التطبيع: أعلى مراتب الوقاحة

التطبيع: أعلى مراتب الوقاحة
الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:03

يذهب صامويل هانتغتون في كتابه عن “أمريكا والآخر” إلى أنه في واقع العولمة يكثر عدد الأموات أو الأنفس المحتضرة ويتنامى هذا العدد بين النخب المثقفة والمفكرين ورجال الأعمال والخبراء والاكادميين ، فهم يمتلكون حسب تعبير والتر سكوت “الألقاب والنفوذ والثروة” وهم مع امتلاكهم لهذه المواصفات فهم في زمرة الأموات تناقصت روابطهم مع الأمة ومع قضاياها، وإذا عادوا من الترحال في البلاد الأجنبية، قلما يغمرهم شعور بالانتماء إلى “الوطن الأم“.


الشعور بالانتماء عند هؤلاء هو تضييق للمجال النفسي والثقافي والإدراكي الذي يتصورون أنهم يعانقونه، في الوقت الذي ليسوا فيه سوى كائنات فارغة، إذ الكائنات العولمية والمثقفون العولميون ليسوا سوى بالونات وفقاعات ملونة لا داخل لها ولا مضمون لها، إنها مملوءة لكن بالخواء، لأن الذي يملأ الإنسان هو محتواه الثقافي والفكري والعقائدي والقيمي ، الذي يملأ الإنسان هو طبقاته التاريخية التي تصله بسلسلة الآخرين الذين نقلوا جيناتهم الثقافية والروحية والقيمية لجسمه وكيانه ووجوده الحاضر. فعلى قدر ما يشتد اتصاله بهم تشتد مناعته وعلى قدر ضعف اتصاله بهم وانقطاعه عنهم تعصف به الذاريات.


ولا يتوقف تأثير ضعف الاتصال في الخواء الذي تنتفخ به هذه الكائنات العولمية، ولكن الأمر أدهى إذ يطال التنكر للذاكرة الجماعية وللتاريخ القومي وللقيم المشتركة، فيمثل هؤلاء المثقفون قمة الخيانة العظمى لهذا الرصيد الذي اجتهدت عقول وسواعد على بنائه والحفاظ عليه لآلاف السنين.وليس من حق أي كان أن يتنازل عنه أو يفرط فيه لأنه ملك جماعي للأمة.


لقد بات تنظيم منتديات ومؤتمرات ولقاءات متوسطية بميزانيات خيالية نموذجا يجمع هؤلاء المثقفين الأجداث وهاته الكائنات الميتة التي تختفي وراء شعارات التعاون والتسامح والتعاون شمال جنوب والانفتاح الجيوستراتيجي وبرامج التنمية المستدامة وغيرها من العناوين البراقة، هذه اللقاءات هي مناسبات تطبيعية بامتياز وتفريطية في إرث الأمة بامتياز بالغ، لأن الغاية في نهايتها هي التطبيع الثقافي والاقتصادي والوجودي مع “إسرائيل” الغاصبة، ولا تحتل دولة في هذه الملتقيات ما تحتله الدولة العسكرية المحتلة الغاصبة من أهمية وتغطية إعلامية، كما أن نجاح هذه التظاهرات رهين بحضور دولة واحدة ووحيدة وسط هذه الجموع الكرنفالية ،هي “دولة إسرائيل”. ومنظمو هذه اللقاءات واعون بالقضية وأهمية حضورها التطبيعي، ولهذا تجدهم يبررون ويسوغون ويدارون وينافقون ويتملقون، وفي الإعلام إذا ما ووجهوا بحملات تصعيد واتهام تجدهم يكذبون ويزورون.


ما ورد على لسان منظمي منتدى “ميدايز” وخصوصا نائب رئيس مؤسسة “أماديوس” لحلو المكي من أن دعوة رسمية وجهت لتسيبي ليفني زعيمة حزب كاديما يعبر عن وقاحة ما بعدها من وقاحة، ويؤكد المستوى الوضيع الذي انتهى إليه مشهدنا الثقافي والسياسي والحضاري في الجملة في تعاطيه مع قضايانا القومية التي هي جزء من قضايانا الوطنية،إذ كما لا يجوز في العقل ولا في الضمير الأخلاقي أن نقبل بطروحات أعداء وحدتنا الترابية أو نطبع معهم لا يجوز أن نقبل بمن كانوا وراء مجزرة غزة،أو لنقل محرقة غزة التي ذهب ضحيتها آلاف الأطفال والنساء والعجزة، تم إحراقهم بشتى أنواع الفوسفور والكيماوي والجرثومي، ومختلف الأسلحة المحظورة دوليا كما أثبت تقرير جولدستون الأخير.إن قضية فلسطين من قضايا المغاربة والعرب والمسلمين وكل الإنسانية التي تأبى الظلم وترفض استباحة الحرمات.


لقد كشف الخبراء الدوليون ومنهم الخبير والباحث البريطاني في الأسلحة النووية واليورانيوم “بيتر أير” أن “إسرائيل” استخدمت العديد من الأسلحة النووية بما فيها أسلحة اليورانيوم والقنابل القذرة وذلك لأول مرة في تاريخ الحرب على المنطقة.


وفي حديث له مع صحيفة “فلسطين تلجراف” اعتبر أير: أن “أبحاث الفحص المخبري لعينات أخذت من غزة تم التعامل معها في مختبر في ويلز، أظهرت في نتائجها أن “إسرائيل” استخدمت القنابل القذرة وهي أشد خطورة ونتائجها مدمرة على المدى البعيد بالإضافة إلى استخدام الفسفور الأبيض وأسلحة الدايم واليورانيوم وكلها مخالفة لاتفاقيات جنيف وللاتفاقيات الدولية.


إن منظمي منتدى ميدايز ومسؤولي معهد أماديوس الذي يرأسه إبراهيم الفاسي الفهري نجل وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي الطيب الفاسي الفهري بدون ذاكرة ، وأنى لهم الذاكرة وهم من الأنفس المحتضرة التي تحدث عنها هانتغتون، لم يدرسوا تاريخ المغرب ولا التاريخ العربي ولا الإسلامي ، لأنهم ببساطة درسوا بمدارس البعثات وجامعات أوربا وأمريكا فمن أين يعرفون تاريخ الآباء والأجداد بقيمه حتى يناضلوا عنه.


ومن أين لهم أن يعرفوا تاريخ فلسطين، بل ماذا تمثل لهم فلسطين والقدس ذاتها، إنهم كائنات فقدت كل حساسية لأنها ميتة“.


فقدت كل حساسية حتى حساسية المكان وجماليته وقدسيته ، وتبلد الحساسية يستتبع تبلد الفكر فتتصور هذه الكائنات الشائهة أن غيرها يعاني من نفس العطب التقني بل النسقي في الذاكرة، فتخاطبه في غفلة عن ذاكرته الحية بأن تسيفي ليفني كانت دائما وأبدا معارضة لسياسة بنيامين نتينياهو؟؟؟


لم يبق إلا أن يقولوا بأن تسيفي ليفني قديسة من القديسات أو مدافعة راهبة عن حق المساكين من العرب في فلسطين؟؟؟


إن تسيفي ليفني إرهابية صهيونية بولندية من نسل إرهابي، فأبوها إيتان ليفني كان قائدا في منظمة إرهابية تدعى إيتسل الصهيونية المتطرفة التي نفذت عمليات ضد العرب والمسلمين قبل نكبة48، فتاريخها يؤكد أنها كانت عميلة في الموساد قبل أن تتقلد الحقائب الوزارية من عهد المسخ آرئيل شارون ، وأنها انخرطت منذ نعومة أظفارها في العمل السياسي في إطار حركة الشبيبة التابعة للتيار اليميني الصهيوني بيتار.


ومواقفها معروفة بشأن كل المطالب المشروعة للفلسطينيين..


عن أي معارضة تتحدث هذه الكائنات التافهة؟ وإلى متى ستظل تغالط الجمهور بهذه الترهات؟ إنه لا أحد ينسى أن تسيفي ليفني كانت واحدة من أهم أركان الحرب على غزة ومن مهندسيها؟ بل إن الوجه البشع لتسيفي ليفني كان حاضرا طوال الحرب على أطفال غزة؟ وفي إصرار وعناد وهمجية وحقد لا نظير لها ما تزال تسيفي تصرح في الصحافة العبرانية بان الفلسطينيين إرهابيون وقتلة ولا حق لهم في دولة مستقلة ولا حق لهم في العودة وأنهم وأنهم …


لا ينبغي للحديث أن يأخذنا أكثر للغرق في الكلام عن ليفني، فإن غرضنا هو جماعة المطبعين التافهين السطحيين من بني جلدتنا.


إن الكائنات المطبعة كائنات بدون ذاكرة وتعادي الذاكرة، ولا أهمية للتاريخ عندها، لأنها تريد أن تعيش بدون تاريخ كما هي تعيش بدون جغرافيا وبدون قيم، والتطبيع عندها هو الوسيلة التي تمكنها من أن تعيش ولو منبطحة على بطونها، المهم أن تعيش…


وحرص المطبعين على العيش كيفما اتفق يزيد من معدلات وقاحتهم، لأن الاستمرار في العيش عندهم يساويه الاستمرار في التواقح.


ولما كانت الوقاحة صلابة في الوجه وقلة حياء حتى تصير إلى انعدامه، وهي صفة للعبيد لا للأحرار ، صفة لمن تدنى وأخلد إلى الأرض يطلب المنزلة والحظوة من أسياده من غير أهلية، ويبيع ما تبقى من إنسانيته بعرض من الدنيا زائل طائعا غير مكره.فقد جاوزت حدودها عند جماعة منتدى ميدايز ومن لف لفهم ودار في فلكهم من المتصهينين الملفعين بأثواب تخصصات أكاديمية وبحثية وتواصلية لا يجمعها إلا طلب المصالح ورضا الأسياد من المستشارين والخبراء الصهاينة المحترفين عندنا لصناعة الدجل الإعلامي وتزوير الحقائق.


لقد صارت الوقاحة بفعل انقلاب ميزان القيم في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل وفي المجتمع العالمي صفة مطلوبة للرئاسة والسيادة على الناس، لأن الحياء من طبيعته أن يمنع صاحبه من أن يفتري على الناس أو يستغفلهم أو يوقع الظلم بهم.


لقد تحدث جوليان بيندا JULIAN BINDAفي كتابه المثير للجدل “خيانة المثقفين” LA TRAHISON DES CLERCS عن أنماط من خيانات المثقفين ، واليوم هناك صنف من المثقفين المتواقحين العرب والمغاربة من تيار الليبراليين الجدد باتت الموضة عندهم هي ادعاء الانتماء للكوزموبوليتانية أو التيار العالمي الكوني وتحقير كل انتماء وتحيز ثقافي محلي، متناسين أن هذه الدعوى من الانتماء للعالمي ليست في الواقع إلا ارتماء رخيصا في أحضان تحيز الأسياد والمستعمرين، لأن من لم يتحيز لتراثه ولتاريخه وخصوصيته ونموذجه الإدراكي والجمالي في الحياة تحيز لتراث غيره ووقع أسيرا وفريسة ساذجة في تحيزات أعدائه بدعوى العالمية والكونية والموضوعية والإنسانية، وهي شعارات ليست في فراغها بأحسن من فراغ من أشرنا إليهم سلفا من الفقاعات الفارغة.


خطورة جماعات المطبعين فاقدي الذاكرة أنهم بإصرارهم على استدعاء مجرمين أمثال ليفني وتكريمهم ضدا على مشاعر المغاربة وضدا حتى على الخط العام للسياسة الرسمية للدولة التي ما فتئت تندد على الأقل بمخططات إسرائيل في توسيع المستوطنات، إنهم بفعلهم اللاإنساني يزيدون من معدلات استهداف المغرب بحملات الإرهاب المعولم، لأنه إذا كان لعبثهم هذا بالنار أي منطق فإنه سيكون للتطرف أيضا منطقه الذي نجا الله المغرب منه، فليكف هؤلاء العابثون عن عبثهم…وليكفوا أيضا عن تواقحهم..


*أكاديمي ومفكر مغربي


[email protected]

‫تعليقات الزوار

4
  • addam jamal
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:05

    أخي العزيز السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاتهأتمنى أن تكون بخير
    لقد سررت كثيرا بقراءة مقالك على صفحات الهيسبريس وأتمنى أن تستمر في ذلك على اعتبار أن ما تجود به نحن في أمس الحاجة اليه
    وفقك الله

  • elmaghraoui
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:11

    حفظك الله أخي سيدي ادريس مقال تحليلي دقيق فيه غيرة على الدين والأمة ،فجزاك الله خيرا وبارك فيك

  • فاطمة ركراكي
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:07

    شكرا لصاحب المقال على جهده في التصدي لشرذمة المطبيعن وفضح ألاعيبهم.
    وإن كنت شخصيا أرى أن جيوش المطبعين في تزايد مستمر، ولا يوقفها إلا موقف شعبي وفاضح مقاطع لكل الوجوه التضبيعية التي أصبح كثير من رموز السيادة في الدولة متورطين فيها
    التطبيع من جنس التضبيع
    تقديري

  • د.عبد المهيمن محمد الأمين
    الجمعة 20 نونبر 2009 - 05:09

    حياك الله أخي أكبر فيك الروح الصادقةوأذكرك أن إشكاليتنا الحقيقية تكمن في عدم وضوح الهوية التي نتكون عليهافأنت تنتطلق من هويةواهل التطبيع من هوية مخالفة مع أن المفترض أنكم جميعا من هوية واحدةلأنكم ابتاء وطن واحد.أري علاج الهوية في عالمنا العربي

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب