الكتاتيب القرآنية بالمغرب،أسلوب ومنهج.

الكتاتيب القرآنية بالمغرب،أسلوب ومنهج.
الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 22:56

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق المرسلين ،


تتأسّس فكرة الكتاب القرآني على عملية اكتساب المعلومات والمعارف والخبرات المقصودة و على المنهجية في التلقين العربي الذي استطاع أن يتبوأ المكانة العليا في دراسة وتعميق القصد بالكتاب القرآني وتحسين مردوديته.


ولقد تبلورت فكرة الكتاتيب القرآنية منذ القرون الأولى للإسلام، حين اهتم المسلمون بتهذيب أطفالهم والعناية بمعارفهم والاجتهاد في تحسين وتطوير أساليب تلقين وتحفيظهم .


وهكذا سارع الناس في ذاك العصر إلى تعليم أطفالهم وتسجيلهم في مدارس الأطفال (الكتاتيب القرآنية) ليقوَّموا بالقراءة والكتابة وعُهد بتعليم هؤلاء الأطفال إلى جماعة من المعلّمين كانوا على وعي تام وإدراك صحيح باللسان العربي وباللفظ القرآني فكان في عهده صلى الهو عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده كتاتيب منتظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الأغنياء منهم والفقراء…. وتجدر الإشارة إلى أنه وجد بالمدينة دار تسمى ” دار القرآن ” أو ” دار القراء ” وأن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي القرآن الكريم ويجودوا قراءتها .


وهكذا توالى الاهتمام بالكتاب القرآني مع توالي الفتوحات الإسلامية واشتد عضد الأمة الإسلامية ورسخت في أذهانها جذور ثقافة الكتَّاب ومدى تأثيره على اللسان العربي ولهذا نجد الخليفة عبد الملك بن مروان لا يخفي أسفه على عدم إرسال ابنه الوليد للالتحاق بالبادية بغية تحسين أسلوبه في التلقين والقراءة ، على عكس أخويه هشام ومسلمة اللذين خرجا إلى البادية والتحقا بالكتَّاب فتفصحا لذلك،


وقد اجتهد أحد الباحثين في تقسيم طبقات المعلمين بهذه الكتاتيب فوجد أنهم انقسموا إلى أربع طبقات :


1. أولاها : معلّمو الكتاتيب القرآنية الذين كانوا يهتمون بتعليم أبناء الطبقة المتوسطة وعامة الشعب.


2. ثانيها : معلمو الطبقة العليا من الأمراء والأثرياء، وكان لهؤلاء المعلمين اسم يمتازون به وهو اسم ” المؤدبين”


3. ثالثها : طبقة كبار المؤدبين الذين امتازوا بسعة اطلاعهم على الثقافة العربية الإسلامية إلى جانب تعمقهم في ضروب العلم والأدب وسائر فروع المعرفة بما يقارب لدينا حاليا أساتذة الجامعات والدراسات العليا.


4. رابعها : طبقة العلماء الأعراب الذين ورثوا علم البادية وحفظوا أشعارها وقبائلها العربية ورعوا أخبارها، وكان لهؤلاء ثقافة واسعة في اللغة العربية وكانوا يطوفون على أصحاب الكتاتيب و المؤدبين وكبار العلماء فيفيدونهم من علمهم ويستفيدون مما عندهم .


وهذا التنوع في طبقات المعلمين والمدرّرين يشير لنا بأكبر دلالة على مدى الاهتمام والحرص الذي لقيه الكتاب القرآني عبر مراحل التاريخ الإسلامي ، كما أن تنوع أساليب التلقين أو اعتماد وسائل مضافة تعين على فهم كتاب الله مثل الشعر و الأدب والنحو …الخ ، جاء نتيجة لتنوع ثقافة المدرر ومدى سعته واطلاعه بباقي العلوم ، كما أن خصوصية بعض البلدان كان لها أثرها الكبير في تطوير مناهج الكتاب القرآني .


فأهل المغرب مثلا ، اقتصروا في تعليم القرآن بالكتاتيب على حفظه فقط ، فلا يخلطون بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب ، إلى أن يَحذق فيه أو ينقطع دونه .


بخلاف أهل الأندلس الذين اهتموا باللغة العربية والشعر والآداب ، حتى إذا ما برع الطفل في هذه العلوم انتقل إلى دراسة القرآن الكريم بحجة أن الطفل لا يستطيع فهم وإدراك معاني القرآن الكريم ما لم يلم بأصول اللغة العربية .


ومع ذلك فقد برع طلبة المغرب وتهذبوا في استشراف معاني القرآن الكريم بعدما صقلوا أذهانهم بكلماته دون أن يخلطوا معه غيره ، وهو المنهج الذي سارت عليه الكتاتيب المغربية ، حيث يقوم الطفل بعد التحاقه بالكتاب بمباشرة حفظ القرآن الكريم بالوسائل المعروفة (اللوح) يتابعه ويتتبع خطواته المدرّر الذي يتولى عملية العرض والسماع والتصحيح .


وقد كان لمؤسسة الكتاب دور كبير في تثبيت قيم الإسلام النبيل لدى الناشئة المغربية على امتداد العصور ، كما أن دوره لم يقتصر على تلقين هذا النشء للقرآن الكريم فقط بل تعدى ذلك في فترة الاستعمار إلى دعم ” الزاويا ” التي عرف عن رجالها العكوف والركون إلى العبادة ومناهضة الانحلال والفساد الخلقي وتحلية النفس بالأخلاق والمبادئ السامية والحليمة ، ولعل هذا الجانب قد اصّل لمفهوم واقعي في منهجية الكتاب المغربي أثمر وأنتج مرد ودية طيبة على مستوى تخريج أفواج من القيمين الدينيين الذين التزموا وحدة الثوابت الوطنية والدينية : عقديا ومذهبيا وتصوفيا .


فنحن إذا راجعنا منهجية المغاربة في تعاملهم مع كتاب الله تعالى داخل الكتاب القرآني نجدها راجحة ، لذلك استعارها فقهاء البلدان المجاورة كأهل تونس مثلا فاسترشدوا بها ورجحوها على غيرها ، وتقوم هذه المنهجية على عناية طالب القرآن بكتاب الله دون أن يشرك معه غيره في الحفظ أو العناية ، فإذا استحسن وألف أدوات الحفظ وحصل له القبول ببعض الأجزاء وخلد في فؤاده إكمال ” السلكة ” تطلّع بعد ذلك إلى متن ابن عاشر في الفقه وألفية ابن مالك في النحو وبعض الأصول الأخرى كالآجرومية ،


أضف إلى ذلك ، أن ممارسة بعض الطقوس والأنشطة – بموازاة العملية الأصلية (الحفظ) – شكّل عنصر تخلية للنفس مما من شأنه أن يحيد بها عن غير ما طلب منها ، فمن ذلك مثلا ما يعرف عند المدرّرين والطلبة على حد سواء ب”التحريرة ” ، وتعني في ثقافة الكتاب ، أن الطلبة يحملون معهم بعض الأشياء أو مبلغ رمزي من المال ليعطوه للمحفظ لقاء التعب والنصب الذي لقيه معهم طيلة الأسبوع في مقابل تحريرهم مساء يوم الخميس وصباح الجمعة ، وهذا معطى يعطينا تصورا حقيقيا عن دور الكتاتيب المغربية في دعم الأعراف ودفاعها عن الموروثات الثقافية في ارتباطها بالقيم الشرعية .


فجذور ثقافتنا المغربية في تناسق تام مع أساليب التحفيظ والتلقين لكتاب الله تعالى بهذه الكتاتيب ، فلا يمكن لواقعنا اليوم أن يتنصل لهذا الدور ولا حتى أن يتساهل في إغفال هذا المفهوم ، وإلا سنكون قد أجحفنا حق طبقة الفقهاء وتجاهلنا أسلوب الكثير ممن استفادوا من منهج الكتّاب فأصبحوا راشدين في فكرهم ، ممنهجين في كتاباتهم ومعارفهم ،


والحمد لله رب العالمين .


*خريج دار الحديث الحسنية ، باحث في الفكر الإسلامي


مشارك في عدد من الدوريات والمجلات : دعوة الحق، الإحياء، التذكرة ، العرائض، الفقه والقانون .

‫تعليقات الزوار

7
  • بدر الدين البيضاوي
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 23:04

    شكرا لك على هذا المقال الجميل الذي يعطي للكتاب القراني المكانة اللائقة به في المنضومة التعليمية، ولا ابالغ ان قلت ان اعراض الاسر عن ارسال ابناؤهم الى الكتاتيب القرانية هي السبب الرئيسي في تدني مستوى التعليم في بلادنا لان الكتاب ببساطة هو مهد اللغة العربية ومعقل الاخلاق الفاضلة (اخلاق القران الكريم) وفيها تشحذ ذاكرة الاطفال وترفع هممهم حتى اذا تمكنوا من ذلك كله سهلت عليهم كل المواد التي يدرسونها في التعليم العصري

  • amnayyyyyy
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 23:08

    اصبحت الكاتيب القرانيةفي سوس من بين الوسائل التي تستعملها الدولة المخزنيةمند مطلع القرن 12 لنشر افكار عربوية تخديرية لتطميس العقول وابادة اللغة الامازيغية ونشر الجهل بإعتبارهاانها مدرسة ثقافة علمية حتى اصبح بعض الفقهاء يتم تقديسهم وتقبيل ايدهم من جراء ترهيب الناس واخافتهم بفتوى اهوال الاخرة والقبور وغيرها من الكلاخ الدي لا محل له من الاعراب حتى اصبح الناس لديهم انفصام الشخصية

  • الدكتور الورياغلي
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 22:58

    بما أنك أيها الكاتب خريج دار الحديث الحسنية ومنتم لطينة العلماء الذين ينهلون من علوم الدين ما شاء الله، ويبثونه في الناس، فلدي لك سؤال:
    وهو: لماذا لا تعتزون بدينكم اعتزازا كليا حتى يشمل الملبس والمظهر بالإضافة لتنقية الضمير، لماذا أنت مثلا تتخلى عن الزي المغربي المسلم وتتزيى بزي العجم ؟ هل أنت حقا ترى أن ذلك من دواعي كونك رجلا عصريا، وأن الجلباب الفقهي لا معنى له ؟ وهل هذا هو ما علموك في تلك الديار ؟

  • حكيم بني ورياغل
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 23:00

    الى الدكتور الورياغلي عوض ان تناقش موضوع المقال ابيت الا ان ترفع عينك فوقه لتناقش صورة صاحب المقال ولباسه هذا من جهة
    من جهة اخرى حبذا لو تبين للقراء ايها الدكتور معنى (الجلباب الفقهي) الذي تتحدث عنه وعن المصادر التي تحدثث عنه واكون شاكر لو دللتنا على متجر يبيع الجلابيب الفقهية والاحذية الاصولية والعمامات الحديثية وغيرها من الالبسة التي فصلتها وفق هواك ولم ترد في نص من النصوص
    واخيرا هل ما يلبسه بعض الناس الان من البسة مشرقية هو اللباس الشرعي ام اللباس الشرعي هو ما كان ساترا للعورة معروفا بين الناس غير مستنكر لذى ذوي العقول النيرة والفطر السليمة

  • مار
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 23:06

    اضحك الله سنك ايها الاخ الكريم ،لقد اضحكتني
    الله يجعل ايامك كلها فرحة و سعادة ، اما اولئك المتحجرون
    فلا تبالي بافكارهم المتحجرة و المضحكة ، فلقد كثروا و اصبح
    كل من هب ودب يتكلم في الدين و يفصل و يخيط كل حسب هواه ، الله يحفظنا و يحفظ الامة الاسلامية منهم و الصلاة
    و السلام على سيدنا رسول الله.

  • أبو ياسر الخرباوي
    الإثنين 4 أكتوبر 2010 - 23:02

    أشكر الأخ بناني على هدا الموضوع الجيد الذي يبين مكانة الكتاب القرآني في تاريخ الأمة المسلمة لحبها لكتاب الله تعالى وتشبثها به .
    هذه الكتاتيب وإن كان دورها الأهم هو حفظ كتاب الله تعالى حفظا تاما فهناك أدوار أخرى مصاحبة للحفظ والتلقين وهي التربية على الأخلاق الحسنة بدءا باحترام الشيخ المعلم والوالدين والناس اجمعين وهذا يلاحظ على المتعلم في الكتاب بحيث يكون اكثر خياءا وتسامحا بالإضافة الى حب الوطن او الامة وثوابتها

  • SAID BILAL
    الثلاثاء 15 يناير 2013 - 11:36

    اشكر الاخ على هدا الموضوع الشيق واحيي حكيم بن ورياغل على رده عن التصور الخاطئ والمختزل لالدين الاسلامي المطروح من قبل الورياغلي يا سيد ورياغلي الاسلام ليس عبارة عن جلباب مغربي او عباية شرقية او جلبياية مصريةالاسلام ليس مجموعة من الاطباق المتنوعة من الطعام المطبوخ على حسب الطريقة الايطالية او على حسب الوجبات السريعة التي تفتك بالانسان الاسلام منهج ينظم فكر الانسان ووجسده حركاته وسكناته ارجو ان تقرا مرارا هدا التعليق حتى تفهمه ولكي لا تتكلم بدون علم فتضل وتضل وشكرا

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد