هذا أنا، وهذه مدينتي..

هذا أنا، وهذه مدينتي..
الأربعاء 24 يونيو 2009 - 23:35

الجزء الثاني من : هل تعرف الناظور يا سيدي؟

” لكنني بشوارعٍ خضراءَ كنتُ أحلمْ

وأطفالٍ يتراكضونَ فيها

ووجوهٍ كالشموسِ الضاحكات

كوجوهِ العاشقينَ بللها هَمْيُ المطرْ

وإذا أنا الذي لا أبكي إلا للجميلْ

أبكي للطرقات التائهات الآن

لا طفلَ يركض فيها

شعاعُ الشمسِ جافاها

والشفاه لا تنطقُ فيها … ”

أيتها المدينةُ تبكي

في زواياها النساء

ويبصقُ الرِّجالُ حقداً على الأرصفة ،

والتحيةُ يلفظونها كالشتيمة . ”

[ المدار المغلق، جبرا إبراهيم جبرا، يوميات من عام الوباء، ص 21. 22. 23 ] .

بعض الأسئلة، مثل اللباس، تحمل نية التضليل حسب منطق كل شخص.. نفس الشيء ينسحب على بعض الحكم والأمثال التي حملنا الكبار على حفظها ونحن صغار لتتقرر في رؤوسنا الصغيرة كبدهيات لا يأتيها الباطل لا من أمام ولا من خلف ،ثم كبرنا وبتنا نرددها عن ظهر قلب دون أن يكلف معلمونا ، في المدرسة ، وفي عهد بوكماخ،لفتنا إلى مافيها من بهتان،أو شرحها حتى يتم إدراكها بشكل جيد .. الكثير من هذه الأمثال يضمر حمولة ايدولوجية تخدم مصالح بعض المجموعات التي تعمل جاهدة على تكريسها ،نحو:” السكوت حكمة “ ، فكيف بالله يسكت من تُهضَم حقوقه؟ وأي طاقة من الصبر قد يحتاجها من يبيت ليله بلا عشاء، محاطا في بيته بعدة أفواه تنتظر في انكسار لقمة واحدة ولا تجدها وغيرها يبيت في فراش وثير شبعان ريان.. أين العدل هنا؟؟؟

يقول الشاعر: أفي الحق أن البعض يشبع * بطنه وبطون الأكثرين تجوع؟!..

فهل هو مستساغ أن نقول لهؤلاء المعذبين في مدينتي: ” تحـــملـــوا”..

  يـــاه.. ما أخف الكلمة في اللسان، وما أثقلها في الميزان.

هل أحتاج لهذه الديباجة حتى أعترف لقلوبكم الطيبة بأن مدينتي الناظور غنية جدا ، لكن ما أكثرا لفقراء فيها..هم فقراء لكن لطفاء وظرفاء، وحين يقال لهم تحملوا يتحملون، ويقنعون بل ويؤمنون بأنهم يعيشون في المستنقع عرَضا في الدنيا فقط ، أما في الآخرة فلهم الجنة جزاء سكوتهم ، وصبرهم الجميل .

وهل أحتاج إلى هذا الكلام لأعترف لقلوبكم بأن الناظور مدينة تسكنني حتى النخاع، رغم كل شيءهي مدينة تسكنني,ولست أنا من يسكنها..آمنت دائما بأن المدن مثل الأعمار،فليس كل من عمر طويلا يكون قد عاش عمره..وإذا سُــئِــل فليكن السؤال كالتالي: كم عشت من عمرك لا كم عمرك.. الكثير منا يسكنون أمكنة ولا تسكنهم وهنا الفرق لأن المدن تترك أثرها على أهلها، وبهذا الأثر تتعر فهم .. طيب، من منا يستطيع أن يدخل حريقا فيخرج أبيض ناصعا؟!.. الأشياء تترك أثرها.. و كذلك بالنسبة للمدن..لكل مدينة رائحتها، هي آخرمايتركه الراحلون عندها كأمانة لديها، وهي ذات الرائحة التي تطالبهم بها حين يعودون، تفعل ذلك وبإلحاح.

إنها الناظور/ مدينتي ياسيدي، وأنا رائحتها فهل تعرف مدينتي المنسية؟.

سأهب نفسي أنك لا تعرف الناظور ياسيدي، لذا دعني آخذ بيدك لنتجول معا، ونتعرف أولا زواياها ،لأن في الزوايا خفايا  كما يقولون، ولن أبدأ الجولة معك إلا إذا أقسمت لي بأنك ستعود لزيارة مدينتي رغم ما قد يصدمك منها من صد أولا مبالاة ، وحتى رعونة بعض أهلها وصلفهم.

 وإذا أقسمت نبدأ جولتنا من حيث انتهينا المرة السابقة.

المشــهــد الرابــع

 

نسمع صوت المؤذن يعلن قرب صلاة المغرب، نقترب من مسجد الحــاج مصطــفى، نتحسس طريقنا، ولا نكاد نجد مجالا للمرور.. الباعة المتجولون انتشروا في كل مكان، كل منهم أخذ موقعه، عارضا بضاعته..وأمام المسجد تختلط الأصوات بين ذاكر يروم تجارة مع الله وبين أصوات تشبه الزعيق تُــجَــمِّـل البضاعة لحمل المشتري على الشراء..هنا المشتري لن يعدم طلبه أوحاجته ، كل شيء موجود ، من أصغر شيء إلى ما لا يخطر لك على بال.. إنه مرجان والسلام( بِِِـسِمَنْتِهِ= بنفسـه)، وحين يأخذ المصلون أماكنهم في صفوف متراصة، وفي خشوع يتوحدون وراء الإمام، الباعة لا يغادرون أماكنهم، ولا يلتحقون بنا..يقبعون حيث هم.. إنهم مسلمون بطريقتهم، لا يذرون البيع إثر المناداة على الصلاة، تجارتهم في الدنيا، ومن أجل الدنيا، وليس مع الله..يؤمنون ب: ” إلى ماكان عدودو ماكان عبودو” أما ما عند الله خير وأبقى فتلك بالنسبة لهم مجرد خرافة ربما.

وإذا انتهت الصلاة تعالت الأصوات من كل صوب وحدب،و تزيد حدتها، وحين يخرج المصلون ، ويختلطون بالباعة، تخال الأمرَ يتعلق بيوم الحشر.

والغريب أن هذا المنظر لا يثير المسؤولين أبدا,لا يحركون ساكنا إلا في المناسبات الدينية والوطنية، وفي ما عداها يتركون الحبل على الغارب معتبرين أن الأمر له صلة بماركة مغربية محضة إذ لا يمكن تغييرها البتة،ناهيك عمن يسترزق من هناك على حساب أمن المواطن.إنها مدينتي يا سيدي.

المشــهد الخــامــس

 

بعد صلاة المغرب تحلو الجلسة في مقاهي الناظور، إنها كثيرة، وتنبت كالطفيليات يوما بعد يوم،بعضُها ثــمــنُ كوب القهوة فيها مع إكرامية النادل هو مصروف اليوم لبعض الأسر في مدينتي..لا تستغرب إنها مدينتي الغنية جدا وأنا لم أغير رأيي ،لذا لا تتحسس،سيدي، جيبك، ولا تمد يدك فيه، احذر العقرب هناك..سأتولى الدفع عنك.

ونحن نرتشف قهوتنا المسائية في مقهى النخيل الأنيقة،غارقين في دردشة حول هموم الدنيا،وليس هموم الآخرة، )هذه لا مكان لها في المقاهي)،انتبه جليسي إلى أن المقهى لا تتوفر على تلفزة كغيرها من المقاهي التي تستقطب مشجعين مهووسين بكرة القدم مشاهدةً لا ممارسة .. هؤلاء فريقان : الأول يشجع ريال مدريد ،والثاني بارشلوني الهوى.. ويوم تنقل شاشات التلفزة هذه المباراة في بث مباشر تعيش الناظور كرنفالا حقيقيا ، ويسهر الشباب الليل كله على إيقاع ضربات كرة القدم تحولهم إلى حيوانات تلفزيونية بامتياز يصرخون، ويصفقون ، ويتندر بعضهم على بعض كلما سجل الفريق المحظي لأحدهم هدفا في شباك الخصم، خصمٍ ليس وراء البحار إنما يجلس قبالة أحدهم في ذات المقهى .. مساكين، هم مثل من يشرع مظلته هنا  في الناظور ليقي مطرا يسقط في شبه الجزيرة الأيبيرية.

لا أثر، هنا كذلك كما في بقية المقاهي الأخرى،لمن يقتحم عليك المكان، وينتشلك من عالمك الخاص ليسألك ما إذا كنت ترغب في سيجارة؛و ليس وحده بائع السجائر بالتقسيط من يصبح جزءً من ديكور المقهى في أماكن أخرى من مدينتي، معه نساء يحملن أطفالا رُضَّعا يَجُــلـن بين الطاولات متسولات بطرق حديثة، سحنات أكثرهن تشي ببقايا نساء منكسرات، ومخذولات غدربهن الرجل أو الزمن أو كلاهما معا.. في زوايا أخرى يجلس أطفال في عمر الورد على الأرض وينشغلون بمسح أحذية رواد المقهى متطلعين إلى الأرجل الكثيرة المتدلية تحت طاولات مهترئة ، فوقها كؤوس الشاي المنعنع، متوجة كملكات النحل، ومحتلة عرش ما يطلبه المستمعون، عفوا الرواد.. وبين هؤلاء وبائعي السجائر بالتقسيط، وماسحي الأحذية ينتقل النُّــدُل بنشاط عجيب، وينطون كقرود من طاولة لأخرى.

 لا شيء من ذلك كله في مقهى «النخيل”؛ قلت لصاحبي: “المقاهي، في مدينتي كالناس، معادن”.

المشــهــد الســادس

 

هل تعرف بأن أهل مدينتي أجوادٌ، يقرون الضيف ويكرمونه، إنهم كرماء بالفطرة يا سيدي أبا عن جد..مثلا في تمسمان تُمنح الخبز ومعه الأمان.. اليوم تغيرت بعض الذهنيات،والسلوكات، هذا صحيح ومفهوم أيضا بالنظر إلى صعوبة الحياة، وتعقد مناحيها، ولهذا صلة ربما بالتطور التكنولوجي الذي بات يشكل ذهنيات إنسان اليوم ،لقد تحول  معها إلى ما يشبه الآلة، صار أجوف من الداخل، ومجردا من العاطفة والإحساس..ومع ذلك لا زالت بعض الأسر في الناظور تعتبر إكرام الضيف من المقدسات ، وهي ليست مستعدة لتحيد عن هذا الطبع قيد أنملة..

 

ومع هذا أيضا، اعذرني ، سيدي، لأني لن أستضيفك في بيتي لا اليوم ولا غدا، ليس بخلا مني وشرفك، إنما خوفا عليك من أن تُــــصدم حين تكتشف بأني أسكن في ” باصو” أحد الأحياء المعروفة في المدينة.. بيتي هناك يا سيدي، عرشه فوق أرضية مزبلة، وسقفه   ليس حديدا، بل خضرا وسمكا، أما جوانبه فشرعة لكل السكارى ليلا..  أجل يا سيدي، بيتي محاط بسوق للخضر والسمك ، ونحن- ساكني حي باصو- غارقون في وحل من القاذورات، فلم نعد نعرف هل نحن بشر أم بقايا  بشر، أم مجرد ذباب ، وما يمضنا أكثر، ويحول رؤوسنا إلى قباب حارقة  هم أطفالنا الصغار،فأية تربة هذه التي يترعرعون فيها..

والطامة الكبرى أن هذه السوق مركونة وسط طريق رئيسية، ومزهوة بما تلفظه من نفايات وأزبال..حياتنا بسبب هذه السوق، وبسبب المسؤولين في مدينتي غدت قطعة من العذاب والله،نتحمل الضجيج والعجيج ليل نهار، ونساكن ذبابا أزرق منذ ما يقرب عشرين سنة..(لك أن تتخيل هذه المدة.)، نتعايش مع روائح كريهة تنخرنا من الداخل كما الأرضة مع الخشب.. ما أكثر المرات التي احتج فيها الأهالي والجيران، لكن لا حياة لمن تنادي.. جيراني المهاجرون أضربوا عن العودة لوطنهم الصغير منذ زمان, بيتهم الجميل صار مرتعا لبيع السمك.. رب البيت تأبط أكثر من مرة ملفا ملأه بصور فيلمية حية بواسطة كاميرا رقمية عن فظائع هذه السوق، ثم أخذ يجوب به المقرات بدء من زيارة السيد العامل لصاحب الجلالة على الإقليم، انتهاء بديوان المظالم.. لكن دون جدوى، وحين تعب المسكين تأبط ملفه وعاد إلى فرنسا مخذولا، ومكسورا.. هو يعود أحيانا، لكن دون أولاده.. 

هذه السوق وصمة عار في جبين المجلس البلدي، وفي جبين كل المجالس التي تعاقبت على مدينتي..هم يقولون إنها سوق مؤقتة، ومثلها كثير في الناظور، لكن صدقني ،سيدي، أن سوق باصو قائمة وثابتة، وستطفئ شمعتها العشرين قريبا، وهي مزودة بالكهرباء ليلا، أما من أين لها بالكهرباء فتلك حكاية أخرى. قل لي سيدي : أي مدينة يقبع فيها سوق وسط طريق رئيسية ( والله رئيسية) كوحش طيـــبــة الذي كان يقطع الطريق على المارة كما في الأسطورة..تعرف .. حبذا لوتُسجل  هذه السوق  في كتاب “غنيس” للأرقام القاسية، على الأقل نعوض” باصو” السنوات العجاف التي عانى منها أهله من جفاف قصور الرؤية لدى المسؤولين في مدينتي.

في أوقات الذروة يصبح “باصو” يعوي ويعوي ككلب مسعور،عربات الخضر بحميرها تصد الطريق على السيارات، والسائقون يطلقون العنان لصوت المنبه دون جدوى،أما صناديق السمك فتتموقع قبالة الطريق، يدير باعتها ظهورهم لما يقع كأن الأمر لا يعنيهم..وفلذات أكبادنا ، صحبة مرافقاتهم من مدارس الروض،يتحسسون طريقهم وسط زحمة لا يقوون على تحملها، هم يقطعون مسافة مشيا على الأقدام من أجل الوصول للسيارة التي تركن هناك بعيدا عن منازلهم ،هناك تنتظرهم لتعذر مرورها في مجال تحركها.. الطريق اغتصبها الباعة، والمسئولون إذا قيل لهم:” اُنظروا.. غيروا هذا المنكر” لووا رؤوسهم، ورأيناهم يربتون على أكتاف الباعة،وينظرون إلينا نحن ـ أصحاب الحق- شزرا وهم مستكبرون.

ابنتي يا سيدي،بت أخشى على مستقبلها بسبب هذه السوق الكارثة، تبدأصباحات أيام الآحاد بتقليد أصوات الباعة في السوق، وهي بدلا من أن تسمعنا في البيت ما تعلمته في الروض من سور القرآن الكريم، أو من أناشيد..بدلا من ذلك نسمعها تردد: ” وا باطاطا،.. وا بوقرونيس نْ بويافر..وا….”

سوق باصو نموذج واحد من نماذج الكوارث التي تعاني منها مدينة الناظور، وغيرها كثير كثير.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

“مدينتي!

أنت في عيوننا، فلا دَرَّ دَرُّ من يخذلك.

جراحك حتما ستندمل غدا،هي مثل “عود لقماري” لا يزيده الاحتراق إلا طيبا وعرفا،كذلك جراحك، ستتعرش في قلوب الأمناء ورودا ورياحين، وفي صدور الخونة سرطانات خبيثة حتى لا ينعموا بما نهبوا طويلا.

ستأتي أيام ، ويصبح أهلك رحماء بك، عشاقك كثر والله، أنت في عيونهم مشاعل، وفي صدورهم ضفاف جداول، وفي أيديهم قرنفلات ومعاول، القرنفل لكل من يهبك كنز الربيع ، والمعول لكل الرعاع من خفافيش الظلام.

[email protected]

 

أنقر هنا لقراءة الجزءالأول

‫تعليقات الزوار

1
  • محمد الاول
    الأربعاء 24 يونيو 2009 - 23:37

    “الصمت حكمة” “السكوت من ذهب” “الفم المسدود مايدخلوا دبان” وغيرها كثير، أمثال تعبر نهج وسياسة مقصودة ومتعمدة لتكميم أفواه الناس، ونشر فكر التخاذل وفلسفة “حيد على راسي…” والجميع يعرف تتمتها.
    سيدي أطلق لقلمك العنان، ودع حبره يسيل ليكشف عن كل مستور. وبمقالك هذا قد وضعت لبنة أو قد هدمت لبنة من هذا الجدار المضروب على الحقيقة، فلا تتوانى ولا تتلكا وامض قدما…
    تلميذكم المحب

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات