المجتمع المنفتح والمنغلق

المجتمع المنفتح والمنغلق
الأحد 31 غشت 2014 - 09:39

استعار كارل بوبر Popper من برجسون Bergson، لكن بمعنى مختلف شيئا ما ووفق تمييز عقلاني وليس ديني، مفهومي المجتمع المنفتح والمجتمع المنغلق، نذكر أنه بالنسبة لبرجسون، المنفتح هو كل مجموعة (أخلاقية، اجتماعي، إلخ) تنفلت من خنق دائرة القواعد المغلقة والصلبة، منفتحة على طفرة الحياة والإبداع.

المثل الأعلى السياسي العقلاني الذي يحدده بوبر،لا يصطدم فقط بزيف العقلانية الطوباوية فحسب، ولكنه مهدد أيضا بصورة لا تقل خطورة من طرف هذه القوة العاطفية التي تحن إلى المجتمع المنغلق. وحينما يطرح مسألة تقابل المجتمع المنغلق بـالمنفتح، فإنه يتوخى من جهة وصف دلالة التاريخ الاجتماعي للإنسان. هو يرى أن تاريخ سمته التطور، بحيث يمكن أن نعود به إلى عصر “بيرقليس” Périclès، العصر الذي يمثل بالضبط اللحظة التي بدأ فيها الانتقال التدريجي من المجتمع الأول إلى الثاني. من جهة ثانية، يظهر لبوبر الصراع بين المجتمع المنفتح و المنغلق، كصراع دائم لا يعرف نقطة النهاية.

على ماذا يرتكز إذن هذا التعارض؟ من جهة، المجتمع المنغلق، مجتمع “ساحر” عاجز عن الفصل بين القوانين التي أبدعها الإنسان والقوانين التي جاءت بها الطبيعة: يستكين إلى الطابوهات والإكراهات،معتقدا وفق “أحادية ساذجة”، أن التقنيات الاجتماعية فرضتها الطبيعة أو الآلهة.

على النقيض من هذا فـالمجتمع المنفتح، مجتمع لائكي Laïque، قادر على الفصل بين ما هو عرفي وماليس كذلك، ينظر إلى المؤسسات كإبداعات إنسانية. ومن جهة أخرى المجتمع المنغلق، مجتمع سلطوي يرفض الفكر النقدي: فلا القوانين ولا الأساطير ولا سلطة القادة يمكن أن تكون موضوع اتهام. على العكس من ذلك، نمارس منهجيا الفكر النقدي داخل المجتمع المنفتح، مما يفسر ظهور الفلسفة والعلم وأهميتهما.

من جهة ثالثة يرفض المجتمع المنغلق التطور، متوخيا أن يبقى مماثلا لذاته بينما المجتمع المنفتح، يتطور بشكل لا نهائي، ويعمل باستمرار على وضع ذاته موضع تساؤل، دون أن يسعى أبدا أو يتوخى، الوصول إلى لحظة السكنية.

أخيرا، المجتمع المنغلق مجتمع عشائري، يلغي الفرد ويميل إلى اعتبار نفسه جهازا لا يشكل فيه الأفراد إلا أجزاء: من هنا ضعف تحمله الاختلاف، كما أن قوة الانفعالات الجماعية لديه، تعمل على تذويب الأفراد في كائن واحد. أما المجتمع المنفتح، فهو مختلف يقوم على الترابط والتواصل “المجرد” بين أفراده بواسطة وسائل منظمة، ويترك لكل واحد أخذ اختياراته الشخصية جاعلا من الفرد قيمته العليا.

يعتقد البعض، أنه قد نعمل على تبخيس قيمة المجتمع المنفتح، عندما نماثل فيه بين الفردانية والأنانية، كما فعل أفلاطون. بوبر، يرى أن المماثلة غير مناسبة، مادامت المجموعة، قد تتصف بالأنانية بينما يكون الفرد غيريا (متصفا بالإيثار)، بل يمكننا القول، ولو في حدود، بأن الآخرية تفترض الفردانية. ألم تُظهر ذلك كل من المسيحية والكانطية، بتعريفهما للأخلاق من خلال كونها تقوم على التعامل مع الشخص الآخر كغاية؟

فيما يخص أطروحة التعارض المطلق بين المجتمعات المنغلقة والمنفتحة، يبدو بديهيا على المستوى التاريخي وكذا الأنثروبولوجي، حسب بوبر، أن الأمر يتعلق بتباين مختصر جدا : ألا توجد بين المجتمعات “البدائية” وكذا المجتمعات الحديثة فوارق لا نهائية؟ نحن نعرف بأن الإثنولوجيا المعاصرة، قد ركزت، مع ليفي شتراوس على الاستمرارية بين المجتمعات القديمة والمجتمعات التاريخي .من جهة، التأكيد الساذج على “مجتمعات بدون تاريخ”، يخفي في الأصل إرادة لفهم العالم، وإعطاء المعنى لوقائع بتصنيفات وحكايات أسطورية. ومن جهة ثانية، فالقواعد الرمزية والموانع، بعيدا على أن تكون وقفا فقط على “البدائيين” ،هي من صنع كل المجتمعات، والإنسان لا يمكنه أن يعيش اجتماعيا، دون خلق نسق ثقافي متعارض مع اقتضاءات الطبيعة، ويقوم بالتأكيد على المحظور والرمز. وإذا رأى بوبر أنه من المفيد التركيز على التمييز الجوهري بين نمطي المجتمعين (حيث لا يجب بالتأكيد البحث عن إعطاء أمثلة ملموسة في التاريخ بطريقة قطعية صارمة) ، فلأنه يعتبرهما كأنماط “مثالية” (بلغة ماكس فيبر) وظيفتها توضيح التحليل.

يمكننا فضلا على ذلك، ملاحظة نوع من التشابه يقارب الفصل الذي أقامه بوبر وكذا ليفي شتراوس، بين المجتمعات التي هي “بلا تاريخ”، أو ” الباردة” -هكذا تسمى قياسا مع الآلات الباردة مثل ساعة التوقيت- ثم المجتمعات “الساخنة” المسماة كذلك قياسا للآلات الساخنة مثل الآلة البخارية. هاته الأخيرة، تستهلك قدرا كبيرا من الطاقة، وتنتج كثيرا من العمل كما تنمي التوترات والتفاوتات الاجتماعية. لكن إذا كان ليفي شتراوس ينزع نحو تفضيل المجتمع البارد، الذي حسم أحيانا قضايا الحضارة التي نصطدم بها – الديموقراطية، واستبعد الصراعات وخاصة صراعات الأجيال، والتواصل بين الأفراد- فإن بوبر يعطي قيمة أكثر للمجتمع التاريخي، لأنه وحده يمكّن من تطوير العلم، ويدفع بلا توقف الاختلاف الفردي.

حسب بوبر،الحنين إلى المجتمع المنغلق، يخلق في العمق إمكانية النزوع نحو التوتاليتارية. لماذا هذا الحنين؟.الانتقال من المجتمع المنغلق إلى المنفتح، لم يتم دون إحداث صدمة للوعي الإنساني.لأنه من جهة، كان منبعا لصعوبات جسيمة(صراع الطبقات هو بمعنى ما نتيجة لاختلاف المهام والأفراد، وفي الواقع فإن مجتمعا فردانيا بالنسبة لـ بوبر، لا يمكنه تجنب الحد الأدنى من الصراعات، ومجتمع بلا صراعات سيكون مجتمعا للنمل).من جهة أخرى، فلأن المجتمع المنفتح، أكثر اتساعا وفضائية، وأقل حماية من المجتمع المنغلق. وبما أن الإنسان، حسب التحليل النفسي، ينجذب حتما وبشكل ارتدادي إلى مرحلة الطفولة (بل وإلى مرحلة ما قبل الولادة) ، فإنه كذلك، في كل مرة تظهر فيها صعوبة ما، ينجذب نحو نسيان الذات والانصهار في الجماعة، والوقوع تحت تأثير الرغبة في الاحتماء بقوة فوق بشرية ذات تراتب طبيعي، كل ذلك يتم بنزوع قوي.

إذن يشكل الخروج من المجتمع المنغلق، إزعاجا للحضارة. وكثيرون من يحلمون، وراء تجزئة المجتمعات الليبرالية الحديثة، ببعث تسلطي للوحدة المجتمعية. فالفاشية،وبصورة أقل بعض أشكال الحركة الشيوعية، هما التعبير عن هذه الرغبة النوستالجية. ومع أنه لا يمكننا نفي حتمية النضج والانتقال إلى مرحلة الرشد، فلا يمكننا أن ننكر أن التطور الاجتماعي نحو المجتمع المنفتح، أمر غير قابل للارتداد. العودة إلى الوراء مستحيلة : وقف التحول السياسي لا يمكنه خلق السعادة. ولا يمكننا أبدا العودة إلى ما يفترض من تناغم وجمال المجتمع المنغلق، حينما نشرع في استعمال قوانا النقدية، يستحيل العودة إلى مرحلة الخضوع الضمني لـ “سحر القبيلة”. من جهة ثانية، فأولئك الذين يتوخون بالرغم من كل شيء النظر إلى الوراء لا يصلون في الواقع إلا إلى إنشاء أنظمة الرعب. الرومانسية التي “تحلم بعالم الجمال” ،تنتهي بخلق الجحيم.

يجب إذن حسب بوبر، دحض كل الإيديولوجيات التي تقوي الحنين إلى المجتمع المنغلق، ودعوة الأفراد إلى النهوض بالمجهود النقدي.

________________________________________

1 Renée Bouveresse : Le Rationalisme critique de Karl Popper ; ellipses 2000 ; pp66 70.

‫تعليقات الزوار

3
  • بوبر بشلار وبياجي
    الأحد 31 غشت 2014 - 21:50

    عندما نتحدت عن بوبر،فنحن تلج أبحات علمية ابستمولوجية ،ولكن ضمن التقليد الانجليزي ،اي على عكس بشلار او بياجي ،فنحن مع واقعي وتجريبي ،بشلار متالي يصرح بها دائماً ،بياجي يقول انه لأزيد من أربعين سنة ،من البحت كان دائماً السؤال الفلسفي عن أسبقية الفكر او الواقع يشغله ،يقول انه لم يجد إجابة عليه ،ولدا دافع عن التفاعل بينهما ،لناخد بداغوجيا الكفاءات متلا ،والتى هي تصحيح لبيداغوجيا الأهداف ،الكل يجد صعوبة في فهمها،ولسيما الفكر الفرنسي لانها انبثقت من البحت الانجلوساكسوني ،اي وليدة تجارب ومعطيات واقعية وليس ابحاتا نظرية ،لايمكن فصل بوبر عن اشكاليات الحرب الباردة ،ومنها المجتمع المنغلق او المنفتح ،عمله في حقل الابستيمولوجيا هو رفض نظرية الانعكاس الماركسية ولهدا وعلى غرار بشلار او بياجي قدم نمادج في نظرية المعرفة ،منها فصلة بين منطق الاكتشاف ومنطق التحقق ومصطلح تزوير المعطيات ،la falsification des données وهو مفهوم يظهر واقعيته وحدود اجتهاداته ،لان الباحت يقصي بعض المعطيات،دفاعا عن فرضيات وهو مأيرفضه بوبر ويعتبره بياجي وبشار من ضروريات البناء المعرفي ،ومفهوم البناء يرفضه بوبر لانه تجريبي ،

  • saghru
    الأحد 31 غشت 2014 - 22:35

    ا لقومية العربية قومية منغلقة 100/100

  • إبراهيم المعلم
    الإثنين 1 شتنبر 2014 - 00:36

    إذا طبقنا تقسيم بوبر سنجد أن المجتمع الصيني هو مجتمع منغلق لأنه يحارب الفردانية والديمقراطية ويقدم الولاء للمجتمع على الفرد، ولأنه يؤمن بقوة الأجداد ويحن إلى عوائد الماضي. في حين المجتمع الأمريكي هو مجتمع منفتح لأنه يؤمن بالتاريخ ويمجد المبادرة الفردية على حساب الأسرة. هذا التقسيم البوبري يجب ألا يخدعنا فهو تقسيم ينطوي على اعتبارات سياسية مكشوفة لاتخفى على أحد ويخلو من أي اعتبار أكسيولوجي. إنه تقسيم في نهاية المطاف يريد تمجيد النموذج الأمريكي على حساب المجتمعات الأخرى التي أثبتت- كالصين وطايوان..- مثلا قوة ثقافتها. المجتمع المنفتح بات اليوم فريسة للمخدرات والجريمة والتفكك الأسري وكل اشكال الأمراض النفسية بسبب تخريب نسيج الأسرة وقتل التضامنات المجتمعية باسم الفردانية. المجتمع المنفتح اليوم لاينفتح على المجتمعات الأخرى من أجل إقامة علاقات ود ومحبة وإنما من أجل تخريب اقتصاديتها الناشئة بفعل العولمة والتدخل في سياستها باسم الديمقراطية. عندما يناقش بوبر المسائل ذات الطبيعة الابستمولوجية المحضة فإنه يتحلى بنوع من الموضوعية، أما حينما يقترب من المسائل الثقافية فإنه لايرى أبعد من أرنبة أنفه.

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين