كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟

كيف نقاوم موانع الإبداع الفلسفي؟
الإثنين 7 شتنبر 2009 - 19:36

حاصل الكلام في الفصل الرابع من كتاب “الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” أن مسألة الإبداع الفلسفي حسب طه عبد الرحمن لها مراتب ثلاث ،هي:


الابتكار الذي هو الإبداع انطلاقا من القول الفلسفي الأجنبي، و الاختراع الذي هو الإبداع إنطلاقا من القول الطبيعي العربي، و الإنشاء الذي هو الإبداع الفلسفي انطلاقا من بلاغة القول العربي.


وكل نوع من هذه الأنواع الإبداعية الثلاثة لا ينال إلا بالتغلب على العوائق المعرفية التي ينتج عنها وقوع المتفلسف العربي في مجموعة من الاساطير بصدد القول الفلسفي .


المانع الذي يجب على الفيلسوف العربي صرفه حسب طه عبد الرحمن هي الدعوى القائلة باستقلالية العـقل عن اللغة، و التي تنتج عنها أسطورتين اثنتين:


أ-أسطورة حفظ اللفظ كله، حيث أن المتفلسف العربي يقوم بنقل كل لفظ من ألفاظ القول الفلسفي الأصلي بلفظ مقابل له في اللسان العربي، مما يتسبب في تطويل القول الفلسفي العربي و تقديس شكل القول الفلسفي الأصلي.


ب– أسطورة حفظ المضمون كله، حيث يؤدي المتفلسف العربي كل معنى معنى من معاني القول الفلسفي الأصلي بمعنى مقابل له في اللسان العربي من غير بقية، مع تقديم مقتضاه الدلالي و التداولي في أصله على المقتضى الدلالي و التداولي لمقابله العربي. مما دعا حسب الفيلسوف طه إلى تهويل القول الفلسفي العربي و تقديس مضمون القول الفلسفي الأصلي.


فكيف إذن يمكن صرف هـــذا المانـــع؟


الجواب الذي يقدمه فيلسوفــنا هــو أن المتفلسف العربي ينبغي أن يتحقق بأن القول الفلسفي ليس بيانا فحسب، بل هو أيضا «كتابـــة» و المقصود بالكتابة ها هنا ليس هو الإعلام عن الأفكار بواسطة خطوط مرئية معينــة ، و إنما هي العمل الذي يخرج منه نص مقروء في لغة طبيعية معينة، أي العمل الذي يصنع نصا و يجعله مقروءا( 130).


و لأن النص في اللسان العربي غيره في لسان غيره بسبب اختلاف بلاغة الأشكال باختلاف الألسن، لزم أن يأتي النص القول الفلسفي على مقتضى النصية العربية. فيكتب بأشكالها البلاغية الخاصة بها ، لا على مقتضى نصية غيرها حتى و لو كان نقلا عنها.


من هنا فان كتابية القول الفلسفي العربي تتوجب العمل بالمبدأ التالي: الأصل في القول الفلسفي أن يأتي الاستشكال و الاستدلال فيه على وفق الأشكال النصية للسان الذي يوضع بـــــــه هذا القول .


علاوة على أن هذا المبدأ من شأنه أن يدفع عن المتفلسف العربي الأسطورتيـــن اللتين عنده من اعتقاد لاستقلالية المضمون الفلسفي، و هما حسب فيلسوفنا المسلم« أسبقية المعنى » و« أسبقية النطق» و ذلك بتحققه من أمرين:


أ-التحديد المتبادل بين اللفظ و المعنى، فالألفاظ ليست أواني تفرغ فيها المعاني بل إن العقلانية الفلسفية لا تفارق البلاغة اللغوية.


ب– تجانس العلاقة البلاغية في المنطـــوق و المكتوب، أي (مجملا) أن العلاقة البلاغية بين المعنى و رسمه هي من جنس العلاقة البلاغية الموجودة بين هذا المعنى و النطق به، متحررا بذلك من الأسطورة التي تقوم في تقديم النطق على الرسم.


من هنا تصبح للمتفلسف العربي القدرة على وضع القول الفلسفي بالوجه الذي يجعل مضمونه يزدوج بشكله ازدواجا يظهر فيه تحديد الواحد منها للآخر من قانون بلاغة اللسان العربي، بحيث تنتفي في هــذا القول أسباب أسطورة الأسبقية، معنوية كانت أو نطقية (ص132).


لكن ماذا عن الاعتراض القائل بأن الأخذ بالأشكال البلاغية الذي ينبني عليه الإنشاء الفلسفي قد يضر ببرهانية القول الفلسفي.


جاوب صاحب” الحق العربي في الاختلاف الفلسفي” أن هذا الاعتراض على وجـــوه :


أ– إذا كان المقصود بالبرهان هو استنتاج نتائج من مقدمات يقينية، فلا وجود له في الفلسفة، لأن المقدمات الفلسفية، إما أن تكون قضايا مسلمة يكون فيها اليقين تقريري، أو قضايا مستنتجة تنتهي إلى مقدمات أولى، فيرجع الأمر إلى حالة التقرير الأولى.


ب-أما إذا كان المقصود بـه هو الإستنتاج المنطقي الضروري ولو كان من مقدمات غير يقينية، فلا وجود له هو الآخر في الفلسفة. لأن الإستنتاج المنطقي ينبني أصلا على صورة القضايا لا على مضامينها، في حين أن الأقوال الفلسفية ذات مضامين تؤثر في صورها بما يجعل الاستدلال منها لا يستقيم على أصول هذا الإستنتاج الصوري.


ج-أن القول الفلسفي قول مكتوب في لسان طبيعي، فتنطوي طرق الاستدلال المتبعة فيه على قدر من أسباب الإضمار و الاشتباه و المجاز التي نجدها في عموم الاستدلالات الطبيعية، إلا أن ذلك لا يضرها أبدا، لأن قرائن المقام وقرائن المقال تكفي في بيان المضمرات و التفريق بين الملتبسات و التوضيح للمجازات.


د-أن الأشكال البلاغية تتسع للاستشكالات و الاستدلالات الفلسفية بما لا تتسع لها الأشكال البرهانية ، لأن الاستشكال الفلسفي لا يقتضي جوابا فاصلا، مادام الأصل فيه بقاء فعل السؤال.ولا الاستدلال الفلسفي يقتضي حسابا آليا، مادام الأصل فيه بقاء فعل الاقناع .و الأشكال البرهانية إنما هي مجعولة للوصول إلى الجواب الفاصل الذي ينهى به فـعل السؤال كما هي مجعولة لإجراء الحساب الآلي الذي يرفع به فعل الإقناع( ص ص 132-133).


باختصار، لا إبداع في الفلسفة إلا إذا بنينا على الحقائق التالية :


– القول الفلسفي خطاب، و كل خطاب يضع في الاعتبار المتلقي .


– القول الفلسفي بيان، و كل بيان يضع في الاعتبار لسان المتلقي .


– القول الفلسفي كتابة، و كل كتابة تضع في الاعتبار بلاغة اللسان .


من تم نستطيع فتح باب الإبداع في ممارستنا الفلسفية.


وبعد أن تم الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الجواب عن سؤال كيفية مقاومة موانع الإبداع الفلسفي ، سيأتي في الفصل التالي ( الخامس) إلى النظر في كيفية تقويم اعوجاج الفلسفة العربية، الفلسفة المغربية نموذجا .


تابعــــونا ..


أحب أن أشكر كل من راسلني و شكـــر تقديمي لكتاب الفيلسوف طه عبد الرحمـــــن .


الحلقات السابقة :


السؤال المسؤول : مجاوزة طه عبد الرحمن لتاريخ السؤال الفلسفي!


الحوار والاختلاف ، خصائص وضوابط


الفلسفة بين ” الكونية “و ” القـومية “


كيف نقاوم أسطورة الفلسفة الخالصة؟


مدونة بدر الحمري


[email protected]

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة