أنوال ومدرسة التحرر من أوهام الاستعمار

أنوال ومدرسة التحرر من أوهام الاستعمار
الجمعة 24 يوليوز 2009 - 05:03

بعد 88 سنة على المعركة التي كشفت عورة الاستعمار


في 21 من شهر يوليو من كل سنة تعود ذكرى انتصار معركة أنوال الشهيرة والمؤسسة لتاريخ الحروب التحريرية المعاصرة من الاستعمار الأوروبي. وتصادف ذكرى هذه السنة (2009) مرور 88 سنة على تلك المعركة التي شهدتها مرتفعات منطقة “تمسمان”، الموجودة قي إقليم الناضور الحالي، المقابلة لأيث ورياغر، في إقليم الحسيمة. ولهاتين المنطقتين تاريخ حافل في صناعة الحضارة والكرامة، عبر تاريخ المغرب من خلال سهل “انْكور” الذي يطلان عليه من الجانب الشرقي ومن الجانب الغربي على التوالي؛ لكن ما نريد التركيز عليه في هذه الورقة هو مكانة هذه المعركة محليا وعالميا في قلوب المناضلين ومنهجياتهم من أجل الانعتاق والتحرر، وتحقيق العدالة والكرامة لشعوبهم.


انطلقت هذه المعركة يوم 24 رمضان 1339 الموافق لـ 1 يونيو 1921، بدأت باسترجاع ثلة من المجاهدين لموقع الإسبان العسكري المعروف بـ”ادهار أوبران” إيذانا ببداية الحرب المغربية الإسبانية الثانية في القرن العشرين، بعد الحرب التي قادها الشريف موحند أمزيان في المناطق المحاذية لمدينة مليلة المحتلة ما بين 1908 و 1912. وبعد تحرير ادهار أوبران جاء دور تحرير موقع “إغريبن”، ليتم إحكام حصار معسكر “أنوال” الذي شكل مع الضلعين الآخرين مثلث انبعاث مغرب الكفاح والتحرر من جديد، لكي تضاف معارك هذا المثلث في التاريخ المعاصر إلى معركة الملوك الثلاث بوادي المخازن في العصر الحديث، التي حدثت في صيف سنة 1578.


كانت القوات الموجودة في معسكر أنوال تقدر بـأكثر من 20000 ألف عسكري بقيادة الجنرال فيرنانديز سيلفيستري، (F.Silvestre) الذي وعد صديقه الملك الإسباني الفونسو 13 بتحقيق النصر على الموروس، تعويضا له عن خسارة كوبا والفليبين في أواخر القرن المنصرم. لكن إرادة الريفيين المغاربة وإيمانهم بحق وطنهم في الحرية والكرامة جعلاهما يحققان على أرض الواقع ما قاله ابن الرومي منذ قرون:


“لي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى له غيري مالكا”؛ فانهزمت القوة الغاشمة وغطرسة الجنرال الذي وعد ملكه بأن يشرب الشاي في منزل محمد بن عبد الكريم الخطابي، ويحقق أمنية إسبانيا الاستعمارية باحتلال البر المقابل لحجرة النكور.


على كل حال لسنا هنا بصدد عرض وقائع هذه المعركة التاريخية التي أعادت المغرب إلى صناعة التاريخ: تاريخ التحرر من الاستعمار بصفة خاصة، فقد كتب عنها وحولها مئات المؤلفات والدراسات، توصيفا وتحليلا وتركيبا واستنتاجا وتوقعات، وخاصة من قبل الإسبان والفرنسيين والإنجليز والأمريكيين، وإنما سنحاول إبراز مكانة هذه المعركة وقائدها في وجدان المكافحين وفي خططهم التحريرية. وفي ذاكرتنا المشتركة نحن المغاربة، ونورد في النهاية تصريحا نادرا للأمير الخطابي يكشف فيه ما اعتبره سرا لهزيمته ورفاقه بعد أن لبوا نداء الوطن وهو في محنة.



أنوال والجواب على ضعف القيادة المركزية أو انحلالها


مما لا شك فيه أن انتصار أنوال والشاون والبيبان (المعارك الكبرى) حملت رسائل واضحة إلى الشعوب المستعمرة، تتلخص في أن الاستعمار يمكن أن يهزم. أما إذا استعرنا عبارة المفكر الجزائري مالك بن نبي فقد “برهن عبد الكريم على أن أمبراطورية استعمارية يمكن أن تخدش” (مذكرات شاهد القرن، ج 1، ص 224)، وأن قيادة الشعوب لا تتوقف على القيادة الرسمية فقط، بل يمكن أن تظهر قيادات من إرادة الشعب في الحرية والكرامة، ومن صلب محنة الوطن واستغاثته وهو يغتصب من الاستعمار، كحالة المغرب يوم ذاك، حيث أدى ضعف قيادته الرسمية إلى استباحة مجاله من قبل القوى الاستعمارية، وتكبيل سلطانه بما عرف بـ “معاهدة الحماية”.


أنوال حرر الشعوب من غول الاستعمار


وإحدى هذه الرسائل القوية أيضا التي خرجت من أنوال تتمثل في هزيمة ظاهرة الخوف التي صاحبت الغزو الاستعماري، والتحرر من وهم الاستعمار الذي قدم نفسه كقوة لا تقهر عبر عقود طويلة من الزمن؛ وقد انطلى هذا الوهم، كما نعلم، على شعوب كثيرة في قارة آسيا وإفريقيا. واستطاع المغاربة الريفيون أن يقدموا البرهان على أن القوة المادية التي يعتمدها الاستعمار يمكن أن تنهار أمام قوة الإيمان وميزان الأخلاق؛ وهذا ما عبر عنه الخطابي نفسه عندما سئل من قبل صحافي انكليزي في أبريل 1924 عن سر انتصاراته وحالة الريف من الضعف في العدد والعدة والموارد الاقتصادية على ما هو عليه؟ فجاء جواب الخطابي “إننا فعلا سيئو العدة وقليلو العدد بالمقارنة مع الإسبانيين لكن قوتنا الأخلاقية تعدل الفارق” (جريدة دايلي ميل الإنجليزية بتاريخ 24 أبريل 1924).


صدى رسائل أنوال في العالم


ووصل صدى رسائل أنوال، التي لا يسمح المقام بالإشارة إليها كلها، إلى مختلف أصقاع العالم بواسطة الصحافة الإنكليزية والأمريكية، وبصفة خاصة الصحافة الفرنسية ذات التوجه الاشتراكي والشيوعي كجريدة لومانيتي (L’ humanité)؛ ومن خلال هذه الصحف وصل إلى صحافة المجتمعات الأخرى، التي لم تكن تمتلك الوسائل المادية والتقنية للحصول على الخبر من مصادره، ثم تم تناقل أخبار تلك الانتصارات بين الجماعات والشعوب بواسطة الحكايات الشفوية والسماعية. ويشير الزعيم علال الفاسي في كتاب الحركات الاستقلالية إلى سمعة الخطابي التي ليس لها نظير عند الوطنيين في المشرق وتأثيره في خططهم الكفاحية. ولا غرو في ذلك فالنشيد الرسمي لحركة جهاد المغاربة الريفيين، هو من إبداع الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، ويقول مطلعه:


“في ثنايا العجاج والتحام السيوف


بينما الجو داج والمنايا تطـوف


يتهـادى نـسـيـم فيه أزكى السلام


نحو عبد الكريم الأميـر الـهـمـام


ريفنا كالعـريـن نحن فيه أسُــود،”


ووصل صدي إنجازات الخطابي، ليس في المجال الحربي فقط، بل إنجازاته في تجديد نظام الدولة أيضا، وفقا لرؤية إسلامية لا تتعارض ولا تقف ضد التطور العام للعلم وللحضارة الإنسانية. مما جعل القيادات الإسلامية في المشرق تقترحه لتولي منصب “خليفة المسلمين” عقب سقوط الخلافة في اسطنبول بتركيا (جريدة الأهرام المصرية، 25 فبراير 1925). لكن يبدو أن الأمير رفض هذا الإغراء بلباقة، لأنه لم يكن من طلاب السلطة، بل أنه نذر نفسه لصون قيم الحرية والكرامة والعدالة التي يؤول محصلها إلى تحقيق “المواطنة” بالمفهوم المعاصر للكلمة، وقيام دولة المؤسسات بدل دولة الأشخاص.


أنوال وعقيدة شعوب شمال إفريقيا التحررية من الاستعمار


أما على مستوى شمال إفريقيا فإن أنوال وانتصار البيبان، الواقع في بني زروال، على القوات الفرنسية وصداه القوي في فرنسا ولّد الوعي والتعاطف والفخر لدي العمال المغاربيين في فرنسا فأقاموا مظاهرات تلو مظاهرات للتضامن مع الريف، وتأسيس نواة “نجم شمال إفريقيا” في 24 دجنبر 1925 في باريس كأول عمل سياسي مشترك، في العصر الحديث، بين أبناء المغرب الكبير. هذا إضافة إلى تحدي الصحافة الأهلية (الوطنية) التونسية والجزائرية لسلطات القمع الفرنسية، حين راحت تتابع وتخبر قراءها مستعملة حيلا إعلامية مختلفة بما ينجزه المجاهدون في الريف، بل في كل المغرب. ونذكر على سبيل المثال المقالات القوية التي كانت جريدة ” إفريقيا” التونسية تظهر تعاطف التونسيين مع المغاربة الريفيين، وجريدة “المنتقد” الجزائرية التي كان يرأس تحريرها الإصلاحي الإسلامي عبد الحميد بن باديس، الذي سيصبح سنة 1931 رئيسا لجمعية العلماء المسلمين بالقطر الجزائري.


ونستخلص مما كان ينشر في الصحافة المغاربية حول انجازات الأمير الخطابي ورفاقه على أرض الواقع خلق دينامية جديدة في ابتكار مناهج غير تقليدية في محاربة الاستعمار، مما يعني أن رسائل الخطابي وصلت بقوة إلى الأقطار المغاربية، غير أن عمر المختار راح يترجمها عمليا في ليبيا إلى أن استشهد في 1 سبتمبر 1931 بإعدامه من قبل الاستعمار الإيطالي؛ ونسي الاستعمار أن عجلة التاريخ الإيجابي عندما تنطلق لا يوقفها التنكيل والقمع أو الإعدامات. وهاهي اليوم إيطاليا تقدم الاعتذار للشعب الليبي عن جرائمها الاستعمارية. وسيأتي حتما يوم يصحو فيه ضمير فرنسا وإسبانيا لتقدما الاعتذار للمغرب عن جرائمهما الاستعمارية، ويسقط التحجج بمعاهدة الحماية. وآنذاك فقط سيرتفع الحرج عن كثير من الدوائر والمرجعيات المغربية المرتبطة بتلك المعاهدة وتداعياتها السيئة على الذاكرة المشتركة للمغاربة. ومن ثمة سيزول الخوف من التاريخ الذي سيطر على مغرب الاستقلال ويتحرر لبناء مستقبله.


وبعد تحرر الخطابي من أسره الذي استمر 21 سنة ولجوئه إلى مصر سنة 1947 أعطى دفعة قوية لتسريع الكفاح الوطني وتفعيله على الأرض، بعد أن كان مجرد خطاب سياسي نظري استكانت إليه الأحزاب السياسية، واستعادة الاستقلال لكل شمال إفريقيا. وقد أشارت المحاضر الفرنسية الخاصة بتلك الفترة إلى الانشغال العميق للساسة الفرنسيين بدور الخطابي وتأثيره على تأسيس جيش تحرير لكل أقطار المغرب، فانتهجت طريق التفاهم مع الزعماء السياسيين المغاربيين، وحلت القضية التونسية ومنح المغرب استقلال مبتور من أطرافه لا نزال نعاني من تبعاته إلى اليوم. لكن تجب الإشارة إلى أن الخوف من عبد الكريم لم يكن من الاستعمار الفرنسي فقط، بل كان هناك خوف مماثل من قبل زعامات ما كان يسمى بالحركة الوطنية السياسية، التي قال أحد كتبتها أن الخطابي لم يكن يؤمن بالعمل الوطني، وهو يقصد بلا شك أنه لم يكن مقتنعا بالعمل السياسي كطريق وحيد للتحرر من نير الاستعمار؛ ومحمد الخامس لم يكن يؤمن من جهته بأن حلحلة المشكلة المغربية سيتم بالنضال السياسي فقط. ولذا يذكر عبد الهادي بوطالب، عضو الوفد المغربي الذي أرسلته فرنسا إلى مقابلة السلطان في منفاه لأخذ رأيه في الأحداث، أن محمد الخامس “لم يسألنا عن شيء بقدر ما سألنا عما إذا كانت المقاومة في المغرب ستستمر، وعما إذا كان الشعب المغربي لم يمل الكفاح” (نصف قرن في السياسة، ص 45) فهل الذي يؤمن بالكفاح المسلح ليس وطنيا؟ !!!


مهما يكن من أمر فإن الزعيم علال الفاسي ألمح في الحركات الاستقلالية إلى أن استقرار الخطابي في مصر والزخم الذي أعطاه للحركات الاستقلالية المغاربية دفع الاستعمار إلى إعادة كل حساباته الخاصة ببلدان شمال إفريقيا


أنوال: الشمس التي طاردت ظلام الاستعمار


وبالعودة إلى انتصارات أنوال وإخوانه نكتشف أن الاستعمار وصلته هو كذلك محتوى رسائلها، ونلحظ ذلك في محاضر مؤسسات الدولة الفرنسية، سواء تعلق الأمر بالتقارير التي كانت رفع إليها إبان حرب العشرينيات، أو بعد لجوء الخطابي إلى مصر سنة 1947، أو تعلق ببعض الدراسات والمؤلفات التي كانت تدافع عن منطق الاستعمار. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر كتاب بيير فونطان (Pierre FONTAINE) “عبد الكريم مصدر الثورة، أو التمرد في شمال إفريقيا” (َAbdel Karim, origine de la rébellion Nord Afrecaine) الذي صدر في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، الذي يرى فيه أنه ما دام الخطابي حرا فإن الوجود الفرنسي في مستعمراته محكوم عليه بالزوال. ويبدو أن عبارة الخطابي الشهيرة “أن الاستعمار انتهى ولا نحتاج إلا لدفنه” توقُّعٌ صادق؛ على أن المهرولين إلى حماية الاستعمار والذاهلين عن مقاصد التاريخ كانوا يرون فيها مجرد تخريف أو تنبؤ سحري لا يقوم على أساس من واقع الاستعمار المدجج بكل أنواع الأسلحة والتفوق المادي والتكنولوجي، لكن حدس الخطابي كان يتجاوب منع منطق التاريخ وليس مع مصالح المهرولين إلى تقديم فروض الطاعة للاستعمار.


أنوال مدرسة إستراتيجية لانتصار المنهزمين


وبالنسبة لتأثير انتصار أنوال وإخوانه على المستوى العالمي نكتفي في هذه الورقة بالإشارة إلى واقعتين: الواقعة الأولى تتعلق بحركة تحرير الفيتنام (VIETNAM) بقيادة هوشي منه، الذي استقى منهجه الثوري من منهجية الخطابي، فالرجل كان يتابع ويستوعب أساليب حرب العصابات الجديدة التي ابتكرها المجاهدون في الريف، حينما كان عاملا في فرنسا، مناضلا سياسيا في الحزب الشيوعي الفرنسي، طامحا في الوقت نفسه إلى استقلال وطنه عن الاستعمار الفرنسي. فكانت حرب الريف المدرسة التي أمدته بالمنهج والأسلوب العمليين لذلك، وعلمته أن التفوق المادي للاستعمار يتضاءل أمام الإيمان بعدالة قضيته إن عرف كيف يوظف ذلك الأيمان بإرادة الحق في استعادة الكرامة، وبرفض الاستسلام للقوة الغاشمة. فبعد أقل من ثلاثين سنة على معركة البيبان التي طردت الماريشال ليوطي (Lyautey) من المغرب، الذي كثيرا ما تباهى ومريدوه بأنه المؤسس للمغرب المعاصر، وقعت معركة دْيان بْيان فّو، سنة 1954، بقيادة هو شي منه الذي استلهم فيها خطط الخطابي الحربية، وأدت إلى هزيمة فرنسا في الفيتنام.


وها نحن نرى أن خيلاء انتصار الحلفاء على ألمانيا سنة 1945، وبخاصة خيلاء انجلترا وفرنسا، الدولتين الاستعماريتين التقليديتين، لم يحُل دون توسيع ذلك الخدش الذي أحدثه الخطابي في جسم الاستعمار الأوروبي، فانتشرت شعلة ثورات التحرير في كل مكان حل فيه الاستعمار؛ تلك الشعلة التي انطلقت من أنوال؛ ويبدو الأمر شبيها، من المنظور الفلسفي، بانتشار نار أسطورة بروميثيوس.


والواقعة الثانية أن انتصار مجاهدي أنوال، الذين لم يتجاوز عددهم ألف مقاتل على أكثر من 20000 عسكري إسباني وبالإمكانات اللوجستيكية المتواضعة، التي لا يمكن مقارنتها بأي شكل من الأشكال مع ما كان عند الإسبان، وما تلا ذلك من معارك لا تقل أهمية عن أنوال إلا في شهرتها ومرجعيتها، ونعني بصفة خاصة معركة الانسحاب من الشاون خريف 1924 ومعركة البيبان ضد فرنسا، بعد أن رأت كيف مرغ الوطنيون “شرف الاستعمار الأوروبي”، فأخذتها العزة بالإثم وقررت الانضمام إلى الحرب القذرة الإسبانية؛ وذلك في ربيع 1925، والتي كان من نتائجها طرد المارشال ليوطي من المغرب باكيا، بعد أن كان يتلذذ بسماع الثناء على إنجازاته العسكرية، أو ما سمي بسياسة التهدئة التي لقب بسببها بـ”ليوطي المغربي”(Lyautey le Marocain).


أنوال في مناهج الأكاديميات العسكرية


أدخلت الأكاديميات العسكرية منذ هذه اللحظة في برامج دراستها وتدريباتها موضوعا جديدا تحت عناوين مختلفة كالحرب غير النظامية، وحرب الدول لجماعات غير حكومية، والحرب الفوضوية…إلخ، لكنها تتفق جميعا عن نتائج هذا النوع من المواجهة الحربية، وهو “حرب انهزام المنتصرين”، التي تبلورت أكثر في حروب التحرر الوطني في كل من الجزائر وكوبا والفيتنام وأفغانستان، بغض النظر عن الإيديولوجيا التي قامت عليها، تلك الحروب. وفي السنوات الأخيرة كان انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000 نتيجة مباشرة لتلك الحرب، كما كانت حرب لبنان بين إسرائيل، التي ينظر إلى قوتها كما كان ينظر إلى قوات الاستعمار الأوروبي، وبين المقاومة الإسلامية بقيادة حزب الله في صيف 2006، والغزو الإسرائيلي لغزة أواخر 2008 وأوائل 2009 وعجز إسرائيل عن تحقيق أي نصر حقيقي فيهما، إلا ما كان من التدمير المادي والقتل العشوائي للمدنيين وتخريب البنيات التحتية، تجديدا لرسالة أنوال واستمرارا لفلسفته التحررية. فقد حققت المقاومة في لبنان وفي غزة ما لم تحققه جميع الحروب الرسمية بين الدول العربية وإسرائيل. ولذا نتفهم موقف بعض العرب الذي كان يتمنى نهاية المقاومة اللبنانية وإفناء حماس الفلسطينية في غزة. ونرجو ألا يفوتهم فهم محتوى رسائل معركتي لبنان وغزة كون “إسرائيل يمكن أن تهزم” كما هزم الاستعمار الغربي، وتهزم حاليا أمريكا في العراق وفي أفغانستان.


الأمير الخطابي يكشف سر فشل حرب الريف


ويبقى السؤال لما ذا انهزم الخطابي في مايو 1926، أبسبب التحالف الإسباني والفرنسي بذريعة حماية التفوق الاستعماري، أو لإنقاذ “شرف الاستعمار”، إن كان للاستعمار شرف، أو بسبب لجوء إسبانيا إلى قصف الريف بالسلاح الكيماوي بمساعد ألمانيا وتواطؤ فرنسا، وغض الطرف من قبل أمريكا، على الرغم من مخالفة استعمال السلاح الكيماوي؛ وهو الذي نسميه اليوم سلاح الدمار الشامل، للقانون الدولي، أم أن هناك أسبابا أخرى؟


مما لا شك فيه أن الأشياء والأسباب التي تمت الإشارة إليها تضافرت مجتمعة في إلحاق الهزيمة العسكرية بالخطابي ورفاقه الوطنيين. لكن للأمير الخطابي رأي أو حكم آخر في ذلك. وقد احتفظ بهذا الحكم لنفسه طيلة 30 سنة إلى أن أدلى به لمجلة “آخر ساعة” المصرية بتاريخ 28 مارس 1956 في تصريح كشف خلاله ما اعتبره السبب الحقيقي لـ”فشل حرب الريف” حسب تعبيره.


قال الخطابي لمجلة “آخر ساعة” : “سأكشف عن سر خطير، ولأول مرة في حياتي،.. أنا وحدي الذي يمكن أن يكشف سبب فشل حرب الريف.. وقد كنا من النصر قاب قوسين أو أدنى. لقد عشت وحدي أحمل هذا السر أكثر من ثلاثين عاما… لقد أدخل الفرنسيون في روع السلطان يوسف أنني أسعى إلى اغتصاب عرشه..وبدأ يحاربني ويحارب الفرسان الذين حاربوا تحت قيادتي. لكن بعد ثلاثين عاما أستطيع أن أقسم على أنني لم أكن أسعى إلا لتحرير شمال إفريقيا من الأجنبي المغتصب”. ويورد الخطابي ملخص محضر اجتماع وزير خارجية فرنسا يومذاك مع السلطان مولاي يوسف الذي قبل رغبة فرنسا إلى دعوة القبائل إلى محاربتنا، كما “قبل أن يذيع باسمه منشور يدعوا فيه كل من يقبض على الثائر عبد الكريم أو أخيه حيا أو ميتا بمكافأة تزيد على خمسة ملايين فرنك، وقبل أيضا تجنيد المغاربة لمحاربة هذا الثائر… وقبل أن تعلن فرنسا الحرب ضدنا”. ثم يخلص إلى سبب فشل الحرب التحريرية بقوله: “وبدأنا نحارب في أكثر من جبهة.. الإسبان المثخنين بحرابنا..الفرنسيين الذين تستروا وراء الدعوة للمحافظة على عرش السلطان.. قبائل المغاربة التي خرجت لتحاربنا عن جهل بحقيقة رسالتنا المقدسة.”


نعتقد أن سبب الفشل العسكري لحرب الريف الذي كشف عنه الخطابي في هذا التصريح يقدم تفسيرا لبعض عباراته الشهيرة، من مثل” “أن فريقا قليلا من سكان فاس والجزائر فهموني وأيدوني ووافقوا عل خطتي… لأنهم يعرفون أين هي مصلحة بلادنا الحقيقية.” ومن مثل “جئت قبل الأوان للقيام بمثل هذا العمل، ولكنني موقن بأن آمالي ستتحقق كلها عاجلا أو آجلا بحكم الحوادث وتقلبات الأحوال”؛ وصدق توقعه المستقبلي، فقد نجحت إستراتيجية أنوال على الرغم من الفشل العسكري الظرفي. في حين بقي أولئك الدين لم يتفاعلوا مع منطق تاريخ إرادة الشعوب في الحرية والكرامة والعدالة في خندق الخوف من أحداث التاريخ. أما شمس أنوال فستبقى شمسا مغربية بامتياز.

‫تعليقات الزوار

3
  • izem
    الجمعة 24 يوليوز 2009 - 05:09

    الاعمى فقط من يستطيع أن ينكر أن مشروع محمد بن عبد الكريم الخطابي هو مشروع تحرير الشعب الأمازيغي و توحيده في دولة واحدة تضم كل شمال أفريقيا , ولكن كما قال فانه جاء قبل الأوان و ربما نحتاج إلى قرون أخرى لنقتع بهذه الفكرة

  • حفيد يوسف بن تاشفين
    الجمعة 24 يوليوز 2009 - 05:05

    تحية تقدير و احترام, للريف الشامخ و رمزه ورمزنا محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه, و أعلى درجه في الجنة, أميين.
    دمتم يا أهل الريف أسودا, ما ينفعكم ينفعنا وما يضركم يضرنا.
    من إمضاء : الأسد حفيد الأسد إلى الأسود تحية تقدير و احترام, للريف الشامخ و رمزه ورمزنا محمد بن عبد الكريم الخطابي رحمة الله عليه, و أعلى درجه في الجنة, أميين.
    دمتم يا أهل الريف أسودا, ما ينفعكم ينفعنا وما يضركم يضرنا.
    من إمضاء : الأسد حفيد الأسد إلى الأسود

  • أسد الريف - هولاندا
    الجمعة 24 يوليوز 2009 - 05:07

    أولا أشكرهاسبريس الغراء على نشرها هذا الموضوع الرائع وأشكر الأخ علي الادريسي على مقاله الجيد في ذكرى 88 لمعركة انوال الخالدة التي شارك فيها جدي رحمه الله واستشهد بعد ذلك بشهرين في معركة اخرى قرب ادهار اباران. رحم الله جدي ورحم الله بطل الاسلام وأسد أجدير, أستاذ حرب العصابات في العصرالحديث محمد بن عبد الكريم الخطابي.
    الحصيلة:
    15.000 من الشهداء الريفيين و82760 قتيلا من المحتلين الاسبان والفرنسيين والمرتزقة من شتى بفاع العالم. تأمل بطل الاسلام, أسد الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي هذه الحصيلة وقال رحمه الله: (( لا ريب أن الذي ساعدنا على محاربة الأعداء سنوات لم تمر فيها لحظة دون موقعة أو معركة أوضحايا هو الايمان والايمان وحده. ان الايمان هو العامل الأساسي, وهو السلاح الأقوى في كل الحروب التحريرية. بل في كل عمل جدي )). أنظر ص 250 من كتاب (( عبد الكريم وحرب الريف )) لرفيقه في الكفاح محمد سلام أمزيان.
    وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن الله. صدق الله العظيم.
    فالأحرارمن بلاد المغرب من عرب وأمازيغ لا يهدأ لهم بال حتى تسترجع سبتة ومليلية وجزر الجعفرية والنكوروبادس وليلى وتندوف وأدرار وبشار. في انتظار بزوغ عبد الكريم الثاني لتحقيق ذلك أحيي أهل بلدي الشرفاء الذين لا يرضون الا بالشرف والعز والكرامة.
    أسد الريف من الأراضي المنخفضة.

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 17

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة