بعض الأكسجين...أرجوك!

بعض الأكسجين...أرجوك!
الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:14

( رسالة إلى فرنسا )



فرنسا…حبيبتي…


يا من تصر على أن تكون قدري…



منذ ثلاث وخمسين سنة ومدرسو التاريخ يزعمون أنك رحلت عن هذا الوطن…مع أني أكاد أجن من فرط وجودك الطاغي في كل تفاصيل حياتي: في شهادة ميلادي وبطاقة تعريفي وجواز سفري وروشيتات الدواء وعلامات السير وردهات الإدارات ومراحيضها وفي المجلات ورفوف المكتبات وقائمة المطعم والمقهى وأسماء الشوارع والأزقة ورسائل العشاق ودور السينما ولافتات الإشهار ودليل الهاتف وحتى في محرك البحث الذي يصر بمكر على أن يضع دائما على رأس اختياراتي: Pages francophones.



فرنسا، أيتها “الحلوة”…



تذكرني بك قناة اسمها 2M، تُسبح صباح مساء بمجدك وتحرس أسوار ثقافتك بأموال ضرائبي وإذاعات ينشطها شباب ضائع، لفظتِه إليٌَ هجين اللغة، سافل المروءة وأتفه فكرا من الحلزون. وذكرني بك مدرج الجامعة الذي كان شاهدا على غبائي وهدر حياتي في قراءة نجيب الكيلاني والرافعي وشعر المتنبي*…لأن أستاذي بكل بساطة يلقي دروسه بالـ”فْغـونْسي” وهو يدخن بشراهة كأنه بئر من آبار سَقـر.



تذكرني بك محلات الفرنـشيـز celio و Triumpheو TammyوJacadi و Chaumetو…Kiteaالتي كلما أبصرت واجهاتها ذكرت بعض “فضلك” علي، إذ لولاك ما أكلنا “البريوش” و”الكرواسون فوري” ولا أثثنا بيوتنا بأحدث أثاث ولا عرفت نساؤنا أجمل الحلي وأزكى العطور وأكثر الملابس أناقة (وأضيقها وأقصرها وأكثرها إبرازا لتضاريس الجسد…) وكل هذا نفح من بعض الحداثة التي تنفثينها علينا…



ذكرتني بك أول مقابلة عمل بعد تخرجي…لما دلفت إلى غرفة الاستقبال وحييت “السكرتيرة” قائـلا: “السلام عليكم”. لن أنسى أبدا كيف رمتني بنظرة استغراب، كما لو كنت قادما من زُحَـل، قبل أن تجيب ببرود اسكندينافي (Oui !! Que puis-je pour vous ?) و…ما علينا، تلك حكاية سوف أقصها عليك في رسالة أخرى…



رؤوس أموالك فوق رؤوسنا وشركاتك–أدام الله أسهمها صاعدة في البورصات– نفديها بأموالنا وأموال أبنائنا إلى آخر فلس..لك السبق في كل الصفقات حتى بدون طلب عروض…وإن نعق الفضوليون، فطلب عروض شكلي، يفصل على مقاسك ليرسو عليك في نهاية المطاف أيتها “الغالية”…



أيتها “الشقراء غالبا، السمراء أحيانا والرشيقة دائما…”



لقد أكثر الحساد من لومي في حبك…ومازالوا علي حتى أخذني بعض الشك في أمرك..مع أن ما يزعمون لا يستقيم لمنطق ولا يقبله عقل. أأصَدق أن مُنَعَّمة مثلك تطمع في صعلوك مثلي؟ أتطمع الحداثة في التخلف؟ أأصدق أنك مجرد امرأة لعوب تستغلني وتعزف على أوتار طيبوبتي؟!



ولعلمك فقط، لقد قاطعت صديقي المعطي (Mati). ذلك الوغد الذي لا يكف عن اتهامي بـ”الاستلاب الثقافي” والترديد على مسامعي أنه يوم كُنتِ تحت صِفر الحضارة، جاء رسل ملكك “شارلمان” إلى “هارون الرشيد” فأحجموا عن دخول الحمام واستعمال الأشنان (صابون ذلك الزمان) وقد حسبوه ضربا من السحر تريد حاشية الملك العباسي تجريبه فيهم !!



أتصدقين هذه السخافات؟! “آش جاب شارلمان لشي أشنان…آلمْعِـيطـي؟”



يا أم “موليير” ويا أم “روجيه لومير”، لي رجاء أخير…



أليس اسمك مشتقا من “Les Francs“، وهم قوم استوطنوا سهولك فيما مضى ومعناها بالمفرد “صريح”؟


دعيني إذن أكن صريحا وواضحا بعض الشيء: ماذا سيضيرك أن أنعم ببعض الحرية؟!!



نعم…حرية وديمقراطية ودستور حقيقي وتعددية وفصل سلط وحتى صحافة في مثل وقاحة صحافتك..لم لا؟ وسوف أتدبر أمري في الحداثة ومظاهرها الغبية، التي لست أعلم سر اصرارك على جعلها أم المطالب، مع أن نشر الديمقراطية لا يحتاج إلى سراويل celio ولا إلى حمالات صدر Triumphe…كما أن الحرية مطلب كل “ابن أنثى”..لا يهم إن كان من “باريـز” أو من “أولاد حريز”…فكفي عن استبلادي واستهبالي يا فتنة أيامي وليالي.



إن كانت لي حظوة عندك كما تزعمين، فكفي يد الاستبداد التي تنوب عنك في خنق أنفاسي، وأيدي لصوصك عن جيوبي، وزبانيتك المرضى عن هويتي وأخلاق أبنائي. هم أبنائي. فلماذا، يا عديمة الضمير، تريدين نسبتهم إليك؟!



فرنسا.. يا “وضيئة الوجه” منذ عصر الأنوار ويا مترنحة سكرى منذ عهد ملوك الغال…



بعض الأكسجين…أرجوك !! أكاد أختنق في بلد يذكرني بك دون أن أرى فيه أجمل ما فيك، أعني مبادئك الثلاثة: المساواة، الأخوة والحرية. كفي عن لعب الغميضة معي..كفي عن حرق أعصابي..فقد بت أشك أنك قد رحلت ذات يوم من نونبر 1956 كما زعم مدرس التاريخ…فمتى تحزمين حقائبك، يا ابنة “ديغول”، وترحلي عن أرضي “فـعـلا” غير مأسوف عليك ؟!



——————————————



* بل الحق أن من لم يقرأ لهم فما قرأ.



[email protected]

‫تعليقات الزوار

5
  • jawharati
    الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:20

    السلام عليكم اخي الكريم
    أثارني عنوان مقالك ، فدخلت ، أعجبتني الكلمات فأكملت القراءة ، ترنحت من سكري ، لغتك بليغة ، أسلوبك شيق ، طريقة كلامك تدغدغ المسامع .
    فرنسا ، تلك التي خرجت وتركت بداخلنا مسمار جحا ، تعود متى شاءت ، معززة مكرمة ، مصونة هي سيدي ، فهي فرنسا .
    فرنسا التي تحمل الشعلة ، فرنسا برج ايفل ، فرنسا الحريات ونزع الحجاب ، فرنسا ساركوزي ، فرنسا المجردة من الملامح ، إذا كانت الحقيقة جارحة فالذنب ليس ذنبي ، بل ذنب الحقيقة ، هكذا لفظها ساركو ، وهكذا نلوكها نحن ، نتحدث لغة لا تنتمي الينا ، نلوكها كالخراف ، كالنعاج ، فرنسا التي يعتقد البعض ان لا حضارة دونها ، قاتلها الله .
    لا فض فوك
    كلامك جميل مع ذلك احب اكسجين فرنسا ، واحب لو كنت هناك ، أنعم بقليل مما ينعم به أهلها ، ولو على الورق ، تمنيت لو ركضت وسط شوارع باريس وخربشت بالطبشور على الحيطان .
    لكتبت اسم وطني بدمي ، وطني الذي طلق فرنسا ، واتخذها عشيقة بعد ذلك .
    لك الله سيدي
    ولفرنسا اهلها .

  • mohamed
    الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:16

    ce que vous dites est vrai. en fait, la france a toujours été présente dans tous le long de notre quotidien d’une telle façopn que pour être parmis les gens réspectueux, on devrait parler français, ou du moin quelques mots en français.
    n’estce pas une honte?
    p.s. j’ai répondu en français parceque ce PC n’a pas de caractères arabes… une autre ironie, n’est-ce-pas?

  • روعة
    الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:24

    مقال رائع و مُرَوِّع. شكرا للكاتب.

  • وردة @
    الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:18

    اسلوبك وطريقة كتابتك جميلة ..

  • machkmak
    الثلاثاء 8 دجنبر 2009 - 22:22

    ça me plait beaucoup.. de plus c’est merveilleux et intelligent d’ecrire avec une manière belle comme celle là

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة