محنة الطب …والمعذبون في الأرض

محنة الطب …والمعذبون في الأرض
الجمعة 18 أبريل 2014 - 12:00

إن ما يقع في قطاع الصحة يكشف بالملموس أن الطب أصبح مهنة ريعية بامتياز تزدهر على حساب الحس الإنساني و صحة المجتمع. و حيث صار عندنا العلم علموية و التقنية تقنقراطية و السياسة مكيافيلية غدا الطب استرزاقا، طب لا يخدم عافية الإنسان البدنية و النفسية بل يسبب في حالات متكررة ضحايا و تأثيرات سلبية قد ترقى لمستوى صنع المرض. فهل صار الطب داء؟

فإذا كانت الصحافة هي الضمير فالطب يظل هو النظام المناعي و الوقائي للمجتمع لكونه تجسيد للأنسنة و الرحمة و النضال من أجل رفع و تخفيف المعاناة عن أناس في حالة مرض و عجز و ضعف و حاجة .

عندما خرج على المغاربة قبل بضعة سنوات، مدّع بالقول أنه أوتي أسرار العلاج و بركات ما به تُشفى الأسقام الجسام حتى بلغت أخباره الأمصار و شدت إليه الرحال من الأصقاع، لم يكن أحد آنذاك يتصور أن يصل نجاحه ما ستصير على إثره مدينة الصخيرات الفلاحية، بين ليلة و ضحاها، وجهة سياحية وطبية بامتياز. قلت حينها و حيث أن الدولة والسلطات آثرت دور الشاهد العيان فلتجعل من صاحبها وزيرا للصحة أو تقترح إنجازاته كمشروع لنيل جائزة نوبل للطب أو حتى للإبداع سيّان .لكننا ندرك و نعي جيدا أن التخلف لا ينتج إبداعا بقدر ما يفرز رداءة و عبثا. هذه الظواهر و إن تباينت في الزمن فهي تعكس مأساة المنظومة الصحية من خلال مستويين. أوّلا إشكالية تمثلات الطب و العلم عند غالبيتنا و ثانيا كساد الطب كمفهوم ولّد و ما زال مجموعة من الممارسات التي تعسفت على الميدان )تواطؤ، إهمال، أخطاء طبية، سوء تقدير، انتظارية، (…. أزاحته من همه الإنساني لتلقي به في مستنقع الإستغلال الآسن و براثن المقابل المادي بوجهيه الأبيض و الأسود.

و حيث نستثني نقط الضوء و بقع النور , تلك الأيادي القابضة على جمر المسؤولية و الهم الإنساني في الوزارة و المندوبيات و في أتون المستوصفات و المستشفيات و المصحات, نتساءل :كيف سقط الطب في فخ المادية و لماذا أضحى مهنة لا تصلح إلا للإغتناء و الكسب و الثراء الفاحش؟ و هل نكون بصدد فاعلين في الميدان نجحوا في الحدة والجفاء و تغليب أنانيتهم بقدر ما انهاروا أخلاقيا على حساب الشق الإنساني للممارسة أمام مجموعة من السلوكات اللامهنية تفيد يقينا بانتصار الجشع !!! ماذا يعني مقاومة الأطباء و تجار الأدوية لأي إجراء للوزارة الوصية على القطاع قد يمس بتحكمهم أو بمداخيلهم مقابل معاناة المستضعفين في صمت ؟ أم هم من صاروا أوصياء على الريع؟؟ ماذا يعني التعدد المفرط في الأدوار عند الأطباء : دكتورمحاضر و رئيس مصلحة في المستشفى الجامعي و مصحة خاصة وعيادة !!! و رغم الكفاية في الأدوار فالإرتباط بالمشفى الجامعي يظل الهاجس الأول لديهم لما يضفيه من الهالة و التميز لكن على حساب الدور العمومي!!! وهل تمت أدلجة و تنميط الأطباء فكريا خلال مرحلة التكوين ليصيروا ذو نزعة مادية ؟

عندما تحدثت المستشرقة الألمانية ” سجريد هانكة” في كتابها شمس العرب عن الطبيب العربي الذي لم تكن مكتبة كلية الطب في باريس ذات يوم تحتوي إلا على مؤلفه الوحيد, يشعر المرء بشيء من الفخر بقدر خجله اليوم. فقدكان يخصص أياما للفقراء و المساكين، و علاوة على الفحص و التشخيص كان يزود مرضاه بالعلاج و بمقدار مالي يعينهم على اقتناء الأدوية. هذا الطبيب هو العلامة الفخر الرازي.

نموذج آخر من أمريكا اللاتينية. طبيب أرجنتيني، ارتأى مع زميل له على إثر تخرجهما أن يقوما برحلة في ربوع الأرجنتين ظلت دائما تراودهما.لكن ما وقع هو أن اصطدم الطبيب بواقع البؤس و المعاناة المستشري في أحزمة الفقر بالمدن كما في القرى النائية التي مرا بها. تحوُّل الطبيب كان جدريا حيث صار ثائرا أمميا واجه أنظمة الإستبداد بكوبا و الكونغو و بوليفيا في الستينيات و اليوم صارت رمزيته تلهم الثائرين في ساحات النضال. هذا الطبيب يسمى أرنستوا تشي غيفارا.

و إبان الإستعمار الفرنسي للجزائر ، كان هناك طبيب نفساني تابع للجيش الفرنسي عاين من خلال فحوصاته لمواطنين و متابعاته لعدد كبير من الحالات آثار التدمير النفسي من جراء القمع و العنف و الممارسات اللاإنسانية للوجود الفرنسي. تموقف هذا الطبيب المستوحى من قوة الحقائق أدت به إلى الإلتحاق بجبهة التحرير الوطني و المقاومة الشعبية و ألّف على إثر ذلك كتابه “المعذبون في الأرض”. هذا الطبيب هو فرانز فانون.

في نفس سياق الإستحضار، نستدعي باحترام و تقدير شديدين قامات الطب كابن سينا و ابن النفيس و جوزيف موسكاتي الإيطالي.

عندما نقرأ سير هؤلاء و آخرون ندرك يقينا بأن هكذا نجاح لا يدرك إلا عبر إيمان عميق و حقيقي بالإنسان و الإنسانية و عبر شرف الإنتماء لميدان عنوانه و ديدنه الذوذ عن العافية و الصراع بلا هوادة ضد الألم و المعاناة الإنسانية.

إن رؤية الطب اليوم تختزل المريض في الإنسان المستهلك و تختزل التطبيب و التداوي في سلعة يجب تدويرها. حقيقة إنها مسلمة تبدوا بديهية لكنها قاتلة يجاهد أصحابها في التمويه الخادع لإضفاء صبغة الإنسانية و الوطنية على المهنة بينما هذا لايعدوا أن يكون مجرد أيديولوجية تهدف لتأبيد الوضع و الحفاظ على الإمتيازات.

إن هذه المسلمة رغم بساطتها هي التي على أساسها يسترق و يستعبد الإنسان المريض اليوم، فهل من مجيب؟

‫تعليقات الزوار

2
  • Zamfir
    الأحد 20 أبريل 2014 - 20:15

    مقال جريء واقعي شكرًا
    هناك أطباء شرفاء لأكنهم قليلون جداً جداً اما الأغلبية فهم يغتنون الغناء الفحش على حساب صحة وحياة الناس

  • رشيد
    الأربعاء 23 أبريل 2014 - 15:26

    أريد فقط أن أسأل أليس من حق الطبيب تحسين وضعه الاجتماعي بصفة تليق بالمجهود الذي بدله في دراسته و عمله في العالم بأسره الطبيب هو الأعلى أجرا ومن بين أثرياء قومه إلا عندنا يلام لهذا دون غيره من محامين او صحفيين او غيرهم الله ارحم الوالدين قهرتونا بهناك أطباء شرفاء را كلهم مغاربة فيهم ما في كل المغاربة من براءة و خبث و كيف ما كينين أطباء سيئين هناك مرضى أسوأ ،،

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة