متى يتم إدماج محاربة الجهل ضمن الأوراش الكبرى؟

متى يتم إدماج محاربة الجهل ضمن الأوراش الكبرى؟
الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:44

بعد سنوات طويلة من التحصيل العلمي والممارسة المهنية الفعلية قرر أحد أصدقائي العودة إلى أرض الوطن بهدف وضع خبرته الفرنسية في مجال الطب رهن إشارة مجتمعه الأصلي مدفوعا إلى ذلك بالأصداء التي وردت إلى مسامعه حول الدينامية غير المسبوقة التي تعرفها البلاد في أكثر من قطاع، إلا أنه مع الشروع في استقبال مرضاه المغاربة اصطدم بحاجز لم يكن يتصور وجوده و تجذره بشكل مخيف في مغرب الألفية الثالثة و في زمن المشاريع الاقتصادية والتكنولوجية الضخمة. لقد اكتشف بأن التواصل صعب مع شريحة مهمة ممن يقصدون عيادته بل ومستحيل مع فئة أخرى من هؤلاء الأمر الذي غالبا ما يدفعه إلى اختزال عمله في تشخيص المرض و وصف الدواء دون زيادة أو نقصان بما أن حوار الطرشان مضيعة للوقت ليس إلا ، كما لاحظ أيضا وجود مضاعفات خطيرة في العديد من الحالات ما كانت لتطفو على السطح لو تم تغليب كفة الوقاية على كفة العلاج.


وجاء في قصاصة إخبارية نشرتها صحيفة يومية وطنية منذ أزيد من سنة أن مواطنة تعيش بأحواز تارودانت خضعت لعملية جراحية بسيطة على عينيها قام بها بعين المكان فريق من الأطباء المتطوعين الشيء الذي مكنها من استعادة نعمة البصر بعدما قضت قرابة ثلاثين سنة في ضيافة الظلام لاقتناعها هي وأهلها ـ و هي في سن العشرين ـ بأنها قد فقدت القدرة على الرؤية إلى الأبد و بأنه لا راد لقضاء الله.


وفي إحدى المناسبات أسر لي أحد الزملاء ـ و هو في نفس الوقت مستشار جماعي ـ بأن نسبة هائلة ممن يرغبون في لقائه بمقر بلدية المدينة يقصدونه لأسباب لا علاقة لها بتاتا بالتدبير البلدي، إذ منهم من يعتبر مكتبه وكالة للتشغيل، و منهم من يعتبره محكمة لفض النزاعات، ومنهم من يعتبره ممرا ضروريا لاقتناء قطعة أرضية أو مسكن اجتماعي … بل منهم من يعتبره مؤسسة خيرية لا ينضب معينها من الدقيق و السكر والشاي و زيت المائدة و اللوازم المدرسية.


وفي بداية تسعينات القرن الماضي وصلني خبر وفاة طالب جامعي إثر اصطدام دراجته الهوائية ليلا بسيارة على طريق برية تربط بين قريته و مركز منطقته لا لشيء سوى لاقتناعه بأن أضواء مركبته البسيطة هي مجرد أكسسوارات زائدة عن الحاجة.


وكما تلاحظ، عزيزي القارئ، فإن القاسم المشترك بين كل هذه القصص الواقعية هو تفشي الجهل الذي يتخذ عشرات الأشكال و لا نجد تجلياته بالضرورة في سلوكات قبيلة الأميين و طائفة الفقراء فقط. الجهل الذي لم يقارن عبثا بالظلام منذ غابر الأزمان. الجهل الذي قد يرسم لك بسهولة فائقة و في رمش العين أحيانا طريق الخراب أو الإفلاس أو السجن أو الإعاقة أو التشرد أو الطلاق أو حتى الموت قبل الأوان. الجهل الذي ينخر جسد الأمة و يكلفنا غاليا على كل المستويات ويعرقل مسيرتنا التنموية شبه الشاملة.


في المقابل، و على الضفة الأخرى لحوض البحر الأبيض المتوسط، تحضرني دائما قصة ذلك الاستفتاء الذي رفض من خلاله النمساويون قبل سنوات المصادقة على معاهدة ماستريخت، كما تحضرني أيضا قصة الاستفتاء الذي رفض من خلاله الشعب البريطاني الانضمام إلى منطقة الأورو. إن الموقف الذي اتخذه الشعبان المذكوران بخصوص هذين المشروعين المفصليين ينم عن وجود إلمام حقيقي بمراميهما و بالتفاصيل المتصلة بهما كما ينم عن حضور وعي معتبر بالعواقب التي قد تتمخض عن المصادقة على الانخراط فيهما على الرغم من أنه يبدو للوهلة الأولى بأن الأمر هنا يتعلق بموضوعين لا يفقه فيهما سوى رجال السياسة و الاقتصاد.


لقد أكد النمساويون والبريطانيون من خلال هذين الاستحقاقين بأن التسلح بما يكفي من المعرفة شرط أساسي ليس فقط لضمان انسياب طبيعي للحياة بل و للتعامل مع المستجدات بشكل عقلاني أيضا. أما من يفعل في نفسه ما لا يفعله المرء بعدوه و لا يميز بين يده اليمنى ويده اليسرى أو بين الألف و “الزرواطة” أو بين الحقوق و الواجبات أو بين الأدوية الداخلية و الأدوية الخارجية أو بين علامة “ممنوع المرور” و شعار الصليب الأحمر الدولي … فلا يمكن أن يطلب منه الإدلاء بصوته في أي استفتاء من أي نوع اللهم إلا إذا كان الهدف من وراء ذلك هو التلميع القسري لصورة الديموقراطية ببلده مع الحسم المسبق في نتيجة استطلاع الرأي المعني بالأمر.


إننا لا زلنا بعيدين كل البعد عن دائرة التقدم و الحضارة، و حجم المعرفة المتداولة و مستوى الوعي السائد على أرض الواقع لا يعكسان للأسف الشديد حجم المجهودات المبذولة بهدف توفير المزيد من المدارس عبر مجموع التراب الوطني


ورفع نسبة التمدرس بالوسطين القروي و الحضري، إذ يبدو أن ما يهم القائمين على شؤون التربية و التعليم بالبلاد هو الأرقام و الإحصاءات التي يحرصون، و بشكل دائم، على إبقائها في حدود مشرفة لكل غاية مفيدة، أما جودة التلقين والتحصيل فيبدو أنهم لم يعثروا بعد على جهاز لقياسها.


لابد إذن من الارتقاء بالمنظومة التعليمية وعدم الاكتفاء بتعميم التمدرس. لابد من جعل طلب العلم هدفا في حد ذاته و ليس فقط وسيلة للحصول على شهادة و وظيفة. لابد من تفعيل مفهوم إجبارية التعلم مع اعتبار عدم إلحاق الصغار بالمدرسة جريمة يعاقب عليها القانون. لابد أن يوازي الأوراش الإسمنتية و التكنولوجية والحقوقية الكبرى ورش أكبر محوره تكوين الإنسان و بناؤه بما يعود بالنفع عليه وعلى وسطه. لابد من تجاوز مرحلة محاربة الأمية الأبجدية و الانكباب أيضا على تحسيس المواطنين بمزايا السلوك القويم وبمخاطر الموبقات و السلوكات السلبية المتجذرة في المجتمع.


وإذا كان من المفهوم التماس العذر لمن فاتهم قطار التمدرس عندما كانت منظومتنا التربوية تخطو خطواتها الأولى فإنه لا شيء إطلاقا يبرر “أمية” الكثير من شباب اليوم الذين ليست لهم حتى القدرة على إعطاء تعريف مقبول لمفهوم الحرية، بل ليست لهم حتى القدرة على التعبير بدارجة سليمة و نقية. إن تقدم الأمم لا يقاس فقط بطول طرقها أو عدد قناطرها ومصانعها ومطاراتها وموانئها بل ويقاس أيضا بجودة مدارسها و حجم وعي أفرادها ومدى انخراط المجتمع المدني ووسائل الإعلام و مؤسسات الدولة في تحقيق هذا الوعي الذي بدونه سنظل نبارك الرداءة بكل أشكالها. بدونه سنستمر في تخريب البلاد و حث الأجيال الصاعدة على البحث على مروج أكثر اخضرارا خارج الحدود و سنظل نشن الحروب الصغيرة التي لا طائل من ورائها مع الاستمرار في تجاهل الرهانات الحقيقية. بدونه لن نحاسب العابثين من أولي الأمر


ولن نعرف للنقد الذاتي طريقا و لن نميز بين الصالح و الطالح و لن نتردد في وضع المزيد من اللبنات على صرح المشاريع والمخططات الهدامة و لن يتحقق الانفتاح الشخصي و لن نؤسس لتعايش اجتماعي بناء… و لن نبني المستقبل حتى و لو مكنتنا القروض الدولية و المساعدة التقنية الأجنبية و الاستثمارات العربية والأوروبية و الأمريكية من مد خطوط قطار “التي جي في” إلى قلب الكويرة و ربط محاميد الغزلان بشبكة الطرق السيارة و تأهيل مولاي ابراهيم وإمين تانوت لاحتضان الألعاب الأولمبية الشتوية المقبلة مناصفة… وحتى لو رفعت جامعاتنا من وتيرة طبع الشواهد العلمية.


وحتى لا نمعن النظر في واقعنا بنظارات سوداء لابد من الإشادة بالسلوك الجديد لمعظم المدخنين الذين أصبحوا يمتنعون عن إشعال سجائرهم بالأماكن العمومية و خاصة المغلقة منها إما بسبب وعيهم بمخاطر التدخين غير المباشر أو فقط بسبب الخوف من محاسبة المحيطين بهم لهم، و حبذا لو حظر الوعي بنفس الدرجة في سياقات أخرى و خاصة في التعامل مع الجيران وعلى الطرقات و في أماكن العمل و في علاقة المواطن مع مؤسسات دولته و مع عائلته و وسطه و نفسه. و في هذا الإطار لابد من تثمين المجهودات التي تبذلها العديد من الجمعيات بشكل تطوعي و التي تظل للأسف محدودة الفعالية لاندراجها ضمن أوراش صغرى بإمكانيات متواضعة و تعبئة محدودة. نحن مطالبون اليوم بإمساك الثور من قرنيه، كما يقول الفرنسيون. نحن مطالبون بإعلان حرب رسمية شاملة و باستعمال أفتك الأسلحة و أحدث الأساليب للارتقاء بشعبنا إلى مصاف الشعوب المحترمة التي يقام لها ويقعد.


ختاما، وحتى نكون صرحاء مع أنفسنا، لا أجد بدا من الإقرار بأنه لا فائدة ترجى من فتح ورش ضخم لمحاربة الجهل إذا ظلت أوراش التخريب و التجهيل الكبرى منها و الصغرى مفتوحة على الدوام … وما أكثرها.

‫تعليقات الزوار

6
  • abdoul
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:48

    l’ignorance est voulu dans ce pays par les autorités , comme ça on peut manipuler le peuple marocain

  • أسامة إبراهيم
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:50

    صناعة الأغبياء غايته إبقاء الوضع العام على ما هو عليه ، غياب ثقافة النقد يتبعها غياب ثقافة المساءلة والتي تجر وراءها الإستخفاف بكل ما يتعرض له المجتمع من تشويه قصد إلحاق مزيد من الإهانات بالمواطن الذي لم يعد يفرق بين التنويه والتوبيخ . أكثر من عقد مضى على ورشة إصلاح منظومة التربية والتعليم ، والنتيجة أننا نعاود طرح نفس الأسئلة التي مر عليها أكثر من ثلاثة عقود ، لسنا عاجزين على الإصلاح بل لا نريد ، صناعة الغباء أكثر تكلفة من صناعة عقول الألفية الثالثة لكنها خيار من يخشى المساءلة ، من يخشى الديمقراطية ، من يخشى الحرية الواعية . أمريكا حاربت تعليم السود زمن الميز العنصري ، لأن التعليم يحرر العقول ، يجعل الإنسان يرفض الظلم ، يساوي بين الأجناس ، يساءل ، يطالب بالحقوق ، يصلح الإختلالات . فأين نحن من هذا التعليم ؟ .

  • سيدي و سيدك رسول الله
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:56

    اظن ان كل شىء مرتبط، الجهل مرتبط بالخوف، الخوف بدوره مرتبط بانعدام الدمقراطيه، هناك أيظا عقدة النقص التي تنخر جسم المغاربة ظانين أن الشعوب الأفرنجية هى وحدها القادرة على الإختراع، المسألة مسألة ثقة في النفس و واقعية،أنا اشتغلت معهم و أعرف ما أقول، لا يجب انتظار رجال السياسة لحل هذا المشكل لأن المعظلات التي ذكرت تطبق عليهم أيظا،لأن هناك من هو اعلى منهم، و يخافون منه،و لا أعني هنا الله تعالا

  • hiimo
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:52

    jolie phrase “لابد من تفعيل مفهوم إجبارية التعلم مع اعتبار عدم إلحاق الصغار بالمدرسة جريمة يعاقب عليها القانون”

  • محمد أيوب
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:54

    ازيد من نصف قرن على استقلال البلد ومع ذلك ما زالت نسبة الامية عندنا مرتفعة سواء بالبادية او حتى بالمدينة… فمن المسؤول اذن؟ لو قارنا وضعنا التعليمي باوضاع كانت في مثل واقعنا عند استقلالنا سيتبين لنا ان الطبقة السياسية، وفي مقدمتها الدولة،بالغلبيتها ومعارضتها هي المسؤولة اولا واخيرا عن استمرار الامية…ومع الوضع التعليمي الحالي قد ينتصف هذا القرن ومع ذلك قد نجد من بيننا من لا زال اميا في القراءة والكتابة اما الامية في التعامل مع وسائل العصر فذلك امر آخر…الطبقة السياسية عندنا-سواء منها الافراد الذين بيدهم القرار ام لا-تتحمل المسؤولية امام الله والوطن والشعب…ازيد من عشر سنوات ومعارضة الامس تقوم بتدبير شؤوننا في مجال التربية والتعليم…فما هي الحصيلة؟ الواقع ينبؤنا بذلك…فشل في فشل نحصده بشكل متتابع ولا احد يعنيه الامر…من يعمل بميدان التربية والتعليم بالبوادي والقرى سيتأكد لهن وبالملموس فداحة ما يتم ارتكابه في حق ابناء هذا الوطن الفقراء…نفس الأمر في اغلب مؤسسات التعليم العمومي:ارقام جوفاء عن نسبة التمدرس لا تعكس حقيقة الواقع بتاتا…واشباه متعلمين تمتلئ بهم منازل الطبقات الشعبية ان كانت تخفض نسبة الامية التعليمية فهي تعلي من نسبة الامية العلمية والتقنية يساهم فيها تعليم عمومي يجمع الفاعلون فيه على تحميل الدولة والطبقة السياسية مسؤولية وضعه المتدهور بتخطيط مسبق يروم القضاء على المجانية فيه…بالعلم،وبالعلم وحده،تتقدم الامم والشعوب: عمالقة آسيا والغرب وجل الدول التي شقت طريقها نحو مسيرة التنمية فعلت ذلك بالعلم…”اقرأ باسم ربك” اول ما نزل من القرآن الكريم… عشرات الآيات والاحاديث النبيوية تحض على طلب العلم وتعلي من شان حامليه، ومع ذلك يظل ارتباطنا بالدين واحكامه في مجال العلم والتنمية المعرفية مجرد لغو لا يغير من واقعنا التعليمي البئيس شيئا…ان من الواجب ان يكون ورش التربية والتعليم هو الورش الاول لانه الاساس لتحقيق تنمية فعلية… فالاستثمار في العنصر البشري لا يمكن مقارنته باي استثمار آخر…فمتى ينطلق هذا الورش عندنا؟

  • محمد
    الإثنين 7 يونيو 2010 - 23:46

    الجهل ليس الأمية فد نجد إنسانا أميا ولكن ليس جاهلا.الجهل هو عدم الوعي بالحقوق والواجبات ،الهروب من المسؤولية،إعتماد الشائعةكأساس المعلومة،جعل الغاية تبرر الوسيلة،اعتماد الأنانية والفردانية كسلوك وكمنهج في الحياة العامة”أنا ومن بعدي الطوفان”أو كما نقول بالمغربية “غيرتفوتني وتجي فاش ما بغات”هذه الظاهرة حينما تكون سائدة داخل مجتمع فما هو نوع الحضارة الذي يكون سائدا؟

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 2

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة