مآل الانتقال الديمقراطي

مآل الانتقال الديمقراطي
الأربعاء 24 يونيو 2009 - 22:35

مآل الانتقال الديمقراطي بعد استيفاء ضروراته السياسية وانتفاء تمظهراته التوافقية



ملاحظات عامة حول مفهوم الانتقال الديمقراطي



لا يختلف اثنان في أن تناول مسألة الانتقال الديمقراطي، بالنقاش والتحليل، مرتبط بشكل عام بتحديد بعض المفاهيم النظرية الأساسية، باعتبارها مداخل ضرورية لرصد ملامح وتمظهرات هذه العملية السياسية التاريخية المعقدة التي من المفترض أنها ذات صيرورة ديمقراطية…. أيضا، ليس من السهل التصدي لمناقشة الانتقال الديمقراطي من دون استحضار سيرورات تجارب تاريخية أفضت إلى ديمقراطيات فعلية. فاستحضار مثل هذه التجارب كفيل بمساعدة كل مهتم في محاولته استجلاء تداعيات الانتقالات الديمقراطية على مستوى تطور المجتمعات البشرية وتشكيلاتها الاجتماعية من جهة، وكذا على مستوى صيرورة تشكل الكيانات السياسية-الوطنية لهذه المجتمعات من جهة أخرى؛ وهذا هو الأهم من كل انتقال ديمقراطي حقيقي.



قد يتمخض عن أي انتقال ديمقراطي فعلي، كما بينت العديد من التجارب التاريخية، إرساء الأسس المادية والسياسية لتشكل الدولة-الأمة، في أفق تحققها لاحقا كغاية عليا، باعتبارها تجسد ذلك الكيان الوطني الجامع في مرحلة متقدمة من مراحل تطور المجتمعات البشرية عبر التاريخ. هذا لا يعنى طبعا القفز على المراحل التاريخية برغبة ارادوية، وإنما القصد هنا أن يتمخض أي انتقال ديمقراطي فعلي عن سيرورة تاريخية مرحلية، في إطار من الدولة الوطنية الديمقراطية التي يفترض أن تكون هي هي إحدى الصيرورات المباشرة لأي انتقال ديمقراطي فعلي.



وإذا كان من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل العناصر/العوامل التي من شأنها التأثير على صيرورات الانتقال الديمقراطي، وأيضا التأثر بهذا الانتقال، وفقا لعلاقة جدلية تعكس التمايزات العينية والشروط التاريخية لتطور كل مجتمع بشري، فإنه ينبغي في اعتقادنا ربط مسألة الانتقال الديمقراطي بالعوامل الأساسية المميزة لكل بنية اجتماعية تاريخية، أي تحديدا ربط هذا الانتقال بالمستويات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية، لا بوصفها مستويات للتحليل والتوصيف ، بل باعتبارها مستويات تتشابك واقعيا وفي لحظات تاريخية في وحدة الأحداث الكبرى، أو قل في الانعطافات الكبرى.



إن التركيز على هذه المستويات الرئيسة لا يعني بتاتا إغفال ما يتفرع عنها من مستويات أخرى لا تقل أهمية عنها، من قبيل ما يتصل بالثقافي والديني والعرقي واللغوي والفلكلوري، الخ. فهذه المستويات الفرعية إنما تندرج، كعوامل مؤثرة وذات أهمية بالغة، ضمن ما يصطلح عليه في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية ب “البنية الفوقية” التي تتشعب كذلك إلى مستويات أخرى ذات صلة بمفهوم الدولة، أي تحديدا ما يرتبط منها بالقانوني والدستوري والمؤسساتي. ثم إن علاقة كل هذه العوامل الفرعية، فيما بينها، وفي تفاعلها بالعوامل الرئيسة المشار إليها، إنما يجري في إطار علاقة جدلية معقدة حد تعقد جماع البني الاجتماعية في مرحلة تاريخية معينة.



غير أنه لا بد من تجاوز ذلك التصور الماركسي الكلاسيكي القائم على تحدد البنية الفوقية انطلاقا مما يجري داخل البنية التحتية، أي تحديدا تحدد السياسي والإيديولوجي انطلاقا من الاقتصادي حيث توجد علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج والتناقضات بينهما.



لذا نرى من الأهمية بمكان الاستعانة بالمفهوم الغرامشي لهذه العلاقة الجدلية المعقدة، وتحديدا في مفهومه الكتلة الإيديولوجية التي هي كتلة غير متناسقة، بحيث أنها تتألف من ثلاث مستويات: العنصر الأول وهو الفلسفة باعتبارها مستوى أعلى يتسم بنوع من التماسك والانسجام وهي تعبر عن رؤية الطبقات السائدة في ما ينبغي أن تكون عليه الفئات المسودة، العنصر الثاني هو الحس المشترك الذي يجسد مجموع الأفكار المشتركة كما تراها الفئات السائدة والتي تندرج وفق منظورها لما هو وطني، أما العنصر الثالث والسفلي، من الكتلة الإيديولوجية، فهو الفلكلور الذي يتسم بنوع من التبعثر وهو يحيل أيضا الى كل ما هو سيء من الماضي/التراث.



تعمل إذن الطبقات السائدة على نشر (والحفاظ على) مجموعة من الأفكار التراثية، بحسب ما يقتضيه تعدد الفلكلور وبحسب اختلاف مقاصدها وغاياتها؛ لكن يبقى الهدف دائما هو إبقاء الطبقات المسودة الشعبية مبعثرة في تبعثر فلكلورها، وبالتالي الحيلولة دون تنظيمها على قاعدة برنامج حد أدنى يسمح لها بخلق رؤية خاصة بها، أي الحيلولة دون المساس بذلك الحس المشترك وبالتالي الحيلولة دون تكون حس وطني تقدمي يطرح مسألة الديمقراطية، في عمقها، بما هي آليات وقواعد الحكم الذي يجب أن يستمد من هذا الجمهور الفلكلوري في حال تحقق أي انتقال ديمقراطي.



لذا فان أي حديث عن عملية الانتقال الديمقراطي سيبقى متسما بنوع من التعقيد الذي يتجاوز ذلك الفهم الميكانيكي المبسط الذي استعمل، أو قل الذي وظف، لردح من الزمن في الساحة السياسية الوطنية، والذي كان يستمد أسسه مما يسمى “التجارب المقارنة”، ويعتمد في جهازه المفهومي على ما يسمى ” العدالة الانتقالية“.



فحينما نتصدى لمناقشة الانتقال، فإنما نحاول، بذلك، رصد مجموع التغيرات الكيفية التي تحدث في البنى السياسية والاقتصادية والإيديولوجية في المجتمع والدولة. يحصل عادة أن تتكثف مجموعة من التغيرات الكيفية، بشكل مفاجئ في لحظات تاريخية معينة، فتتمخض عنها تحولات نوعية في جماع البنى الاجتماعية للمجتمع والدولة معا.



إلا أن مثل هذه التحولات النوعية لا بد وأن تنجم عن أحداث تاريخية كبرى، تتمفصل في وحدة تحققها، كل العوامل السياسية والإيديولوجية والاقتصادية، كما أن من شأن تحقق هكذا تحولات نوعية أن يعطي للانتقال دفعة قوية، مما يمكنه في آخر المطاف، من اكتساب مضمونه الديمقراطي الذي لا بد وأن ينعكس على مستوى الشروط المعيشية لكافة الفئات المجتمعية، وعلى مستوى تطلعاتها، بما يتيح لكافة مكونات المجتمع الاطمئنان إلى المستقبل المشترك في إطار من الدولة الديمقراطية الوطنية.



بدون الوصول إلى هذه اللحظة التاريخية الحاسمة التي تتيح الانتقال من وضع سابق على الديمقراطية إلى وضع جديد تسود فيه الديمقراطية، في كل أبعادها، أو قل للتحديد، الانتقال من بنية اجتماعية متأخرة إلى بنية حداثية، تسود فيها العقلانية (حتى نقول العلمانية) كقيمة وكآلية لتدبير كل التناقضات المجتمعية، الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية؛ فبدون تحقق ذلك، لا يمكننا الجزم أن مجتمعا ما أنجز انتقالا ديمقراطيا فعليا.



إن الانتقال الديمقراطي، في حالة تحققه، لا بد له أن يمس المنطق الداخلي لاشتغال البنية الفوقية، وتحديدا مركزها السياسي، الشيء الذي سينعكس في المستويات القانونية والدستورية؛ وتبعا لذلك، فان الانتقال لا بد وأن ينعكس على طبيعة المؤسسات الدستورية القائمة، حيث ينتج عن ذلك تغيرات عميقة في جوهر وطبيعة ووظيفة النسق السياسي العام المؤطر للدولة والمجتمع. فمثل هذه التغيرات لا بد وأن تنطوي على إمكانيات القطع، على المستوى الفكري/الثقافي مع رواسب الماضي، مما يسهل إطلاق ديناميات فكرية وثقافية تنويرية توازي مجمل التغيرات السياسية والاقتصادية المستجدة في البنية الاجتماعية لما بعد الانتقال.



ما الفائدة، إذن، من تحقق “الانتقال الديمقراطي” إن لم يكن له أثر يصب في مصلحة ورقي الإنسان الذي يفترض أن يكون، أولا وأخيرا، محور وهدف أي انتقال إلى الديمقراطية، وليس فقط وسيلة لانجاز هكذا انتقال، وإلا فان الانتقال هنا سيكون مجرد انتقال فئات معينة على حساب فئات أخرى. إن في طرحنا لهذه المسألة استحضار لما آل إليه الوضع العام للإنسان في معظم دول العالم المستعمرة والتي أنجزت استقلالات شكلية، حيث ضل فيها الإنسان دون وضع اعتباري، بمعنى أن الهدف الأسمى من تلك الانجازات التحررية لم يكن تقدم ورقي وتحرر الانسان الذي كان فقط وسيلة في تحقق تلك الاستقلالات.



فنحن، بهذا الاستحضار، لا نتغيى الانحراف عن هدفنا المركزي الذي هو تحليل ومناقشة الانتقال الديمقراطي، بل نود الإشارة، ولو بشكل وجيز، إلى أن الوضع الراهن المأزوم الذي أضحى يعيشه الإنسان في الدول التي لم تحقق بعد الديمقراطية، إنما يرجع في أصوله إلى المأزق الطبقي التاريخي لحركات التحرر الوطني التي لم تعمل على تلازم المسألة الاجتماعية، بما لها من بعد طبقي، والمسألة الوطنية، في برامجها السياسية التي دفعت بعموم الفئات المجتمعية للانخراط في المعركة الوطنية، من دون أي أجندات اجتماعية واضحة.



هذا نقاش طويل لا يسع المقام هنا للخوض فيه؛ غير أنه وبسبب من تغييب ذلك التلازم، من طرف القوى الإقطاعية والبرجوازية الهجينة المهيمنة في الحركات الوطنية تاريخية، صار الإنسان في هذه البلدان يعيش أزمات معقدة على عهد الاستقلالات الوطنية الشكلية.



تمفصل الضرورات “الوطنية” على المستجدات العولمية في إعمال الانتقال الديمقراطي



إن الكتابات والمساهمات، سواء الفكرية منها أم السياسية، التي واكبت تلك الفترة التوافقية التدبيرية المرحلية اعتمدت في كثير من الأحيان على مقولات سياسية وحقوقية تم استنباتها في الساحة الوطنية، اعتمادا على مجموعة من التجارب المقارنة. لقد طرح استعمال مثل هذه المقولات، بشكل مفرط، مشاكل نظرية أعاقت إنتاج نوع من المعرفة الخاصة بالواقع المغربي، في تمفصله التاريخي على التحولات الكونية التي طرأت في بداية التسعينيات والتي أدت إلى تبوئ ثقافة حقوق الإنسان ومسألة الديمقراطية صدارة الأولويات في الأجندات الدولية والوطنية لأهداف رأسمالية إستراتيجية ليسنا بصدد الخوض فيها في هذا المقام.



هذا التمفصل، بين الضرورات السياسية الوطنية، بما هي ضرورات تأمين انتقال سلس للحكم على مستوى المؤسسة الملكية من جهة، وضرورات انخراط يسار “الحركة الوطنية” في السلطة، بعد التحول السياسي والإيديولوجي الذي عرفه الاتحاد الاشتراكي في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975 من جهة أخرى، وبين المستجدات الكونية – التي هي بطبيعتها رأسمالية امبريالية انكشفت في شكل تاريخي هو بالذات العولمة – هو الذي أضفى على ما أسميناه “الفترة التوافقية التدبيرية المرحلية” طابع “الانتقال الديمقراطي”، بحمولاته الجاهزة التي أسقطت بشكل تعسفي على التجربة المغربية التي لم تستطع، بسبب من ذلك الإسقاط التعسفي، أن تنتج مفاهيمها المعرفية الخاصة بها. مما أدى بها إلى السقوط في التجريبية أحيانا والشعبوية أحيانا أخرى، بين من يدافع عن تلك التجربة إلى حد نعت خصومه بالعدمية والراديكالية، وبين من يشكك في التجربة برمتها.



سقط، إذن، كلا الطرفين في ممارسات ومقاربات سياسوية لم تخدم في أخر المطاف الانتقال الديمقراطي الفعلي الذي كانت إرهاصاته الأولية والفعلية قد أخذت تتشكل في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، نتيجة لتنامي النضالات الجماهيرية الديمقراطية التي بلغت ذروتها في 14 دجنبر 1990.



لذا نرى أنه من الأهمية المنهجية بمكان، أن نربط الحديث عن مسألة الانتقال الديمقراطي بالظروف الموضوعية والشروط التاريخية التي تميز تطور البنية الاجتماعية التي يجري فيها الإنتقال “الديمقراطي” في مرحلة تاريخية محددة. ما يستدعي أولا تحديد شروط تلك المرحلة التاريخية وآفاقها السياسية الممكنة، من خلال القيام بتشريح علمي مختلف الأبعاد لهذه البنية المركبة والمعقدة – في شقيها المجتمع والدولة – مع ضرورة الوعي التام بشروط وجودها وتطورها، الخاصين بها، في ظل النسق السياسي العام المؤطر لها، أو قل للدقة المؤطر لأزمة تطورها، في علاقة جدلية بالظروف التاريخية الفعلية المميزة لها.



اضافة الى ذلك لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التناقضات الداخلية والخارجية التي تفرزها مجريات الصراع السياسي والحراك الاجتماعي والتنوع الثقافي وما ينجم عنه من حساسيات وصراعات أفقية، في كل مرحلة معينة، وفق منطق واتجاه تطور الحركة التاريخية بشكل عام.



ذلك أن اتجاه الحركة التاريخية إنما يتحدد وفق منطق التطور الجدلي، انطلاقا من تحقيق تراكمات كيفية وصولا إلى انجاز قفزات نوعية، في لحظات تاريخية معينة، فيما يشبه قطائع فجائية تحمل في طياتها جديدا يحاول الخروج من رحم ذلك القديم الذي يتهاوى أمام عنفوان وقوة ذلك الجديد، وذلك بالرغم من مقاومته الشرسة – أي مقاومة ذلك القديم- لكل انبعاث ولكل تشكل للجديد.



في التجربة المغربية، نعتقد أن تراكمات كيفية تاريخية بالغة الأهمية، تستمد أصولها من نضالات وتضحيات الشعب المغربي، كان لها أن تستحيل انتقالا نوعيا إلى الديمقراطية لو أحسن التدبير السياسي لمرحلة ما سمى التناوب التوافقي. لكن، ما كان لحسن التدبير هذا أن يقع من دون بناء جبهة عريضة من القوى اليسارية والتقدمية والديمقراطية، بمختلف فصائلها، لإسناد تلك التجربة التاريخية كي لا تميل يمينا لصالح القوى المحافظة والمخزنية؛ فالتجربة المغربية كشفت على أن هذه القوى الأخيرة استرجعت كامل حيويتها وهيمنتها على تدبير الشأن العام الوطني، وذلك بعد زهاء عشر سنوات من انطلاقة مسلسل التناوب التوافقي.



لا يمكن، منهجيا، إذن مقاربة مسألة -أو قل إشكالية- الانتقال الديمقراطي، إلا على أساس من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإيديولوجية والتاريخية المذكورة سابقا، والتي تميز خصوصية الساحة السياسية المغربية، من حيث هي تعبير عن صراع فوقي حول المشروعية بين المؤسسة الملكية وبين يسار الحركة الوطنية تحديدا، بعيدا عن أنظار فئات واسعة من الشعب المغربي؛ يمكن، إذن، اعتبار هذه العوامل بمثابة مداخل محددة وضرورية، لفهم ما جري أثناء ما سمي “الانتقال الديمقراطي”، خصوصا على المستوى الشعبي الذي أبعد -أو قل أريد له أن يبتعد– عن مسار ذلك الصراع السياسي، وبالتالي عن مسار ذلك “التناوب التوافقي” لاحقا.



الانتقال الديمقراطي في ضل خصوصية التجربة المغربية



لقد كان من المفترض، أن يفضي مسلسل “التناوب التوافقي” في آخر المطاف، وباعتباره يشكل حلا تاريخيا وسطا لإشكالية الحكم بالمغرب بين المؤسسة الملكية و”الحركة الوطنية”، إلى وضع مقدمات بناء دولة ديمقراطية حديثة، دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات المنتخبة ديمقراطيا والتي تشتغل في إطار من فصل تام للسلط، حيث يتم تحديد صلاحيات هذه المؤسسات الدستورية الوطنية، طبقا لدستور تعاقدي يشكل مرجعية قانونية عليا لتوزيع هذه السلط؛ مما يجعل الدولة في خدمة المجتمع ويؤهلها لتلبية مطالبه الأساسية، المدنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، بما يضمن الحفاظ على حرية الرأي والإعلام، واستقلال القضاء ويضع قطيعة مع الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان بشكل لا تردد فيه.



لم تؤشر مجريات الأحداث السياسية، في الساحة الوطنية، الى ما يحيل الى انجاز انتقال ديمقراطي؛ ذلك أن الانتقال، في الحالة المغربية، كان غير ديمقراطيا في جوهره، بحيث جرى استغلال الحديث عن انتقال ديمقراطي مفترض، لإعادة إنتاج نفس أزمة تطور البنية الاجتماعية، التي هي تجسيد لأزمة تطور النظام السياسي السائد، بكل قواه الاجتماعية والسياسية الملتفة حوله.



في أزمة النظام السياسي هذه، تتبدى أيضا أزمة القوى الاشتراكية واليسارية والديمقراطية المعارضة لهذا النظام، بسبب من كون هذه القوى ضلت تاريخيا عاجزة عن انجاز تحالفات جبهوية وطنية عريضة من شأنها التعبير عن طموحات وآمال أوسع الفئات المجتمعية، بما فيها القوى المنتجةّ، بصفتها قوى قادرة على الدفع في اتجاه تحقيق الحد الأدنى من المطالب الديمقراطية. إن من شأن تأسيس جبهة وطنية عريضة أن يفتح أفاقا جديدة نحو تجاوز أزمة تطور هذه البنية الاجتماعية، بما يضمن عدم تجددها في أشكال تبدو كما لو أنها ديمقراطية وحداثية، ولكنها في العمق ليست سوى ذات حمولات ودلالات تقليدانية متخلفة ومعيقة لأي انتقال ديمقراطي فعلي؛ أي إعادة إنتاجها في أشكال من التحديث الذي لا يمس الجوهر “المخزني التقليداني”، بل يطال الشكل فقط.



أما التحديث، في نظرنا، فليس يعبر في شيء عن الدمقرطة. فلا تلازم، إذن، بينهما في البنية الاجتماعية المغربية التي هي، بطبيعتها، بنية كولونيالية بالمعنى الذي يسود فيها نمط الإنتاج الرأسمالي التبعي للنظام الرأسمالي العالمي، شأنها في ذلك شأن باقي البنى الاجتماعية في كل الدول التي ضلت تدور في فلك التبعية الاقتصادية للرأسمالية المركزية في أمريكا أم في أوروبا.



فالبورجوازيات المحلية في هذه البلدان عامة، وفي ظروف تاريخية معينة، قد تلجأ الى انجاز مستويات عليا من التحديث بفعل علاقاتها الاقتصادية التبعية للرأسمالية الغربية، كما يبدو من النموذج الخليجي؛ ورغم فإنها لا تملك القدرة على دمقرطة المجتمع الذي لا يزداد، في ظل هذه المفارقة التاريخية بين “التحديث” وبين الحداثة، إلا محافظة، بحيث يصير أكثر تشبثا بكل ما هو تقليداني ماضوي. يؤدي هذا التجدد في البنية الاجتماعية، على مستوى الشكل فقط، إلى تجدد نفس الأزمة البنيوية، أي إلى الإبقاء على مستوياتها السياسية والاقتصادية والإيديولوجية المتخلفة، أو قل تحديدا المتأخرة، هي هي.



في هذه الحالة، يَضل النظام السياسي السائد، وهو مستند الى قاعدته الاجتماعية والى مؤسساته الدستورية الفوقية، منغلقا على نفسه، وأيضا عاجزا عن الانفتاح على القوى الاجتماعية الديمقراطية ذات المصلحة في الانتقال الحقيقي. ومن ثم يضل النظام السياسي والدولة غير مؤهلين لاستيعاب وإدماج كل القوى الاجتماعية والسياسية التي تعتمل داخل المجتمع، وبالتالي غير قادرين على تلبية مطالبها الأساسية، في الديمقراطية والمواطنة والحقوق الاجتماعية، وكذا في التوزيع العادل للسلطة وللثروة الوطنية.



ففي ظل عدم تحقق الانتقال الديمقراطي الفعلي في المغرب، ضلت الدولة تحافظ على بنيتها وهيكلتها العامة، من حيث هي بنية طبقية ذات دور مركزي/محوري في تنظيم المجتمع سياسيا وإيديولوجيا واجتماعيا. لذا فان وظيفة الدولة الإستراتيجية، باعتبارها دولة استبداد ودولة أجهزة قمعية، هي الحفاظ على أهداف ومصالح الفئات المهيمنة فيها، والتي تتكشف، الى جانب أهداف أخرى، في ضبط التطور السياسي والمدني للمجتمع، في محاولة للتحكم في التوازنات السياسية العامة.



يزداد هذا الضبط حدة إذا تعلق الأمر بالمجتمع المدني المستقل الذي يعتمل على مستوى الطبقات الشعبية الكادحة، أو على مستوى الطبقة العاملة، حيث نجد الدولة تتوسل، في هذا الضبط المجتمعي، بكل الوسائل الإيديولوجية والأمنية، بما في ذلك ممارسة الإكراه الجسدي والنفسي والتضييق على الحريات العامة والفردية، سواء في شقها المدني أو السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الديني.



لقد توافرت جملة من الشروط التاريخية، الذاتية والموضوعية، لمجموع الفئات والقوى المسيطرة، على مستوى البناء الفوقي، بتعبير الأدبيات الماركسية الكلاسيكية، لتأبيد هيمنتها على مفاصل اقتصادية وسياسية حيوية، بحكم تموقعها داخل جهاز الدولة. وقد سعت تلك الفئات، تاريخيا، لإعادة إنتاج مواقعها وتموقعاتها، عبر محاولاتها إظهار مشاريعها ورؤاها المجتمعية بمظهر المشروع السياسي الوطني الجامع لكل الفئات والطبقات الاجتماعية.



إن سعي هذه القوى، في إظهار مشروعها باعتباره ذاك المشروع الوطني الجامع، ليس سوى محاولات إيديولوجية هدفها ضبط المجتمع السياسي والمدني الذي يفترض فيه أن يكون مستقلا عن الدولة؛ في حين، يدل واقع الحال على أن تلك القوى لا تحمل أي مشروع سياسي بديل في ماهية “الدولة الديمقراطية” التي تريدها في ظل استمرار نفس النظام السياسي وهيمنة مشروعه على الساحة السياسية الوطنية.



ثم إن تلك المحاولات الإيديولوجية ضرورية، في منطق ذلك التحالف المسيطر، باعتبارها خطوات قبلية يتم اللجوء إليها، قبل الإقدام على الضبط الأمني في مرحلة انكشاف ذلك الوهم الإيديولوجي لدى أوسع الفئات الشعبية، كما أكدته نتائج انتخابات شتنبر 2007.



غير أن مثل هذا الانكشاف لن يتحقق، أو قل لن يرفع هذا الوهم الإيديولوجي، دونما أدوار وتدخلات العناصر المثقفة العضوية الملتزمة، التي تنشط سواء من داخل بعض التنظيمات اليسارية والامازيغية الديمقراطية أو من خارج هذه التنظيمات، على اعتبار أن هناك عناصر، عضوية ملتزمة سياسيا ومستقلة تنظيميا، تناضل لتنزيل مشاريعها ورؤاها السياسية والثقافية من خارج الأحزاب بسبب من غياب الديمقراطية الفعلية وضبابية المشروع السياسي حتى في الأحزاب اليسارية الديمقراطية التي انتقلت الى مرحلة أضحت فيها مشاريعها متماهية مع المشروع السياسي المركزي المهيمن في الساحة السياسية، كما هو شأن أحزاب يسار “الحركة الوطنية” في فترة حكمها التوافقي.



ليس هدفنا أن نتوسع هنا في البحث عن أسباب عدم الالتزام التنظيمي الحزبي -وليس الالتزام السياسي– بالنسبة لمجموعة من الفعاليات اليسارية والامازيغية الديمقراطية المثقفة؛ ما نود إبرازه هو أن هذه العناصر، ومن خلال أدوارها الإعلامية والصحفية والتربوية والسياسية والتثقيفية، إنما تتولى مهام نقض الأطروحات الإيديولوجية السائدة، بشكل ربما أكثر تحررا وأكثر تجاوزا للسقوف التنظيمية الحزبية. وهذا يجعلها أكثر جرأة في ملامسة الإشكالات السياسية الحقيقية الت

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة