إسلاميو " العدالة والتنمية " ومنطق الساحة

إسلاميو " العدالة والتنمية " ومنطق الساحة
الجمعة 19 فبراير 2010 - 11:51

القديسة “لائكية” والمحترم “استبداد“


تسعى مكونات الحركة الإسلامية الوسطية أن تكون فاعلا مشاركا في الشأن العام، فهي بكل مسمياتها لا ترفض أن تكون طرفا ضمن أحزاب تعددية تعرض بضاعتها على الناس ليختار الناس ما يناسبهم، لكن ما العمل إن كان الاستبداد هو من يختار أعوانه دونا ورغما عن جميع الناس؟ فيجعل السلطة كطائر العنقاء؛ تسمع عنه ولا ترى حتى ظله؟


تفترق السبل عندها بأبناء الحركة الإسلامية حتى يعتقد أحد أطرافها أن سياسة ترك الكرسي فارغا إنما يصب في صالح أعداء الدين، وأن الواجب الانخراط في الشأن العام بالقدر المسموح به، والعمل على توسيع هامشه، وما لا يدرك كله لا يترك جله.


يدخل إسلاميون غمار الساحة السياسية – بشروط المتحكمين في دواليبها- وكلهم أمل في تصحيح مسارها بالاستفادة من هوامشها، لكن الذي يحسب وحده يخرج دائما رابحا كما يقول المثل المغربي، إذ إن الدخول إلى العمل السياسي والاستفادة من مكاسبه أمر مشروط أولا في أن يبدي التنظيم ولاءه المطلق لمنظومة الدولة وبنيتها الفكرية والقانونية والمؤسسية، وهذا الولاء يتطلب البيعة غير المشروطة لهرم السلطة، وإعادة إنتاج مقولات “الآداب السلطانية” في التعامل مع أجهزة الحكم النافذة، وذلك كله يبتغي إعادة صقل الخطاب لدى التنظيم بما لا يسبب في أي حادثة طريق مع السلطة تكون مهلكة لمساره.


ن المشاركة السياسية في أنظمة لا تريد أن تتزحزح عن منظومتها اللائكية له مكاسبه ومصاعبه، وإن أي خطأ في التقدير تكون له أوخم العواقب في قابل الأيام على الدعوة والتنظيم، ولعل تجربة حزب “العدالة والتنمية” التركي زاخرة بالعبر، فهو يعلن اليوم أن لا صلة له بالمرجعية الإسلامية، وأنه حزب علماني في بلد علماني، وهي حكاية لا يريد أن يصدقها العلمانيون الأقحاح في تركيا، ويرون أنه حزب يعيد الإسلام إلى الواجهة التركية من خلال جرعات تعطى بقدر، وأن نيات الساهرين عليه هي غير فعالهم، ولعل الخصوصية التركية التي غرقت في علمانيتها وانتزعت من محيطها الإسلامي ما يقارب القرن من الزمان يستلزم عدم التسرع في الأحكام، لا سيما وأن التجربة التركية أثبتت أنها علمانية.. وديمقراطية أيضا، وهي صيغة تفتقد في المحيط العربي الإسلامي حيث أقامت “القديسة لائكية” زواجا كاثوليكيا مع “المحترم استبداد” فما ثمة حلم في طلاقهما، إلا أن يأذن الله عز وجل، ووجب على كل حزب أراد أن يعترف به التأقلم مع طرفي المعادلة كليهما.


الوصل والفصل بين الخطابين الدعوي والسياسي


في المغرب يمنع الجمع بين الدين والسياسة بنصوص الدستور والتاريخ إلا في يد الملك باعتباره أمير المؤمنين الماسك في يده جميع السلطات، وكل الفاعلين عليهم أن يحددوا انتماءهم إما إلى الحقل الديني الذي ينفصل عن السياسي أو إلى الحقل السياسي الذي لا علاقة له بالدين، وهو أمر لا يثير إشكالا بالنسبة للأحزاب التي لا تتخذ من الإسلام مرجعيتها الفكرية والسلوكية، لكنه شرط يغير مسار التنظيم الإسلامي إن قبل به، ويحوله إلى تنظيم يقترب من الخطاب العلماني أكثر من قربه إلى الخطاب الإسلامي.


إن هذه الخلاصة تجعل مكونات الحركة الإسلامية إما تسعى للنضال من أجل انتزاع حقها في الوجود القانوني ضمن شروط ديمقراطية واضحة، أو تتقرب زلفى من النظام إلى حين نيل مرضاته. وهو الاختيار الذي ارتضته “حركة التوحيد والإصلاح”، فالتحق أعضاؤها فرادى ب”الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية” سابقا، حزب “العدالة والتنمية” لاحقا، والذي سيغدو الواجهة السياسية لحركة “التوحيد والإصلاح” التي ستختص بالبعد التربوي الدعوي كما ذهب إلى ذلك الأستاذ عبد الإله بن كيران في وثيقة نشرت في “الصحيفة الأسبوعية”. ع 13. مارس 2001: “فالاندماج العضوي لقطاع فاعل من الحركة، قيادة وقواعد، في بنية الحزب من جهة، والتمايز الموضوعي بين وظيفة كل من الحزب بما هو هيئة سياسية تتعاطى لقضايا تدبير الشأن العام بشكل مباشر، وحركة التوحيد والإصلاح بما هي هيئة دعوية إسلامية تربوية، وتشكل العمود الفقري للقاعدة الاجتماعية والثقافية المساندة للحزب“.


لقد تحولت الحركة إلى جمعية دعوية تربوية ثقافية اجتماعية… إلا أن تكون سياسية! رغم أنه بقي لديها وثيقة تحدد اختياراتها السياسية. ولا ندري أي إطار تنظيمي يفعِّل توجهاتها، هل هو حركة التوحيد والإصلاح المستقيلة عن العمل السياسي إلا باعتبارها قاعدة خلفية مساندة لحزب العدالة والتنمية أم هو الحزب الذي تشتغل هياكله التنظيمية في رسم توجهاته السياسية العامة؟ هل تنضبط سياسة الحزب بدعوة الحركة أم تنضبط دعوة الحركة لسياسة الحزب؟


إن حركة التوحيد والإصلاح أبعدت عن ممارسة السياسة كرها في مراحل أولى من عمرها، واليوم ابتعدت اختيارا وانسجاما وإيمانا واعتقادا بسلامة منظور السلطة السياسية، ومن أراد من أعضائها ممارسة السياسة فليلتحق بحزب العدالة والتنمية أو ما شابهه، أما المنتسبون إليها فلم يعودوا يقبلون بهذا الخلط منذ مدة، كما لم يعودوا يقيمون التمايز بين الدولة الإسلامية والدولة العلمانية، أو عالم القرآن وعالم السلطان، أو الإسلام الأصيل وإسلام السلطة… وقد مُكِّنوا اليوم من “المجالس العلمية “للدولة، ومن رابطة علمائها، ومن منابر الجوامع… فأثبتوا أنهم الحماة الحقيقيون “للأمن الروحي” للمواطنين بمفهوم السلطة. فهل تعيش الحركة “علمانية سلوك” من نوع آخر أم هو الفكر الاستراتيجي الذي يقدم تنازلات بسيطة من أجل كسب أعظم؟


حزب العدالة والتنمية دخل الميدان معلنا في أدبياته الأولى أنه حزب إسلامي، لكن بعد أحداث 16 ماي الإرهابية في الدار البيضاء شذب خطابه كثيرا لاسيما وأن سيف حَلِّه، وإعادته إلى المربع الذي انطلق منه؛ كان السيناريو الأقرب في ذاك الحين. كانت الرسالة واضحة للحزب بضرورة “علمنة” خطابه، وترك الدين جانبا إن أراد أن يكون لاعبا سياسيا، أما إن حَنَّ إلى الخطاب الدعوي فما عليه سوى أن يستقيل من العمل السياسي الرسمي.


من خلال مقال لبلال التليدي، أحد القيادات الشبابية للتنظيم، ” حزب العدالة والتنمية.. مساهمة في تأسيس الخطاب” والمنشور في موقع الجزيرة، يلوح أن الحزب قد قطع أشواطا في فهم الرسالة حتى أصبح مرتكز دعوته على “محاولات لتشكل خطاب سياسي جديد، يقطع مع منطق الدعوة في العمل السياسي، ويجعل خطاب التدبير سابقا على أي اعتبار آخر، ولا يقطع مع خطاب التخليق، لكن يفصله عن منطقه الدعوي ويربطه بإطاره السياسي. إذ يصبح مفهوم تخليق الإدارة والحياة العامة مرتبطا بالمنطق السياسي الذي يعني الشفافية والقانونية والنزاهة والاستقامة ولا علاقة له بمنطق الدعوة الذي يشترط القرب من الله والورع والتقوى.


إنه خطاب سياسي جديد، يقطع مع منطق الدولة العقائدية، ويؤسس لأرضية اللقاء مع جميع الفاعلين السياسيين، ويمد جسور التواصل والحوار مع الغرب، ويطمئن الجميع بقدرة هذا الحزب على التواصل، وأهليته للتدبير من موقع المسؤولية” فعلا، إنه خطاب سياسي جديد!


ولا يكتمل الخطاب إلا بالممارسة، ونقف على إحدى اقتراحات الفريق البرلماني لحزب”العدالة والتنمية” التي همت الزيادة في الضريبة الداخلية لاستهلاك الخمور، فقد جاء في جريدة المساء ع:459، قول “لحسن الداودي، عضو الفريق النيابي للحزب، الذي أسندت إليه مهمة إعداد مسودة مقترح قانون الزيادة في الضريبة الداخلية على الخمور، إن الهدف من وضع هذا المقترح هو حماية الفقراء والمستهلكين من ذوي الدخل المحدود، دون إلحاق أي ضرر بالموارد المالية لخزينة الدولة“، هل هذا هو الأسلوب الشرعي في التعامل مع أم الخبائث؟ هل هو تصالح مع الواقع البليد واستسلام له أم هو القطع مع الخطاب الدعوي والتبشير بأولى تشكلات الخطاب السياسي الأخلاقي؟ أم هي تكتيكات ذكية في استراتيجيات حرب طويلة ومعقدة؟ أم هي إكراهات الضرورة وفقه المصلحة؟ أم أن الأمر ببساطة لا يعدو أن يكون إعلانا صريحا عن انتصار منطق الساحة على خطاب الدعوة؟


[email protected]

‫تعليقات الزوار

5
  • العربي
    الجمعة 19 فبراير 2010 - 12:01

    السلام عليكم ورحمة الله
    لا اتفق مع الكاتب في قوله:”في المغرب يمنع الجمع بين الدين والسياسة بنصوص الدستور والتاريخ إلا في يد الملك باعتباره أمير المؤمنين الماسك في يده جميع السلطات، وكل الفاعلين عليهم أن يحددوا انتماءهم إما إلى الحقل الديني الذي ينفصل عن السياسي أو إلى الحقل السياسي الذي لا علاقة له بالدين”، فالدستور لا يمنع ذلك، بل يمنع ذلك في قانون الاحزاب الذي يناقض الدستور ويمنع ذلك بلسان حال الواقع. والدستور ينص على ان مرجعيتنا في التشريع هي الشريعة الاسلامية، لذا وجب على كل الاحزاب ان تتخذ من هذه الشريعة مرجعية لها.

  • الايكوي
    الجمعة 19 فبراير 2010 - 11:53

    انه انتصار منطق الساحة على خطاب الدعوة بكل بساطة و لا تهم النوايا و لا غبرة بالاستراتيجيات في بيئة الاستبداد الممخزن! و الا لو كان الامر يتعلق بقوة شعبية حقيقية لارغمت المخزن على تقديم تنازلات تناسب حجمها . لكن ما يلاحظه اي متتبع ان الحركة التي انبثق منها الحزب “الاسلامي” المذكور مافتئت تقدم تنازلا تلو التنازل قبل نزع الاعتراف بالمشروعية السياسية.!فمن جحود لامارة المؤمنين الى غوص في بؤرها، ومن عناد ضد العلمانية الى انغماس في اغوارها ومن استطهار من براثن المؤسسات الرسمية الى تقلب في تلويثاتها، ومن اتهام للدستور الى معانقة بنوده…هذا ما ظهر و ما خفي اكبر. فكم من صلاة ستخرج من وقتها او لم تستوف شروطها، وكم من نافلة عطلت و كم منكر اقر وكم زنديق قرب وكم مؤمن مخلص ابعد…كل هذا من اجل مزاحمة اعداء الدين في مواقعهم و ايصال “الصوت الاسلامي” الى الشعب!! لكن مقابل صفر تنازل من طرف الطرف المطلق اللهم الا بالاغتراف بالوجود داخل المربع المجزني !!اية استراتيجية “ذكية” يمكن ان يتحدث عنها هؤلاء و ماذا سيتحقق جرائها؟! و هل المخزن من البلادة و السذاجة و الضعف بالشكل الذي تخفى عليه المناورة، وقد اكد قوته و ذكاءه في كل مرة يتحرك البساط تحت قدميه؟! و هل ستمهلهم الاخطاء و الخطايا حتى يحققوا استراتيجيتهم؟! و اية استراتيجية ذات بعد اسلامي يمكن ان تتحقق في ظل ظروف التجزئة و التبعية و تسلظ الاستبداد؟! و هل سيبقى الاسلام الخالص كما يحلم به هؤلاء ثابتا لا يتزعز امام هول العولمة و قوة اللبرالية حتى يصل الى مرساه سالما معافى؟! وقد لاحظ الجميع كم قشرت فيه عوامل التعرية و الانجرافات السياسية و السجالات الدولية و المحلية!!و لم يتخط بعد المربع الاول! وفي احدى حلقات برنامج “الشريعة و الحياة” الذي تبثه قناة الجزيرة ما تردد الامين العام السابق للحزب، سعد الدين العثماني ان في الاسلام نوع من العلمانية مشيرا الى قول الرسول (ص)”انتم ادرى بامور دنياكم”!!!!!! 

  • أمير الصحراء
    الجمعة 19 فبراير 2010 - 11:55

    أهلا با خالد، وحمدا لله على سلامتك
    كنت سألت عبد الإله بنكيران في لقاء تواصلي تعبوي عن أقصى ما يمكن أن يفعلوه في البرلمان، فأجابني طرح الأسئلة الشفوية فقط، فقلت له، أنت تسألون والوزراء يجيبون أو يمتنعون عن الجواب، فهل تستطيعون فعل شيء، فتحدث عن سياسة ملء المقعد الشاغر كيلا يملأه المفسدون. هنيئا له ولأصحابه المقاعد التي يملؤونها ولا يتغيبون كغيرهم، وهنيئا للطرف المقاطع للعبة بالزراويط المنهالة عليهم وادهم بيوتهم، وهنيئا للمخزن بهذه الفسيفسائية السياسية الهجينة التي لا تصلح إلا ديكورا للواجهة. وهنيئا لك يا خالد سلامتك وفكرك النير المتنور، ومقاربتك لهذا الموضوع بحكمة عالية لا تجرح أحدا ولا تسكت على باطل، تحياتي الخالصة من المغرب المنسي.

  • زكرياء س
    الجمعة 19 فبراير 2010 - 11:59

    لا شك أم مشاركة “الإسلاميين” في اللعبة المريضة زاد من استفحال حماقات السياسة المغربية التي هي في الأصل لا تنتج ما يريده المغاربة..لو كانت العدالة والتنمية تقرأ المعطيات جيدا لاستفادت من المقاطعة الواسعة للانتخابات.. هي تجربة اليسار ذاتها يعاد إنتاجها ..
    أشكرك يا خالد على المقال الرائع.

  • alamis
    الجمعة 19 فبراير 2010 - 11:57

    شكرا للأستاد العسري على هدا المقال..أتفق معك في اغلب النقط..لكن الإشكال الدي يطرح في المغرب هو استحالة الجمع بين العمل السياسي والديني في آن واحد..إدن في رأيي الشخصي ..إما محاولة المراوغة والتكتيك..وإما الإقصاء والتهميش كما هو حاصل مع باقي التنظيمات الإسلامية الأخرى..

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة