذي يليه، ذلك أن مسألة التداول السياسي قد أصبحت تفرض نفسها وبإلحاح.

ان استعمالي لبعض المصطلحات ، لا يجب أن يفهم معها القارئ تشاؤم الكاتب، بل على العكس من ذلك، فلما أعطيت المثال بالقادة السياسيين واقتصرت على الزعيم علال الفاسي لوحده فلم يكن من أجل المغالاة ، ذلك أن هذا الأخير قد مارس النقذ الذاتي منذ القدم وبالتالي يمكننا اعتباره نموذجا صارخا لجيل الماضي الذي أبى الا أن يسلم المشعل للجيل الذي يليه.

ان مغرب العهد الجديد، لم يعد يقبل بكوادر سياسية مفبركة أو صورية، وانما ينادي باستنهاض همم الفاعلين السياسيين وتحمل مسؤوليتهم كاملة في التنقيب عن الأجيال الصاعدة وتأطيرهم ومن ثمة مواكبتهم مواكبة تضمن مشاركتهم المباشرة في تدبير الشأن العام.

أما ان الأوان يا ساستنا للترفع عن حب المسؤولية وفسح المجال أمام الشباب والنساء، ليقولو كلمتهم جيلا بعد جيل، أما ان الأوان للتأسيس لميلاد ميثاق أخلاقي بين الأحزاب السياسية ، قوامه القطع مع طامة الجمع بين مسؤوليات حزبية متعددة في يد شخص واحد، أما ان الأوان للقطع مع عار تجييش العقول الفارغة ضد كل المعارضين لسياسية القطيع ، هذا اذا ما علمنا بأن أحزابنا السياسية قد أصبحت تعيش أزمة أطر وتعج بأناس ليس بينهم وبين الفعل السياسي الا هاجس الاسترزاق.

ومن هذا المنطلق، يمكننا القول بأن مغرب الاستثناء الديمقراطي المبني على الحوار واحترام الحريات العامة، مغرب الأوراش التنموية الكبرى، قد أصبح يتطلع لأطر حزبية ذات مردودية ، ذلك أن الانتاج السياسي قد أصبح شرطا لازما من شروط الانخراط الحزبي كما هو الحال بالولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي فخير ما نختم به مقالنا هذا هو المقولة الشهيرة لوينستون تشرشل الذي قال: ” اننا لو تركنا الحاضر يصارع الماضي سيضيع المستقبل” .

Email : [email protected]

‫تعليقات الزوار

1
  • etudiants
    الأربعاء 29 يناير 2014 - 19:19

    dr el ouardi , nous sommes vos étudiants de la fac de droit souissi, et on apprécie votre analyse du contexte partisan, et vu que vous êtes au parti l'istiqlal, nous voyons qu'ils ne profitent pas de votre expertise malheureusement. Bon courage.

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 18

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز