مراكش التي أعرفها ...!

مراكش التي أعرفها ...!
الخميس 10 أبريل 2014 - 08:25

أدار رأسه جهتي، وقال بتأسف و حسرة بالغتين:

-“هاته مراكش التي لم أعد أعرفها…!”

كانوا في تلك الأثناء يبثون حلقات يومية، عن مهرجان مراكش السينمائي، وقد ظهر الممثلون وأشباههم، يتناوبون على المنصة،ويمشون على البساط الأحمر الشهير، وأضواء الكاميرات وومض العدسات تعشي عيونهم.

نجوم تمشي على الأرض، وعشرات المتفرجين و المعجبين يصيحون بألم شديد، يهتفون بأسمائهم، ويبوح هؤلاء الزاعقون بكل الحب لنجوم الأرض هذه، بصوت مرتفع و عيون تكاد تدمع. دون أن تطلب منهم “النجوم” ذلك، أو تستفسرهم عن حقيقة ما يكنون اتجاههم.

تأتي النجوم إلى البساط في أبهى حلة، ويمنحون للصِّحافة والجمهور دقائق معدودات، يتملّونهم ويقتربون منهم إلى أقرب مسافة ممكنة، لم يكن ليحلم بها هؤلاء المصوّتون، فالمسافة بين النجم و الأرض بسنوات الضوء وليست بالأمتار.

و النجوم أنواع وأشكال، نجوم براقة تلمع، وأخرى اصطناعية تعمل بالبطاريات، وتحاكي غيرها، ولا تألو جهدا في إخفاء ما أفسده الدهر، وطبعت عليه السنون من تجاعيد وشيب وثنايا وجيوب ، يخفون ذلك بغريب اللباس، و قصّات الشعر المنفوش و الملولب، وأنواع الدهون الحمراء و الزرقاء…

يتأبطون أذرع بعضهم البعض، و يبتسمون أمام الملأ ،والحزن يطل من وراء الجفون.

ليس في مراكش وحدها تهبط النجوم إلى الأرض مرة في السنة…

أعرف نجما، يلمع على طول السنة، لا يلبس ذهبا، ولا يمشي على بساط، ولا يعميه ضوء كاميرا.

نجم لم تطأ قدماه مراكش قط، لا يعرفها، ولم يسمع عنها أبدا، نجم يمشي على بساط حجري مسنن يدمي قدميه ، و عندما يبيّض هذا البساط شتاء، تتورم القدمان بردا وألما.

“زايد” هو النجم الذي يسطع في سمائه، يعيش على ارتفاع فوق النجوم كلها،على قمة أطلسية شماء، يعيش “زايد” ذو الثماني سنوات، يرتدي جلبابا مزنّرا عند الوسط ، يستيقظ قبل الديّكة ، وقبل مؤذن الصبح، ليملأ قِرَبَ الماء، ويُناول الشاة الوحيدة التي تشاركهم البيت، ما تسد به رمقها من أعواد ووريقات نبات بري مشوّك.

“زايد” لايتناول وجبة الإفطار، لأنه لا يعلم أن الناس يفطرون ويتناولون وجبات ثلاثة في اليوم، وجبته الوحيدة اليتيمة يحملها معه في “قرابه” إلى المدرسة التي أقاموها في الجبل المقابل لجبلهم.

يسلك فجا خاصا به وحده ، لا يسلكه غيرُه، خطه لنفسه وسط أحراش وأحجار أكثر مضاء من أسنان المنشار، دونما حاجة إلى البلدية أو لمجلس المدينة .

يتذكر”زايد”، أنه في سنوات الطفولة الأولى، وقبل أن يبنوا المدرسة، كان يعتقد أنه وعائلته و بعض الجيران، هم كل سكان العالم، ولا أحد سواهم ،إلى أن استفاق يوما ليجد قوما من جلدة أخرى لا يعرفها.

قوم جاؤوا إلى هذا الفضاء الباقي على أصله الأول، جاؤوا بخيامهم ورزمهم الكبيرة، لم يعرف من أين أتَوْا ولا كيف أتَوْا.

بقُوا هناك ما يقارب الأسبوع ، يركضون ويحملون عصيا و سيوفا، يهرولون ويشعلون نيرانا كالجمر اللاهب، بعضهم يتحرك والبعض الآخر يراقب و ينظر في أوعية سانية، يخرج منها الضوء …

وحتى عندما أخبروه أن الملأ يعملون في السينما ، لم يفهم أين توجد هذه السينما ، ولا كيف يمكن العمل فيها.

انقضى الأسبوع ، و حملوا أغراضهم الكثيرة وجمعوا ألواحهم اللامعة ورزمهم ، وذهبوا كأن لم يكونوا….

تابع محاوري حديثه قائلا:

أنا لا أعرف في مراكش سوى مكانين اثنين: باب دكالة ، حيث تُلقي بي الحافلة، وجامع الفنا، حيث أقرأ فنجاني وبعد ذلك أشربه، ثم أدسّ نفسي في الحلقات أوسع من محيطها، وأمازح القرّادين وحواة الثعابين وأستطلع الغيب من العرّافات…

أما ما ألتقطه من نافذة الحافلة من حقول النخيل الفسيحة، وما أشاهده على التلفاز من مركبات سياحية هائلة، وبحار مصطنعة ونوادي الكولف والمطاعم ذات النجوم الخمسة ….فتلك مراكش التي لا أعرفها.

‫تعليقات الزوار

4
  • Mouloud Chicago
    الجمعة 11 أبريل 2014 - 03:56

    First of all I would like to thank you about your nice article that represented a period of my life. It took me back to the time when I was a little kid where people from the entire world enjoy the summer at a small town in the Middle Atlas while I was collecting the tree branches and thinking about the freezing winter. Where people enjoy the winter and I was looking for a place to warm my fingers. I liked your writing style, the topic and the content. Only few people have the courage to say the truth and reflect the world as it is. I am proud that I have a brother not from my mother and his name is Zaid. Thank you again

  • siham chicago
    الجمعة 11 أبريل 2014 - 04:39

    I read your article carefully to see what does mean ‘marrakech that I do not know!!’ while I was reading I couldn’t stop reading till the end, I liked the cohesion that you had during narration, and how you moved from the stars who come to Marrakech and show up, to little kid that is the best star not only in Marrakech but in the world. Thank you for the article. Keep writing, we need to read this kind of article to know more about our world even if we live in different countries

  • جميلة
    الأحد 13 أبريل 2014 - 01:14

    أعجبني هذا المقال
    bien dit
    =(

  • مضطفى
    الأحد 13 أبريل 2014 - 19:24

    شكرا على المقال، فالكلام الرصين والتعبير الراقي ينفذان إلى القلب مباشرة، من غير أجنحة، ولا أشرعة، ولا جواز سفر.
    النجوم الحقيقية ـ يا أخي ـ تمر أمامنا في كل لحظة، جباه تلمع بحبات العرق، وأياد تصلبت من الكد، لتصنع البساط الأحمر، والأرضية البراقة، الستائر المخملية، والأكلات الفاخرة، نجوم تلمع في الخفاء، وقلما تُكتشف على أنها نجوم.
    وأشبه زيد كثُر، ينظرون إلى النجوم في السماء لأنها قريبة منهم، يحكون لها في صمت، ويتطلعون إليها كي تجود عليهم، لأن نجوم الأرض بعيدة عنهم…

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات