الأحزاب السياسية وضرورة مراجعة الذات

الأحزاب السياسية وضرورة مراجعة الذات
الإثنين 3 مارس 2014 - 16:39

بعد طول ذهول وغفلة عن البحث المعرفي بخصوص الشأن العام داخل المغرب في ما يشبه نوعا من التفاعل مع تداعيات الحراك التنظيمي الذي اعترى مجموعة من الأحزاب السياسية بعيد مرحلة ما سمي بالربيع العربي، انجذبت مؤخرا إلى مقال حديث للدكتور ميلود بلقاضي حول موضوع الأحزاب المغربية بين خياري “مأسسة التيارات” و”الانشقاق”، ولعلّ ما أثارني في ذلك المقال على وجه الخصوص هو استعمال كاتبه لمصطلح التيارات وكذا وضعه الأحزاب السياسية بين خيارين اثنين لا ثالث بينهما، هما مأسسة التيارات أو الانشقاق.

وللإنصاف لابد من الإشادة بما قدّمه ويقدّمه الدكتور بلقاضي للقراء من تميّز في التحليل الصحفي الجاد والمفيد مع التأكيد على حقيقة أنه لا يطرح أفكاره وتصوّره حول وضعية الأحزاب السياسية المغربية انطلاقا من نظرة سطحية أو متسرّعة، فهو العارف بعناصر العلوم السياسية عزّ المعرفة وهو المحيل على تطوّر المجال السياسي على مستوى العالم والمفسّر العقلاني لمنظومة المشهد السياسي والحزبي الذي يعتمد على عناصر علمية وأكاديمية محدّدة، لكنّني، وإن كنت لا أدعّي مضاهاته في الإحاطة بمجال العلوم السياسية على المستوى الأكاديمي، فقد وجدت نفسي مطالبا بتسجيل بعض التحفّظ الذي سأعزّزه بمجموعة من الملاحظات على ما جاء في مقاله من أفكار وتصوّرات انطلاقا من رصيدي المعرفي أولا وكذا من تجربتي المتواضعة بالحضور والمساهمة فكريا وعضويا في تطوّر الأحداث داخل حزب مغربي عرف حراكا تنظيميا استثنائيا، الشيء الذي خلق نوع من الرواج الصحفي غير المسبوق داخل المغرب وخارجه حيث كان لي الحظ أو سوء الحظ في ملامسة بعض التحوّلات التي عرفها ذلك الحزب والتي تدخل في ما اعتبره الكاتب توجّها نحو بروز مفهوم التيارات داخل الأحزاب السياسية المغربية.

يقول الدكتور ميلود بلقاضي إن جل المؤتمرات الحزبية التي انعقدت بعد الدستور الجديد ووفق مقتضيات القانون التنظيمي للأحزاب رقم 11-29 عرفت تصدعات داخلية ارتبطت في عمقها بمسالة ضعف الحكامة وتغييب الديمقراطية التشاركية، وقد أفرزت هذه التصدعات عدة مبادرات على شكل آليات عمل اتخذت صيغة تيارات داخل الأحزاب، وهنا أتدخّل لأوضّح أن الأحزاب التي عقدت مؤتمراتها في تلك الفترة هي أحزاب الاستقلال والعدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي واليسار الاشتراكي الموحد، فأما هذا الأخير فمعروف أنه كان دائما يعتمد أسلوب التنافس بين تيارات سياسية مختلفة في جميع محطّاته التنظيمية قبل الدستور الجديد، بل إن مفهوم التيارات وارد في أدبياته السياسية والفكرية بشكل غزير ومكثّف، وأما حزب العدالة والتنمية فقد شهد الجميع أنه مرّر مؤتمره العام بأسلوب خلية نحل، وهو لم يعرف وجود تيارات أو فصائل لحدّ الساعة، ويبقى حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي هما اللذان عرفا تصدّعات تنظيمية كبيرة. فإذا كان الدكتور بلقاضي يعتبر ما وقع من تصدّعات وارتجاجات في مؤتمر حزب الاستقلال وما تلاه من مبادرات تمرّدية من جهة واستئصالية من جهة أخرى هو ما يعني بالنسبة إليه توجّها إلى تبنّي الحزب لمفهوم التيارات، فإنني سأختلف معه كليّا، بل وسأعتبره قد جازف في استعمال ذلك المفهوم مثله مثل كثير من الكتاب والمحللين الذين ذهبوا في ذلك الاتجاه لكونهم غالبا ما كانوا يستنبطون أفكارهم بطريقة حصرية من دفاتر الأبحاث الجامعية والدروس النظرية دون ربطها مباشرة بما يجري في واقع الحال، وذلك راجع لعدة أسباب أسردها كالآتي:

1. من خلال مساهمتي في أطوار المؤتمر السادس عشر لحزب الاستقلال، لاحظت أن الفرقتين اللتين تشكّلتا قبيل المؤتمر لم تتشكّلا بناء على أرضية فكرية أو تنظيمية أصيلة بكل واحدة منهما وإنما تشكّلتا بصيغة مجموعتين بشريتين ملتفتين حول زعيم واحد وبغاية واحدة وضيقة هي انتخاب ذلك الزعيم أمينا عاما للحزب.

2. بالنسبة للمواضيع التي وقع فيها خلاف بين المجموعتين، كان من الواضح أن الاختلاف حولها راجع لأسباب ذاتية لا موضوعية لأنها لم تكن محطّ نقاشات مستفيضة على مستوى قواعد الحزب وفروعه قبل المؤتمر وإنما طفت على السطح غداة الدخول في الحسابات التنظيمية التي اعترت أطوار المؤتمر.

3. لو كانت الاختلافات في الموقف والآراء التي قسّمت مناضلي حزب الاستقلال إلى مجموعتين تلقائية ولو كانت مبنية على احتواء الاختلاف داخل الحزب لما بلغت درجة التناحر والحرب المعلنة التي لم تعد تقبل رجوعا عنها، فهي اختلافات تشبه حروب العصابات التي لا علاقة لها بما يمكن أن نعتبره بروزا للتيارات السياسية، كما أن تدبيرها سواء خلال المؤتمر أو بعده لم يكن يحمل من العقلانية والتشاركية إلا صفة الادّعاء بحملها.

4. إن تعامل الفرقتين اللتين اختلفتا في الحزب بمناسبة انتخاب الأمين العام أظهرتا بالواضح والملموس أن الهاجس التنظيمي كان يعتبر بالنسبة لهما غاية في حد ذاتها لا وسيلة يرجى منها تجديد النهج الذي يسير عليه أو تجديد فكره وبرامجه السياسية، وقد اتضحّ ذلك أكثر فيما بعد حينما وصلت الأمور إلى طرد أعضاء حزبيين كانوا إلى حد قريب يعتبرون من رموز الحزب ورواده الكبار.

5. وأخيرا، فإن مجموعة من المشاركين في أطوار المؤتمر السادس عشر لحزب الاستقلال لمحّوا إلى وجود أياد خفية من خارج الحزب هي التي تحكّمت في بلورة نتائجه وتعطيل محطاته أو تأجيلها لغايات محدّدة، وكمثال على ذلك، أستشهد بمسألة تأجيل انتخاب الأمين العام خلال المؤتمر، وهو التأجيل الذي كان معروفا عند كثير من الصحفيين ومحترفي الأخبار الرائجة قبل الاتفاق عليه من طرف بعض قيادات الحزب، ولكون القاعدة الحزبية هي آخر ما كان يتم وضعها في الحسبان ساعتها فقد تم تأجيل ذلك الانتخاب دون المصادقة عليه في القاعة العامة.

وأما بالنسبة لحالة حزب الاتحاد الاشتراكي، فإنها تبقى بالنسبة لي شبيهة لدرجة كبيرة بحالة حزب الاستقلال إذ أن نتائج مؤتمر الاتحاد الاشتراكي وكذلك ما واكبه من مستجدات كانت شبه مطابقة لما وصفته أعلاه وإن كانت هناك بعض الاختلافات الشكلية القليلة بينهما من قبيل التصريح بوجود بعض التيارات داخل الاتحاد الاشتراكي دون أن يتم تبنّيها عملّيا اللهم إلا من أجل الضغط على الطرف الآخر للفوز بمعركة التموقع في قمة هرم الحزب،

وهكذا، فإن الخلاصة العامة التي يمكنني تبنّيها بعد دراسة هذا الموضوع دراسة متمعّنة هي أنه لا وجود لمفهوم التيارات داخل معظم الأحزاب في المغرب بل هناك مجموعات تتصارع من أجل تحقيق مصالحها التي تتقاطع ودعمها لزعماء جاؤوا أو جيء بهم في زمن لم يعد يتقبل مفهوم الزعيم، وبالتالي فإن تلك الأحزاب تبقى مطالبة بمراجعة الذات مراجعة شاملة بعدما لم يعد ممكنا لها القيام بنقد ذاتي في ظل انصهارها في مناخ يتسّم بالفوضى والانشطارية.

‫تعليقات الزوار

1
  • debdi ali
    الثلاثاء 4 مارس 2014 - 09:45

    نظرة رصينة ودقيقة بالتوفيق ان شاء الله

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 1

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال