سؤال الحضارات بين مظاهر النار والنور

سؤال الحضارات بين مظاهر النار والنور
الإثنين 4 ماي 2009 - 02:31

أولا:جدلية النار والنور في استقرار الحضارات


في عصرنا الذي يزخر بالتنوع والتسارع الثقافي والعلمي بشقيه النظري والتجريبي، وفي زمن عرفت فيه المدنية أوجا لا يكاد يصفها أو يضبطها الإنسان نفسه، والذي أجرى الله على يديه بروز اكتشافاتها وما واكبها من تنوعات تقنية ومباحث دقيقة وعميقة في شتى مناحي الحياة المادية والإشباعات الذاتية الجسدية خاصة! يطرح سؤال حول مراجعة حصيلة ما توصل إليه الإنسان من حيث هو كائن متميز بوجوده والغاية منه، وهو تساؤل ملح وفارض نفسه فرضا لا محيد عنه، كما أنه مؤرق لأولي النهى من أهل عصرنا، ألا وهو هل حققت البشرية بوسائلها المادية ومعطياتها الفكرية المحضة اطمئنانها المنشود وإشباعها المفقود، ووفت بما ادعته من حتمية الوصول إلى هذه النتيجة بالوثيرة التي انجرفت في متاهات دروبها وألوانها المادية والغرائزية الجسدية؟


إن المؤشرات في البورصات الفكرية وأسهمها الضعيفة من حيث قيمتها، كما أن الملاحظات على عالمنا المتفلت من أجهزة الرصد المستقبلي القريب بله البعيد، والمتسم بسرعة الاتصال والاستجواب وتقديم الحلول الجاهزة على آلات الحاسوب (الأنترنيت والويب) والهواتف المحمولة والأطباق الهوائية والمركبات الفضائية… كل ذلك لا يدل على إمكانية التوصل إلى السعادة المرجوة بهذه الوسائل الدونية بالنسبة إلى خصوصية الإنسان في تحصيل الاطمئنان، بل على العكس من ذلك هو الذي حصل له، إذ أصبح حبيسا وسجين صناديق من البلاستيك وإشعاعاتها المضرة بالأعصاب والأبصار بل بصحة النفس والروح والعقول، رغم ما يستفاد منها من معلومات سرعان ما تؤول إلى الأفول!


فعوض أن يلتفت الإنسان بالنظر إلى السماء كي يرى ما بها من بهاء وجمال، وهي مرصعة بالنجوم ومصممة بالبروج ذات الدلالات العقدية والتنفيسات الروحية والبصرية الفاسحة لحرية الإنسان عن قيد الأبدان وسجن الأكوان، أصبح حبيس التركيز الضيق ورهينة ما يرصده لنفسه من خلال هواه ومزاجه الفاسد، باثا كان أو مستقبلا على حد سواء، وذلك من خلال ما اصطلح عليه بالأقمار الصناعية التي كانت وليدة فترة الخمسينات وثمرة الدمار والخراب الذي أصاب الإنسان من جراء الحرب العالمية الثانية في عصرنا الحديث، فكانت هذه الأجهزة قد ابتدأت ببساطة الحجم وإرسال الذبذبات ثم تطورت إلى نقل الصور والأصوات والمعلومات، ومن يدري فقد تتحول بالتلاحق والتراتب يوما ما إلى نقل المشاهد والمشاهد بالزر في لحظة الاتصال على سرعة الضوء أو الصوت، وهذا ليس بغريب ولا مستبعد على مستوى الواقع والاعتقاد عندنا نحن المسلمين “يامعشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان” الآية


فلقد ورد في القرآن الكريم حوار سيدنا سليمان عليه السلام مع حاشيته من إنس وجن حول من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس في وقت قياسي فقال “عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين”


فكان هذا العفريت وجنسه من الجن يظن أن له السبق بحسب الطاقة والقوة التي أعطاها الله لهم في مجال الاتصال والانتقال والتحول البيولوجي والكيميائي والمعدني، حتى إنهم كما يذكر القرآن الكريم والأحاديث النبوية قد مهروا في هذه الصناعة التحويلية لذواتهم وللأشياء من حولهم وخاصة ماذكره القرآن الكريم عنهم من مجانسة الماء بالزجاج، لحد أن بلقيس “قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير”


إن هذا التقدم البيولوجي بالتشكل الذاتي عند الجن وكذا الفيزيوكيميائي المستند على مبدأ الصناعة التحويلية، وبالسرعة الملاحظة والمرتبطة بعالمهم وخصوصياته، له دلالاته من حيث ربطه بالتقدم الإنساني في حصرنا الحالي، والذي ربما جاء متأخرا عن عالم الجن في المجال ذاته، بل إن التقدم العلمي الحديث له صلة وثيقة بالتقدم الذي وصفه لنا القرآن الكريم فيما يخص عالم الجن والعفاريت، وخاصة في عهد داوود وسليمان عليهما السلام، وذلك لأن العنصر الجني من حيث بنيته المادية ناري إذ هو مخلوق من مارج من نار، وهو جانب متسام من أجزاء النار باعتبارها مادة حارقة وطاقة، ومن ثم كانت له خفة وسرعة في التحول والطيران والاتصال والانفصال وما إلى ذلك من الاحتمال.


وحينما نقارن هذا العالم بعالمنا نحن البشر نجد أن هناك تقاربا كبيرا بين مظاهر الحضارة الإنسية والجنية في هذا المضمار، إذ أسس الحضارة الحديثة بمفهومها الصناعي والتقني جلها إن لم نقل كلها، تستند على العنصر الناري من حيث مظاهر استعمالها وتوظيفها، وما كان يصطلح عليه عند الغربيين بعصر الأنوار فليس في حقيقة معناه سوى النسبة إلى وظيفة النار لا النور، لأن استعمال الآلة البخارية واكتشاف الكهرباء فيما بعد ثم المتفجرات وما ترتب عن ذلك من تلاحق في البروز والظهور لكمونات طاقية فوق الأرض وتحتها، وكذا من الهواء والشمس والماء، كل ذلك عبارة عن أشعة لنار كان قد وظفها وما يزال كائنات نارية بطبيعة خلقتها، اصطلح عليها الشرع بالجن أو العفاريت، ولهذا فالانبهار والوقوف الكلي عند الحضارة النارية المحضة يعتبر رجعية وتأخرا ذهنيا وفكريا عند الإنسان، كما أنه نزول بقيمة ذاته التي كرمه بها الله تعالى إلى ما تحت مصاف الجن الذي طالما لاحقه نوع سلبي منه اصطلح عليه القرآن الكريم بالشيطان، وذلك عبر العصور والأزمان لكي يوقع به في شراك أوهامه النارية، لغاية أن يفقده خاصيته النورية “استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون”


فقد يلاحظ أن جل الاكتشافات العلمية ذات الطبيعة النارية تبدو عند بدايات استغلالها لصالح الإنسان وفائدته، لكنه ما أن تطلع عليها الشمس وتدخل في حكم الضروريات الإنسانية حتى تأخذ في التحول إلى وسيلة بوار وخراب وهلاك، ربما يصبح أبديا لا يرتجى معه الانجبار أو الاستصلاح. “وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا…” طالما أن مستعملي هذه النار لم يوجهوا بالضابط النوري وهو العنصر في ذاته موصل للنار ومحدد لطبيعتها إيجابا أو سلبا، كما أنه العمدة في تأهيل الإنسان والجان معا لاستغلال هذه النار من أجل صلاح بقائه وسعادته، عوض أن تصبح سببا لفنائه وهلاكه الأبدي في الحال والمآل، “أفرأيتم النار التي تورون آنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن؟ نحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين، فسبح باسم ربك العظيم”


وإذا كانت حضارة النار قد تبدو من حيث الظاهر المعاصر طاغية على وجه الأرض وتكاد تحرق من عليها لتصله بما في باطنها، فإنه لا بد وأن تبقى حضارة النور قائمة ومتصدية وأشهر من نار على علم كما يقال في المثل لأنها مؤسسة على الحق الذي لولاه لما ظهرت النار أو تحددت خاصيتها ووظيفتها “قلنا يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم” صدق الله العظيم


وقد يبدو هذا التحدي ماثلا وعمليا في جلسة سليمان عليه السلام نفسه بعدما استعرض العفريت ما لديه من إمكانيات في مجال القوة والعنفوان والسرعة، فيقول الله تعالى حكاية عن شخص وصفه بالذي عنده علم من الكتاب “أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، فلما رآه مستقرا عنده قال: هذا من فضل ربي ليبلوني، آشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم”.


فالذي عنده علم من الكتاب كما ذهب إليه بعض المفسرين كان له علم بخاصية الإسم الأعظم، وهو مذهبنا في هذا التفسير، إذ أنه لا قوة أو طاقة يمكن لها أن تخترق الزمان والمكان تسخيرا بهذه السرعة إلا ما كان مؤسسا على قاعدة “كن فيكون” والتي بها تتكافأ الأزمنة حقيقة لا وهما إلكترونيا كما يذهبه إلى ذلك الفيزيائيون المعاصرون، وهذا التكافؤ لا يتأتى بالنار وإنما هو من تصريف النور الذي هو إلهي الأصل لا غير، وهو “الله نور السماوات والأرض…“


وهذا المقال يسعى بصحة البرهان المستنبط من القرآن واستفادة واستعداد الإنسان إلى التنبيه على قوة الإيمان والتوحيد لله عز وجل في العقيدة الإسلامية، وذلك بالدعوة للرجوع إلى مصدر حضارة النور الذي أضاءت به الأكوان وأشرقت الظلمات وتبددت سحائبها، فاستصبح به الإنسان من غير أفول أو نسيان أو احتراق بنار الجهل والطغيان، لأنه إذا لم يتم توجيه النار وضبطها بالنور أحرقت واحترقت بالغم والزور، وامتزج ظاهرها بباطنها، فلم يعد إذاك ضوء ولا مستضيء ولا نائم أو مستفيق.


إن عقيدة التوحيد علم على التجديد، وضمان للإنسانية من فتنة التعديد، حيث لا حقيقة للعدد في هذا المجال، إذ القلب في جوهره واحد ولا يقبل بالفطرة السليمة سوى الاعتقاد في الواحد الأحد الذي لا ند له ولا يتعدد، قد تقدس بكماله وجماله وهو هو في ذاته ووجوده وصفاته وأفعاله….



ثانيا:حضارة النور وخصوصية مصطلح التوحيد.


من أهم خصوصيات الأمة الإسلامية أنها أمة التوحيد، والذي يأخذ طابعا شموليا في كل مرافق وجودها وتصوراتها وعلى أساسه تنبني قمتها وقاعدتها حيث لا قمة ولا قاعدة وإنما الناس سواسية كأسنان المشط.


ولقد كان أول نداء نادى به الرسول صلى الله عليه وسلم حين أمره الله تعالى بالدعوة إليه هو توحيد الله قبل توحيد العباد، فكانت دعوته وهو مازال في مكة كلها مرتكزة على قوله “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا” “أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله…” الحديث[1]


فكانت هذه الكلمة هي أصل التوحيد، والتعبير الذي لا يقبل التأويل والنسخ والتعديل بل هو كلام محكم كل الإحكام جامع لكل ما يقتضيه التوحيد من معان ومضامين مانع لكل شوب أو تداخل في المفاهيم، وإنما هي كلمة تحمل قوة ما بعدها من قوة في النفي ودقة ما بعدها من دقة في الاستثناء ووضوحا ما بعده من وضوح في الإثبات، حيث لا ثابت إلا ما أثبتته هذه الكلمة ولا ذات تختص بصفة الألوهية إلا ذات الله سبحانه وتعالى.


إذن كانت هذه الكلمة التوحيدية القول الفصل في تحديد مستحق الألوهية وحولها تكونت العلوم والمعارف العقائدية بشتى أنواعها وشعبها وتأسست على إثرها مذاهب ومدارس عقلية وروحية وسلوكية، كل مذهب قد اغترف منها بحسب استعداده وطاقاته الفكرية والروحية وبحسب بعد نظره وعمق غوصه على استخلاص المعاني.


وهكذا أخذت المذاهب سواء كانت مذاهب فردية أو جماعية ذات طابع مدرسي تفرز أفكارا وتفسيرات لمعاني الكلمة ومستلزماتها، منها ذات الطابع التقريري المحض والتعبير الذوقي المنبعث عن الإيمان المبدئي بالعقيدة المعبر عنها، ومنها ذات الطابع الاستدلالي والأسلوب البرهاني ذي الطبيعة البحثية، يأخذ مرة صورة المعرفة من أجل المعرفة ومرة أخرى صورة جدلية هدفها الإقناع واتخاذ موقف الدحض والدفاع.


وأمام هذا التنوع المعرفي واتجاهاته المنهجية وأمام هذا التركيز الأساسي على مدلول الكلمة ومضامينها، أخذ يتكون ما سيصطلح عليه بعلم التوحيد بصفته – أي المصطلح – يعتبر جامعا لكل المذاهب الفكرية المتفرغة للكلمة ومستلزماتها وبصفته النعت الأساسي لعقيدة المسلمين ورأس علومهم، بحيث أن المصطلحات الأخرى التي سمي بها علم التوحيد لا تعطيه الخصوصية الدقيقة والضامنة كما يعطيه له مصطلح التوحيد. وذلك كعلم الكلام وعلم العقائد والنظر والاستدلال والفقه الأكبر وأصول الدين… إلخ.


فمصطلح علم التوحيد لا يوجد حوله خلاف من حيث مدلوله أو سبب تسميته لأنه من أساسيات الدين الإسلامي: ولأن أصل الأصول في الإسلام هو الإقرار بالألوهية لله الواحد الأحد الفرد الصمد بدون تشبيه ولا تمثيل في ذاته وصفاته وأفعاله. ومن أجل هذا المعتقد سمي العلم الذي يبحث في هذه العقيدة تقريرا واستدلالا بعلم التوحيد تسمية له بأهم أجزائه وهو إثبات الوحدانية لله تعالى في وجوده وذاته وصفاته وأفعاله.


وعلم التوحيد بهذا المصطلح أشمل من كل المصطلحات التي قيلت كمرادفات له، وذلك لأنه يجمع بين النظر والعرفان والسلوك وذوق الوجدان كما أنه يجمع بين الدفاع والإقناع وبين العقل والسماع.


ثالثا: التكامل الحضاري بين مقررات التوحيد والحماية الجدلية


ولربما يكون قد جانب الصواب كثير من العلماء والبحاث حينما يستعملون مرادفات لعلم التوحيد تحمل وإياه على قدم المساواة نفس المعنى الشمولي والدلالات التي يقتضيها هذا المصطلح.


فنجد النشار مثلا يقول “علم الكلام أو علم التوحيد أو علم أصول الدين، علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، وهذا العلم فيما أعتقد هو النتاج الخالص للمسلمين”[2] وبنفس الأسلوب يتحدث أبو ريدة فيقول “كان النظر في الدين بأحكامه وعقائده يسمى فقها ثم خصت الاعتقادات باسم الفقه الأكبر وخصت العمليات باسم الفقه وسميت مباحث الاعتقاديات باسم علم التوحيد أو الصفات تسمية للبحث بأشرف أجزائه، أو علم الكلام، لأن أشهر مسألة قام حولها الخلاف هي مسألة كلام الله، أو لأنه يورث قدرة على الكلام في الشرعيات كالمنطق في الفلسفيات”[3].وكثير هم البجاث الذين وضعوا علم الكلام مرادفا لعلم التوحيد دون الإشارة إلى تميز أحد المصطلحين عن الآخر بوجه من الوجوه، لكن حينما نعود إلى تعريفات المتقدمين من العلماء فإننا نجد لديهم دقة في تحديد المصطلح وخصوصياته أكثر مما عليه المعاصرون، بل إن بعض هؤلاء المتأخرين أضافوا إلى تعريفاتهم ما لم يقله المتقدمون، وذلك كما نجده عند النشار في النص السابق، بحيث قد أضاف إلى تعريف ابن خلدون مصطلحات أريد بها توسيع دائرة التعريف والتبيين لكن العكس هو الذي حصل بحيث أفقد المصطلح الذي قصده ابن خلدون خصوصيته ودقته، ومضمن النص الخلدوني كالتالي: “علم الكلام علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة، وسر هذه العقائد التوحيد، فلنقدم هنا لطيفة في برهان عقلي يكشف لنا عن التوحيد على أقرب الطرق والمآخذ ثم نرجح إلى تحقيق علمه وفيما ينظر ويشير إلى حدوثه في الملة وما دعا إلى وضعه”[4]


وحينما عرض ابن خلدون للتوحيد بعد تعريف علم الكلام وخصوصياته، أخذ مسلكا عقائديا ومعرفيا، خال من كل رائحة للجدل أو المناظرة، أو الحجاج، وإنما هو عرض معمق مقصود لذاته ومبرهن عليه بأدلة عقلية واستنتاجات علمية تعتمد على واقع النفس الإنسانية وقدراتها الإدراكية ومستوى حدودها في الاستدلال والبرهنة، وذلك من حيث تحديد مفهوم التوفيق والتوقيف، ثم بين بعد ذلك كيف تطور النظر في التوحيد من علم مقصود لذاته إلى علم ظرفي ومرحلي فرضته الوقائع والأحوال التي طرأت على منهج النظر والاستدلال كما يقول “إلا أنه عرض بعد ذلك خلاف في تفاصيل هذه العقائد أكثر مثارها من الآي المتشابهة، فدعا إلى الخصام والتناظر والاستدلال بالعقل زيادة إلى النقل، فحدث بذلك علم الكلام…


فموضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية بعد فرضها صحيحة من الشرع من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية فترفع البدع وتزول الشكوك والشبه من تلك العقائد”[5].


ورأي ابن خلدون هذا ليس إلا ملخصا لرأي سابقيه من المتخصصين في علم الكلام أو المؤرخين له والمعارضين لبعض قضاياه كابن تيمية مثلا، الذي يرفض بشدة اعتبار علم الكلام كمرادف لأصول الدين بل إنه حمل على المتكلمين حملة شعواء فيها نوع من المبالغة والإسراف في النقد كما سنرى في حينه.


وفي رأيي أن كلا طرفي قصد الأمور مستبعد في هذه المسألة، فلا الذين رأوا علم الكلام كمرادف تام لعلم التوحيد قد أصابوا الهدف ولا الذين حاولوا إقصاء علم الكلام عن تمثيله لعلم التوحيد كانوا موضوعيين وعلميين.


لكن بين هذين الاتجاهين في تحديد علم التوحيد من حيث احتواؤه لمصطلح علم الكلام أو عدمه كمرادف تام أو مخالف تام نجد موقفا وسطا موضوعيا يحدد وظيفة علم الكلام ودوره داخل دائرة علم التوحيد بمفهومه الواسع. وقد مثل هذا الموقف بصورة واضحة أبو حامد الغزالي في قوله: “فإذن علم الكلام صار من جملة الصناعات الواجبة على الكفاية حراسة لقلوب العوام عن تخيلات المبتدعة، وإنما حدث ذلك بحدوث البدعة، فليعلم المتكلم حده من الدين وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج، فإذا تجرد الحارس للحراسة لم يكن من جملة الحاج”[6]


وهذا الاعتبار الذي خصصه الغزالي لعلم الكلام ودور المتكلمين قد حذا ببعض المعاصرين إلى القول بأن “علماء الكلام أشبه بوزراء الداخلية في العصر الحاضر، مهمتهم المحافظة على الأمن العقلي الداخلي والمحافظة على النظام الداخلي للحضارة الناشئة”[7]


فالغزالي كان أدرى بواقع مصطلح علم الكلام وأبعاده، ولهذا فإنه بعدما أدرك خصوصيته وعدم مجاراته لشمولية علم التوحيد وغاياته ألف كتابا سماه “إلجام العوام عن علم الكلام” ولو كان الغزالي يفسر علم الكلام بعلم التوحيد كمرادف تام وكامل الأركان لما تجرأ على طرحه هذا والمتمثل في حظر علم الكلام على فئة عريضة من المسلمين، ولو فرضنا أن علم الكلام مرادف لعلم التوحيد فهذا يعني أن الغزالي يمنع علم التوحيد على العامة من المسلمين، وهذا ما لم يقصده، وإنما مقصوده شيء آخر وهو محاولته صرف العامة عن الدخول في مجادلات وشبهات ليس بمقدورهم فهم رموزها وإشاراتها، كما أنه ليس مطلوبا شرعا وجوب التدقيق فيها بصورة تفصيلية، وإن كان مطلوبا معرفة أصول التوحيد بصورة جملية لتثبيت العقيدة والاستقرار على أصولها.


إذن فعلم الكلام فرع لعلم التوحيد وليس مرادفا على سبيل المساواة أو التطابق، ولهذا فإن توظيفه في مباحث علم التوحيد يبقى ضروريا ومطلوبا لتوسيع دائرة المعرفة التوحيدية من جوانبها المتكاملة، إذ أن التوحيد في الإسلام له خصوصية الترابط بين العقيدة والسلوك والنظر والعمل، وأن الترقي في التصور يسير موازيا للترقي في السلوك والعمل الظاهري والباطني كنتيجة لذلك التصور العقدي، بحيث يصير المترقي في ميدان التوحيد إلى مستوى عقائدي راسخ وثابت في جوهر الشخصية المعتقدة به.


رابعا: فعالية علم التوحيد وتشعب مجالاته:


فإذا كانت العقيدة بصورتها اللغوية تعني الربط والشد وهذا آت من عقد يعقد حبلا أو شيئا آخر غيره، وإذا أمكننا تعريف العقيدة عقليا وتجريديا بأنها مجموعة قواعد أو تصورات معرفية يقف عندها الإنسان ويربط عليها عزمه ويبني عليها إرادته فتصير جزء أساسيا من كيانه تتميز به شخصيته وتنعكس عنه أفعاله الظاهرية، بحيث تكون العقيدة الملتزمة كقاعدة هي “المعرفة الباعثة للقدرة المنبعثة عن الإرادة”.


إذا كان هذا هو وصف العقيدة من حيث هي عقيدة مجردة، فإن عقيدة التوحيد بما تحمله من معرفة مقدسة ورفيعة، وبما يلتزمه الموحد من تكامل بين التصور والنظر والسلوك ستجعل شخصية المسلم شخصية التكيف مع المنظومة الكونية والتآلف مع الوجود من حيث هو جماد أو حيوان، من حيث هو عاقل أو غير عاقل. فالإنسان وليد إرادته وإرادته وليدة عقيدته، ولهذا التلازم في الارتباط الذي يميز العقيدة الإسلامية فقد كانت ظاهرة التذبذب في الحركة والعمل هي الطابع الغالب على سلوك المنافقين الذين لا عقيدة لهم تشد تصورهم وتثبته، كما يقول الله تعالى: “إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا، مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء”[8]


ومن هذه القاعدة الخاصة بالعقيدة أدرك المسلمون من خلال النصوص القرآنية والحديثة ومن خلال الملاحظات النفسية والسلوكية أن علم التوحيد من حيث هو علم ذو فعالية وانعكاس إيجابي على واقع الحياة العامة ينبغي أن يكون جامعا بين نوعين من أركان علم التوحيد وهما: توحيد الربوبية المحدد لصحة العقيدة والتصور، وتوحيد الألوهية الضابط للغاية المحورية من العمل والسلوك. وأن الموحد لن يصل إلى التوحيد بمفهومه الدقيق إلا إذا جمع بين هذين الركنين وترقى في سلمهما إلى أن يحصل على التوحيد الخالص والمطلوب شرعا، وهو الغاية القصوى والمقصد الابتدائي والنهائي للدعوة الإسلامية.


وفي هذا المضمار نجد ابن خلدون يقول: “وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة، وتلك الحال إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاما للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس من حزن وسرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات، ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة، قال صلى الله عليه وسلم “من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة…“[9]


وهذا المفهوم يغلب وروده عند الصوفية، ويسلم به الكثير من العلماء المختصين في الدراسات التوحيدية سواء من المتكلمين أو الفقهاء وغيرهم كما نجد تعبيرا جيدا عن خصوصيات علم التوحيد عند المسلمين يقول فيه ابن تيمية: “فالتحقيق بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء، يكون عن كشف علم الإلهية والتحقيق بالتوكل والتفويض والتسليم يكون عن كشف علم الربوبية وهو علم التدبير الساري في الأكوان كما قال عز وجل “إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون”. فإذا تحقق العبد لهذا المشهد ووفقه لذلك بحيث لا يحجبه هذا المشهد الأول فهو الفقيه في عبوديته. فإن هذين المشهدين عليهما مدار الدين فإن جميع مشاهد الرحمة واللطف والكرم والجمال داخل في مشهد الربوبية، ولهذا قيل، إن هذه الآية جمعت جميع أسرار القرآن “إياك نعبد وإياك نستعين” لأن أولها اقتضى عبادته بالأمر والنهي والمحبة والخوف والرجاء كما ذكرنا، وآخرها اقتضى عبوديته بالتفويض والتسليم وترك الاختيار وجميع العبوديات داخلة في ذلك”[10]


فإذن قد تبين لنا من خلال هذا التقسيم أن علم التوحيد ليس مجرد دراسة نظرية للعقيدة من حيث إنها تصور محض يخص الوجود الإلهي وتوحيده ذاتا وصفات وأفعالا، وإنما هو كملازم لهذا التصور معرفة وتجربة سلوكية ومعايشة وجدانية تخص العقل والشعور من حيث التصور والاعتقاد القلبي، كما أنه ذوق ذاتي صادق وصحيح يعيشه الموحد بحسب عمق تصوره ونموذج سلوكه الروحي المتعلق بالتوحيد، فتكون الاستنتاجات التي سيخلص بها الموحد بعد تجربته وصياغة مشاعره داخلة في إطار علم التوحيد ولها خصوصياتها التقريرية والبرهانية والذوقية، وهذه التقسيمات ليست ناتجة عن استدلالات عقلية محضة وإنما هي استدلالات نقلية قطعية، كما نجد مثلا في الحديث الصحيح عن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا”[11]، كما أن هذه التقسيمات مستخلصة من تجارب عملية خطاها العديد الوافر من المسلمين في مسيرتهم التوحيدية فعبروا من خلالها عن مفاهيم توحيدية من الواجب إدراجها في مجال علم التوحيد، وهذا يعني أن علم التوحيد يمثل أشمل المصطلحات المصاغة حول موضوع العقيدة تقريرا وبرهانا وأنه بمضمونه يشمل كل مرافق الحياة والوجود من تحديد التصور أو العمل المؤدي إلى توحيد الله التوحيد الخالص الذي هو أصل حضارة النور وضابطها بلا منازع.


“وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، حنفاء ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة وذلك دين القيمة”[12] صدق الله العظيم.


هوامش:


1رواه مسلم من حديث جابر في كتاب الإيمان.


2 علي سامي النشار: نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام دار المعارف ج 1 ص 54.


3 حسام الألوسي: دراسات في الفكر الفلسفي الإسلامي، ص 52.


4 ابن خلدون: المقدمة، مطبعة محمد عاطف ص 342.


5 نفس المصدر، ص 348.


6 الغزالي: إحياء علوم الدين. مكتبة محمد علي صبيح أولاده ج 1 ص 23.


7 حسن حنفي: التراث والتجديد دار التنوير للطباعة والنشر ط 1 ص 132.


8 سورة النساء آية 142.


9 ابن خلدون: المقدمة: ص 349.


10 ابن تيمية: مجموع فتاوى، مجلد 1: توحيد الألوهية ص 89-90.


11 رواه مسلم


12سورة البينة آية 5.

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 4

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية