مشروعية الاختلاف ومأزق الفرقة الناجية

مشروعية الاختلاف ومأزق الفرقة الناجية
الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:48

إلى المرحوم محمد أركون الذي علمني كيف أكتب لأفتح ولو في الهامش شيئا يستحق الاهتمام.


أن نفهم الدواعي الحقيقية من فلسفة الاختلاف داخل فضاءنا العربي والإسلامي وأهميتها في تكريس حوار حقيقي بين الآراء المتعارضة والمتصارعة وتوفير أجواء سلمية وصحية تخلو من كل أشكال التسفيه والتخوين والترهيب، وأن ندرك كيف نختلف وبأي طريقة حضارية ممكنة ننظم اختلافاتنا قبل معرفة حدود ما نختلف فيه من الفروع وما نتفق عليه من الأصول لتمثل حجر الزاوية في تشكيل وعي جديد حول ماهية الاختلاف، لماذا نختلف مع أن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا! ثم ما قيمة الاختلاف في ترسيخ روح التسامح والتعايش عوض إثارة نعرات التطاحن والتناحر! وحتما هو الاختلاف خاصية إنسانية تسم الإنسان ذي البعد الأنطولوجي وتضرب بعمق في عوالم كيانه التي يتجاذبها تعطشه إلى امتلاك رأيه وتعصبه لرغباته والاقتتال من أجل تحقيقها، وأيضا أن يختلف الناس ويتصارعوا فيما بينهم ويتحول الصراع فيما بينهم من صراع بالأفكار إلى صراع بالحديد والدم فخاصية مجتمعية تجد تفسيرها في تضارب المصالح بين مكونات المجتمع الطبقية، هذه الحقيقة لا يمكننا تخطيها أو تفنيذها إلا إذا أدركنا ما الحكمة من الاختلاف ثم كيفية تنظيمه.


ولا شك أن اختلاف وتنوع الصور والأفكار وتنافرها هي ما تعطي الكون هذا المعمار الجمالي البديع التركيب هارمونية أخاذة تزيد من افتتاننا به وغرقنا في البحث عن الأسرار التي يخفيها، فلو تجسد الكون في صورة واحدة أو فكرة نمطية لا محيد عنها لمله الناس ولركب القنوط واليأس النفوس، ولكن إذا كان للاختلاف هذا البعد الاستيتيقي فإنه يصبح وبالا عظيما عندما يتحول إلى ميدان خصب لإقصاء الأخرين ومدخلا لتفريق الأمة الواحدة إلى أصوليات وأحزاب أرثوذوكسية متناحرة حيث كل أصولية تتعصب لنفسها بحجة امتلاكها الحقيقة المطلقة، هذا ولا يجب أن يغيب عنا حديث الفرقة الناجية وما جره من ويلات على كلمة الأمة ووحدتها بل وعندما تحول الاختلاف إلى خلاف جذري وعميق لا مخرج منه كالخلاف السني- الشيعي وفي بعض الأحيان خلاف بين الفرق المذهبية داخل الاتجاه نفسه، وفي هذا السياق وأمام هول و قتامة الوضع العربي الإسلامي الذي تمزقه الفرقة وتستشري في أوصاله الخصومات على الرغم من امتلاكه لكل أسباب الوحدة وأولها دين سماوي توحيدي يحث على الوحدة استنادا لإلى قوله تعالى” و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا” ويحذر من عاقبة الفرقة استنادا إلى قوله تعالى ” ولا تكونوا من المشركين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون” فالأمة العربية والإسلامية أشد تشرذما و أبعد ما تكون عن تحقيق وحدتها المنشودة ولم شتاتها عكس الأمم الأخرى وخاصة الأوروبية (الكافرة) التي استطاعت أن تتجاوز خلافاتها وأن تشيع سلوكا فرديا وجماعيا يؤمن بالحوار وبإمكانية الاختلاف البناء وليس الاختلاف من أجل الاختلاف بل وأن تحقق مشروعها الوحدوي الباهر على كافة الأصعدة السياسية و الاقتصادية والاجتماعية، و هنا لابد من إثارة الانتباه إلى السر الكامن وراء هذه الوحدة وذلك بطرح أسئلة إشكالية ربما تفضي إلى إجابات شافية من قبيل، هل باتت العلمانية الطريق الملكي لتحقيق الوحدة! وهل خاصية الدين المسيحي الذي تعتنقه هذه الأمة والمبني على تعددية(الثالوث) في إطار الواحدية هي من مكنت هذه الأمة من إدراك فلسفة الاختلاف وساهمت في تأسيس وتثبيت عمليات دينامية فاعلة داخل المجتمع لاستيعاب قيمته بل والعمل على حمايته وتنشئة المجتمع على تمثله!


إن مسألة الوحدة أكبر من أن تكون قضية انفعال سياسي أو حماس إيديولوجي أو حمية دينية إنها إدراك عقلاني و تاريخاني للعوامل التاريخية والشروط الموضوعية التي تتطلبها طبيعة وأهمية العمل المشترك إذ من الصعب الحديث عن وحدة الهدف والتطلعات والمصير دون تصفية للأجواء وللرواسب التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق إجماع الأمة وأولها كما ذكرت سالفا محاولة الخروج أولا من الجو المشحون والمتداعي الذي فرضه حديث الفرقة الناجية والذي فرق الأمة إلى ملل ونـحل لا تجتمع على كلمة سواء، وثانيا العمل على البحث عن قواسم مشتركة لا يمكن لأي طرف أن يختلف حولها ، وثالثا الاستناد إلى مشروع يستجيب لإرادة الجماهير في الانعتاق من التبعية والاستلاب ويضمن لها عيشا كريما ثم الاتفاق على معايير وثوابت سياسية واقتصادية واجتماعية ديمقراطية وليس إلى معايير أمنية صرفة تكبت حرية المواطنين وتقمع كل صوت ينادي بالإصلاح وبالتغيير السلمي، وهكذا إذا أمعنا النظر إلى أهم وأنجح تجربة وحدوية على الإطلاق تجمع في ما بين أنظمتنا القهرية لوجدنا وحدة وزارات الداخلية و الاستخبارات التي تجتمع بشكل دوري منتظم، وترصد من أجل أداء مهامها ميزانيات ضخمة لا تخضع للرقابة في حين لا تثير مسألة التكامل الاقتصادي والاندماج السياسي في عصر التكتلات بامتياز الأولوية الكافية رغم توفر جميع بواعث و كوامن الوحدة من دين توحيدي وثروات باطنية وبشرية هائلة وموقع استراتيجي يتموقع في قلب العالم، وهنا أيضا لابد من استعادة سؤال أخر لا يقل أهمية وهو ما المدخل الصحيح لتحقيق الوحدة السياسة أم الاقتصاد! و من له أحقية السبق هل التعاون الاقتصادي أسوة بما جرى في أوربا حيث شكلت مسألة الاندماج الاقتصادي النواة الموضوعية لتثبيت الوحدة السياسية! أم التكامل السياسي إذ فتح باب تقارب الأنظمة الديمقراطية في أوربا بعد تصفية كافة الأنظمة الديكتاتورية ومن عسكرية و تيوقراطية وأخرها نظام ميلوسوفيتش، وإقرار ضوابط دستورية للتداول على السلطة عماده انتخابات نزيهة تديرها أحزاب قوية ذات مشاريع مجتمعية حقيقة وقابلة للتحقق وليست كأحزابنا الشائخة والمفبركة التي لا هم لها سوى الكراسي، وترسيخ دولة المواطنة الحقة والمؤسسات الفاعلة والفصل فيما بينها عكس الدولة في فضاءنا العربي والإسلامي التي لم تخرج عن دولة – الحزب أو دولة- العشيرة أو دولة- الطغمة، كل هذه العوامل التي ذكرتها كانت المفتاح لإحداث التقارب بين الدول الأوربية وساهمت في تسريع وتيرة اندماجها الاقتصادي و السياسي بشكل باتت فيه الوحدة الأوربية عامل قوة لحفظ التوازنات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واستفراد أمريكا بالعالم بينما نحن لا نزال غارقين في بحر اختلافاتنا وجدالاتنا العقيمة نتباكى على ماضي الخلافة والفتوحات الإسلامية ونمني أنفسنا الأماني إلى استعادتها دون القيام بأي فعل حقيقي وعقلاني بعيدا عن تأجيج العواطف و إيقاد الحماسة وانتظار متى ستظهر الفرقة الناجية لتخلص العالم من شروره وجاهليته.


[email protected]

‫تعليقات الزوار

5
  • aboroh
    الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:58

    المجالس الفاخرة وتخليتم عن النضال بفضل اغراء المال ما زال التعذيب في بلادنا يتكرر والاختطاف وتلفيق التهم ام انكم ايها اليسار الغابر توقفتم عن النضال وتنكرتم للمبادئ هناك الاف الابرياء في ملف السلفية الجهادية الملفق يقضون زهرة شبابهم في سجون العار لانهم ربما يشكلون مشروع ارهابي او ارضاء لامريكا دون ان تثبت ضدهم اي جريرة ايها الحقوقيون في الجمعيات نريد مغربا يحمي الجميع من ان نتشرف به في الغد

  • المعلق الرياضي
    الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:50

    كلمة التوحيد أولا ثم توحيد الكلمة ثانيا. فالعقل و التجربة يقران أن لا خير في من يضيع حق الله و إن كان يحرص على حقوق عباده. لذلك افترقت الأمة لأن أهم حق أوكل إليها قد ضيعته بسبب اختلافها فيه صار سببا لفرقتها. ألا ترى أن حديث الفرقة الناجية الذي شاققت النبي صلى الله عليه و سلم فيه، ما هو الا تحذير لنا من تضييع التوحيد؟ و أن قولة إمامنا مالك رحمه الله -التي سفهتها في مقال سابق لك-، “لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها” ما هي إلا حصافة و بعد نظر ممن خبر و علم أن هذه الأمة قد كلفت بشيء ستغفل عنه يوما فيصيبها الذل و العار بسبب بعدها عن أهم واجب كلفت به من قبل ربها؟ كل العلوم الإنسانية عاجزة عن تشخيص مرضنا، مع إحترامي الشديد لهذه العلوم و أربابها رغم ما فيها من ثغرات راجعة لبشرية واضعيها. نحن أمة كقرية بنيت على ضفاف نهر اسمه الفقه، ففطن أعداؤها أن يقيموا عليه سدودا كثيرة بإسماء كحقوق الإنسان تارة، و الحرب على الإرهاب تارة أخرى، و الإستعمار المباشر قديما، و التبعية العولمية حديثا، و حماية المصالح الإقتصادية أحيانا، و بالمقابل شقوا بالقرب من هذه القرية غير بعيد عن نهر الفقه، قناة يجري فيها ماء من بئر لهم يسمى الفكر الإنساني، و غرضهم هو أن يموت أهل القرية عطشا، أو يشربوا من تلك القناة، فشرب فريق و ثابر فريق آخر على الصبر مكتفيا بما بقي جاريا في نهر الفقه على قلته، مع ما يرافق تلك القلة من خلاف على الحصص، لكن العزاء أنه ماء نهر الفقه العزيز الأغر وليس ماء بئر الفكر، فظهر فوق ذلك الخلاف على الحصص، خلاف آخر على المصالح، أحدثه الذين شربوا من قناة الفكر البئرية، مدعين أن من يشرب من نهر الفقه يهددون الصحة العامة للمواطنين لأنهم يستعملون مياه غير معالجة صحيا في المختبرات الحداثية على غرار ماء البئر. فوقع الصدام.

  • سعيد بورجيع
    الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:52

    مشكلتك عزيزي الكاتب المحترم بل عقدتك هي اتهام كل من انتقدك بأنه يسفهك أو يخونك أو يرهبك كما جاء في مستهل مقالك المليء بخلط الأوراق. وذلك تمويه منك على القاريء غير المتتبع بتقمص شخصية الضحية وأنت الأسبق إلى التهجم على مخالفيك في كل كتاباتك . فإذا كنت تتحدث الإختلاف ، مشروعيته وضرورته وكيفية تدبيره وآليات التعامل مع كل ذلك ، فدعنا من القفز على ما ينبغي التركيز عليه وبالتالي الوقوف على أوجه الإتفاق أو الإختلاف حتي تتضح المسائل وإلا فإننا لن نصل أو نجد حدا لجرجراتك غير المفيدة ، وما أنامع المجرجرين ولا المتجرجرين، وإنما المستمسكين بالموضوعية في أي طرح كان علمانيا أو إسلاميا لكونهما عندي لا يتناقضان.
    لقد أدخلتنا بمقالك في دوامة اختلاق الصراعات الطائفية والمذهبية والسياسية ، وما هي إلا اختلافات لا تزال تطرح على موائد التدبير والتقريب ممن أسميهم عقلاء هذه الأمة علماء وزعماء وحكماء من كبار مثقفيها

  • عبده
    الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:56

    المشروع الارموني كان يؤطره هدف خفي معلن هو التشكيك في كل الثوابت الدينية ومن بنات أفكاره أن القرأن ليس مقدسا ويجب التعامل معه كأي نص بشري تاريخي ، وأن الاسلام يجب تحديثه وليس أسلمة العصر بل عصرنة الاسلام ، لقد ترجم أركون وتبنى كل طروحات المستشرقين الحاقدين على الاسلام ، ولذلد فلا تعجب ايها التلميذ الهاله هلاك شيخ أركون إن مات شيخك ولم يتبع جنازته أحد ولم يعزيه إلا من كان على شاكلته من المنافقين المتدثرين برداء الاسلام .
    ألم يقل الامام أحمد : ” بيننا وبينهم الجنائز “

  • سعيد بورجيع
    الجمعة 17 شتنبر 2010 - 15:54

    لقد انتظرت منكم نشر تتمــــــة
    التعليق رقم3 المرسل بعـــــده
    مباشرة ، لأنني أرسلــــت الأول
    تسرعا وهو ناقص ، لذا أرجـــو نشره كاملا حتى تتم الفائدة .
    وشكــــرا.

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز