درس الفلسفة بالمغرب... كل شيء إلا الفلسفة

درس الفلسفة بالمغرب... كل شيء إلا الفلسفة
الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:03

يقول الفيلسوف الكبير برتراند راسل: “الفلاسفة نتائج وأسباب، إنهم نتائج ظروفهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهم أسباب لتغييرها إن أسعفتهم الظروف”.


إن أول ما يمكن أن نستخلصه من هذه الفكرة هو أن الفلسفة، بشكل عام، ودرس الفلسفة، بشكل خاص، لم يعيشا بمنأى عن الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية سواء ميزها الصراع والتوتر أو التوافق والهدوء. و«القراءة المتأنية التجربة المغربية نموذجا» بينت أن الفلسفة كانت دائما تتغدى على الصراع أو على الأقل تتأثر به.


ومن أمثلة هذه الصراعات، على سبيل المثال لا الحصر، ذلك الصراع الإيديولوجي بين الفكر الرأسمالي والاشتراكي والذي كانت له تداعيات كبرى على التربية وبالخصوص على الاختيارات الرسمية المتعلقة بها بشكل عام وبدرس الفلسفة على نحو محدد، خصوصا أن هذا الأخير شكل المجال الخصب الذي احتضن هذا الصراع.


وإذا كانت القراءات التاريخية تذهب في مجملها إلى أن الدرس الفلسفي في المغرب كان ناجحا في الفترة الممتدة بين السبعينيات ومـنـتصف الـثـمانـيـنـيات مقابل تراجعه الآن -مع ما يلزم من تحفظ إزاء هذا الحكم – فإننا نتساءل: ما هي طبيعة التحولات والانتقالات النوعية التي مر منها درس الفلسفة في المغرب وشكلت نتائج مباشرة أو غير مباشرة لهذا الصراع؟ أو بعبارة أخرى: ما هي انعكاسات هذا الصراع على اختيارات المسؤولين في التربية والتعليم؟ وما مدى مصداقية النزعة المصرة على كشف أوجه التمايز بين درس الفلسفة بالأمس واليوم؟


إننا، في الواقع، أمام سيل من الأسئلة تصب جميعها في اتجاه التفكير في الدرس الفلسفي في الثانوي، من حيث هو مشهد توجهه وتعمل داخله مجموعة من الصراعات الكامنة نعتبرها مدخلا من بين مداخل أخرى ممكنة للانخراط في لحظة نقدية ضرورية لفك هذه الثنايا المعقدة لما نسميه اليوم بالخلل أو الأزمة، ونقصد بالتحديد أزمة درس الفلسفة.


هذه الأزمة التي يمكن تكثيف دلالاتها في الصراع التقليدي بين الفلسفة والمؤسسة. على أننا سنبني هذا الطرح من خلال رصد لحظات عطالة هذا الطرف أو ذاك أو سيادة أحدهما على الآخر.


اليوم، يصارع الدرس الفلسفي من أجل العودة إلى الفلسفة لأنه بات قريبا من كل شيء ويشبه كل شيء إلا الفلسفة وتصارع المؤسسة من أجل تدجين هذا الدرس ولجمه. فكثيرا ما وصفت الفلسفة بالمشاغبة والكائن الذي يصطاد في مياه الصراع… فهذا نيتشه أصبح فيلسوفا عظيما في تاريخ الفلسفة في ظل صراعه الكبير مع الأنساق والأصنام الفكرية والمرض… وهذا سقراط الحكيم يبدع في ظل الصراع القوي مع السلطة، صراع امتد حتى لحظة الموت البطولي… وهذا ابن رشد يصارع جهل وظلم المؤسسة الدينية التقليدية والسلطة الحاكمة…


ولم يكن درس الفلسفة في المغرب بعيدا عن السير على نفس الصراط الحارق فهو الذي عاش على إيقاع الاحتقان بين التيارات السلفية والتقدمية بعيد الاستقلال والتي تمخض عنها قرار التعريب الذي كان جسدا معاقا، لأن فعل التعريب، وهو لعمري قرار مراهق، لم يكن ناضجا بما يكفي ولم يوازه قرار آخر علمي أو أدبي بضرورة الترجمة.


بعد ذلك عاش الدرس الفلسفي في المغرب على إيقاع الصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي والذي كانت له في البداية آثار إيجابية لأنه جعل من الأستاذ مثقفا مناضلا وفاعلا مستعدا لجعل قسمه مجالا خصبا للتفكير النقدي، محطما بذلك الجدار الرابع بين الفصل والواقع، منزلا الفلسفة من السماء إلى الأرض. ولما كانت هذه الأرض عاقة وقاصرة بالمعنى الذي يعطيه كانط للقصور في مقال «ما التنوير»؟ فإن الفلسفة ومن هنا باتت توصف بالمادة المشاغبة لم تسلم من تحرشات المؤسسة – الدولة– (إغلاق معهد السوسيولوجيا + حذف شعبة الفلسفة واستبدالها بشعبة الدراسات الإسلامية…)


غالبا ما تذهب التحاليل إلى اعتبار الدرس الفلسفي في هذه المرحلة ناجحا، وهي تحليلات وقراءات مفعمة بالنوستالجيا والحنين الذي يمكن أن يجعلنا نغفل عن كثير من الاختلالات التي شابت الدرس الفلسفي آنذاك. فإن كان منبع الدرس الفلسفي حينها ومصبه هو الفلسفة فإنها كانت فلسفة بعينها وعندما ننتقي فلسفة بعينها –وكانت حينها الفلسفة الماركسية– تنسحب الفلسفة والتفكير الحر لحساب الإيديولوجيا. وهذه نحسبها علة من علل الدرس الفلسفي بالمغرب الذي كان ناجحا لأنه جسد مقولة راسل السابقة ولكنه لم يستطع إيجاد سبل العودة إلى الفلسفة أو لنقل إنه تأخر في العودة إلى الفلسفة قبل أن يفقدها الآن.


وبسقوط جدار برلين وانتصار المعسكر الرأسمالي وتغير خريطة القيم الكونية بأفول قيم الاشتراكية وبروز قيم الجودة والمردودية والفردانية وبالتالي ابتعاد درس الفلسفة عن الفلسفة مرة أخرى وارتباطه بمفاهيم اقتصاد السوق، سوسيولوجيا الشغل وصناعة التربية سيعرف الدرس الفلسفي تحولات كثيرة …


فكان ظهور المنهاج، ومنهاج الفلسفة بالتحديد ومسارات التحايل التي واكبته، تكريسا أو وجها من أوجه الصراع بين الفلسفة والمؤسسة وابتعاد الدرس عن الفلسفة واعتماد الكتب المدرسية المؤلفة من طرف اللجان الوزارية المشتركة (من 1996 إلى 1999)، بالإضافة إلى التغييرات المتوالية للاختيارات التربوية في مجال المضامين والمنهجيات «من الأهداف إلى الكفايات» مما نتجت عنه آثار جديدة على درس الفلسفة في اتجاه تسريع وتيرة مأسسته وتدجينه.


لقد كان المنهاج وسيلة لاستدماج أو استدخال قاموس السوق داخل الحقل التربوي كمفاهيم الانتاجية والجودة والفعالية والمشروع… ثم المراهنة على التلميذ الفرد قبل الإنسان «الفردانية» ومن تم النزعات الديداكتيكية «الأهداف والكفايات»، وبالتالي جعل درس الفلسفة مختبرا للتمهير عوض التفكير. ليصبح الدرس الفلسفي اليوم منشغلا بسؤال التعليم وخلق توافق بالقوة والفعل بين تصور المدرسين للفلسفة والتصور المؤسسي «الفلسفة والمؤسسة».


إن قياس درجة حرارة التناقض لا يبلغ درجة الاعتراض على سؤال الفائدة والحاجة إلى الفلسفة وإلى درس الفلسفة، لأن أيا من الطرفين لا ينكر أن الفلسفة حاملة للقيم التي هي بالتأكيد اليوم قيم إنسانية جديدة. ولكن السؤال ماذا تبقى من درس الفلسفة أما الحضور الوازن للمؤسسة … ضد من يتم التمرد اليوم؟


بقي فقط أن نشير إلى أن هذا الموضوع لا يدعي كشفه لكل مناطق التماس بين درس الفلسفة والمؤسسة وفكرة الصراع. ونكتفي هنا بطرح مجموعة من الأسئلة علها تكون مدخلا لنقاش موسع وأكثر مردودية: ألا يعتبر فشل درس الفلسفة اليوم –وليس ضروريا أن نقارنه بالأمس كزمن افتراضي للنجاح– فشلا لاختيارات معينة؟ أوليست هذه الأخيرة وليدة قيم معينة أو مرتبطة بها؟ وما مصدر القيم، أليس المجتمع؟ وعن أي مجتمع نتحدث اليوم؟ أليست أزمة درس الفلسفة في الحقيقة أزمة قيم وبالتالي أزمة مجتمع؟


أليس الركوض وراء النزعات البيداغوجوية وراء كل ذلك؟ ألا يشبه التقدم باندفاع نحوها، اليوم، الاندفاع نحو الإيديولوجيا بالأمس؟ كيف يمكن إذن التوفيق بين متطلبات درس الفلسفة من حرية ونقد وتفكير ومتطلبات المؤسسة؟


*أستاذ مادة الفلسفة وباحث في سيميائيات الصورة

‫تعليقات الزوار

9
  • أبو ياسر
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:19

    أتمنى ألا تكون طبيعة التعاليق غيرت من اختيارك في الكتابة من الأصالة والمعاصرة إلى الفلسفة

  • عادل الحسني
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:15

    العقلانية والحرية هما السمتان اللتان حوربتا على حياة الفلسفة المتمردة على النزعة الوثوقية للانسان بعد أوهم ينشأ عن بناء فكري يتصوره المفكر او المؤسسة يقينا ، كان موضوعا متميزا جدا ، أو حيلي بالكثير،غير أني فقط أود التنبيه على الدخول بمرح نيتشي في كتابتك فالمؤسسة طبعت فيك شيئا من صرامتها في تقديمالموضوع،شكرا

  • yoonnss
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:11

    فعلامادة الفلسفة هي الوحيدة التي يشعر فيها التلميد انه يكون قريبا من استخدام عقله ولو انه في غالب الاحيان ليس في المقررات الا تاريخ لفلسفة

  • محمد
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:17

    سررت بتواجدك هنا أستاذي وفي ذات الوقت فوجئت كنت في البداية أظن الأمر مجرد تشابه أسماء عندما قرأت مقالاتك السابقة عن السياسة وأصبت بنوع من الذهول من حجم الحقد الذي تكنه لحزب الأصالة والمعاصرة لأنني أذكر أنك كنت دائما تعلمنا المحبة والتسامح والآن تأكدت أنك أنت واراني مضطرا لأن أعيد قراءة مقالاتك لأنني ربما أسأت الفهم فحسين الشاب الأنيق المتسامح الذي ذاع صيته بين التلاميذ كداعية للتسامح والتآخي لايمكن أن يكون ذلك هو موقفه

  • أبراي
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:05

    فعلا أستاذي ما قلته صحيح وإن كنت أجد صعوبة في فهم كل ما قلته ولكن أفهم أنك تقصد أن الفلسفة تخلق مشكلة فهم لدى المتلقي . ولكن أصدقك القول أننا عندك تفهم ونرتاح ونحب المادة ونحبك أيضا لكن نطلب منك وعبر هسبرس أن تتعاون معنا أكثر فأنت تعرف أننا صحايا هذا التعليم الفاسد

  • أفلاطون
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:13

    أزمة درس الفلسفة تعود إلى أساتذة الفلسفة … جلهم أتى إلى التعليم صدفة.أحيي مرورك

  • hakima
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:07

    أكاد أجزم بأن أي بلد لا يمكن أن يحقق أهدافه في التنمية والازدهار بدون فلسفة حقيقية
    الفلسفة هي المعرفة والمعرفة لا تأتي بدون رهان على التفكير الحر والعقلاني
    الفلسفة تعلم الطالب مهارات التفكير والاستدلال والتجريد وكل هذا يعلم التركيز والتعمق في ماورائيات المعطيات التي تبدو سطحية
    بدون فلسفة لا مجال للنعيم بمكاسب ما يوجد في عقولنا المغيبة قسرا بمناهج تهدف لصياغة عقيلات حسب المقاس
    الفلسفة هي منهج في التفكير ،هي الغوص في الأعماق ،الفلسفة أسلوب روحاني بالمعنى العقلاني للكلمة ،الفلسفة هي فن الغوص في عمق بحار التفكير للخروج بلآليء المعاني ،لأن هذه الأخيرة لا توجد إلا في العمق
    غابت الفلسفة فعمت الغوغائية والفوضى والابتذال
    غابت الفلسفة فحضرت الكراهية
    والعنف والصراعات الثنائية
    الجوفاء
    ولمعاجة كل هذه الآفات لا بد من الاحتكام للعقل والطريق هي الفلسفة

  • ilyesali
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:09

    ررررررررررررائع

  • جلال الله ياسين
    الإثنين 9 أبريل 2012 - 13:54

    ان الفلسفسة كلمة حق و ان جار الزمان عليها يجب ان تاخذ بالقوة من العقول ’ صحيح ان العرب و الاسلاميين بالاخص لا يملكون فلسفة ضاربة في عمق التاريخ و لكنهم يملكون التاريخ ككل لو ععدنا الى الازمنة الغابرة لوجنا اننا نحن الفلاسفة الحقيقيون نعم منذ اول بشري وطا الارض ادم عليه السلام ثم …..الى المتكلم بالحق باذن الله اوليست الرسالة الاسلامية ضرب في الفلسفة اوليست القانون الذي حاول الكثيرون الوصول اليه الفلسففة هي الحكمة و ان الحكمة كل الحكمة في قول الله و الملائكة و الرل و النبي الامي و خلفه لا اقصد التمييز الطبقي و لا العرقي و لا الديني و انما اتكلم عن الحقيقة الايمانية
    .

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين