قبل أن يلج صاحبنا بوابة البيت الجديد ، صُعق من حيث لم يحتسب و تبعثرت حساباته، فقد لزم عليه أن يؤدي مصاريف الربط بالماء و الكهرباء، بعد أن تملص ذوي المسؤولية من واجبهم ، و تركوه عرضة للسغب و العتمة.
و بعد طول تفكير و تأمل و استشارة، أدى صاحبنا مكرها ، نيابة عن غيره ، الواجبات بالتمام و الكمال ، الواجبات التي وجبت على غيره ، و تملصوا منها منسلين صاغرين .
و ضاع حقه و تفرق بين المسؤولين ، بين الوزارة الوصية و بين القانون حمّال الأوجه ، يوجهونه كيفما يشاؤون، و بين دفاتر التحملات، التي لم يتحملها أحد و بين المقاول .
المقاول، العازف الأبرع في هذه السمفونية كلها. و صاحب الوزر الأعظم و الجريرة الكبرى ، و الذي قال وتعهد و لم يفِ ، فكان من الممقوتين.) لا نعرف أصلا لترجمة هذه الكلمة من أصلها الفرنسي إلى ما هي عليه في لغتنا ، و لا نعرف الصلة بين المقاول و القول و القليل ( .ترسو الصفقة في ميناء المقاول، الذي قدم رقما ماليا ربما أنزل عليه من السماء، و يوقع على دفتر تحملات من عشرات الصفحات، لينطلق مدججا بشرذمة من الحرفيين ، لا عهد لهم بما سينجزونه أو حتى يعلمون، و يحضر المقاول أو يفوض إلى من هو أدنى مرتبة منه ) مقاول صغير في طور النمو) مواد من الدرجة السابعة، رملا و حصى و حديدا و خشبا و زليجا،هي أقرب إلى الخردة منها إلى أي شيء آخر، و يبلط كل شي و يزوقه بصباغة تحجب الفساد المبطن، و عند الافتتاح يباركونه و يكافؤونه جراء جريرته الكبرى ، مشاريع أخرى ، ترسو عند مينائه سفنها الكبرى.
قال المقاول : قلتُ ، و لم أفعلْ ، ووعدتكم و أخلفتكم، و لي حساباتي التي تعلمون و لا تعلمون ، إني أخاف أن أكون من الخاسرين ..
ضاع حقه بين كل هؤلاء، لا يدري إلي أيهم يشتكي ، و لا بأيهم يشكو.
رُتبت الأغراض في مواضعها، و اشتهى صاحبنا روحا و راحة بالمقام الجديد ، بعد طول تعب شديد ، غير أن بالنفس غمة، تأبى ان تنزاح و تزول ، أو هو الحدس و التوجس ، بقرب وقوع كارثة أو منغص من منغصات العيش ، التي ألفها صاحبنا وخبرها، و خبٍر مواعيدها و أفانينها، فما الحياة ، إلا استعداد و توثب دائمين ، لمجابهة هذه المنغصات و هوادم المتع تلك.
لم تكن الأبواب كالأبواب، لم تكن خشبا و لا عودا و لا شيئا آخر ، فقط لوحات رقيقة كالرغيف، ما إن تصفقها ، حتى تتكسر تكسر الزجاج . مقابض الأبواب ، أسلاك تلين قبل أن تشدها ، تصر صريرا لا يطاق، و البلاط زليج ليس له من هذه الصفة سوى الاسم ، إن سرت عليه ، تقلع و انخرم من تحت أرجلك، كما تنثال رقعة شطرنج بالية اندثرت أشلاؤها.
الأبواب و النوافذ، أو أشباهها ، تبقى مواربة بنصف إغلاق ، فيأتيك الزمهرير و القر من كل مكان…
لعن صاحبنا، الحظ العاثر و لعن الشيطان، وفتح الصنابير ، فتحولت الدار إلى بركة يجري الماء إليها من كل جانب ، فمصاريف المياه لا تصرف شيئا ، فاختلط الماء العذب بالفاسد و اختلطت الأمور على صاحبنا، و قضاها ليلة ليلاء تشهد على واقعنا الفاسد المغشوش.
في الغذ، استعان صاحبنا بترسانة من الحرفيين ، كل يعمل على شاكلته لعلهم يصلحون ما أفسده ذوو النفوس الخبيثة المعطوبة ) و أنى لهم أن يصلحوا ما هو فاسد من الأساس(.
يحكي صاحبنا ، بمرارة بالغة و هو يقول : ما قض مضجعه أيان هذه المحنة ، ليس فقط حجم الخسائر التي مُني بها ، و لا وضع الدار البئيس ، بل كونه ، لم يجد ولو تبريرا واحدا ، يحتمي به ، و هو يواجه ، كم الأسئلة الهائل ، التي و جهها له أولاده، و هم يتساءلون : أنى لهذه الدار الجديدة ، أن تصاب بهذا العطل المميت، و هي حديثة البناء جديدة التشييد، براقة لماعة تبهر الناس ، و تجعلهم يغبطون صاحبها ، أو يحسدون …
في مصر الفاطمية ، تفتقت عبقرية أميرها الحاكم بأمر الله، عن حل فريد ، لم يسبق إليه أحد من العالمين،في مواجهة معضلة الغش والغشاشين، فقد كان الناس يتندرون فيما بينهم و يقولون لبعضهم البعض على سبيل التخويف و الدعابة المرة المخيفة: ” أحضر له ، مسعود !” . و لسماع هذا الاسم ترتعد فرائص المكدين ،و يُسقَط في يد المحتالين.
و للتوضيح، فإن السيد مسعود هذا، لم يكن جنديا و لا سيافا و لا مقاتلا ، كان هذا الكائن المرعب عبدا أسود ،عريضا طويلا متينا من كل الجهات،يسير إلى جانب الحاكم و هما يجوبان أسواق القاهرة و الحاكم يمارس الحسبة، و يتولاها بنفسه، الحاكم فوق حماره و آلة العقاب العظمى إلى جانبه رابضة تنظر بعينين حمراوين ، تزفر وتهدر.
فإذا ما تم ضبط متلبس بالغش و الخيانة الكبرى يُسلط عليه العبد مسعود ، فيقلب أحشاءه و يطعنه طعنة لا يقوم بعدها أبدا ،و الناس من حولهم ينظرون و يتفرجون ،ممرغا سمعته في التراب فيتوارى عن الخلق جراء ما لقيه من خزي و عار، إلى أن يجن أو يرحل أو يردم نفسه في جدثه.
مرورنا فوق صراط التاريخ ، سيكون سريعا خافتا خببا ، منشآتنا مغشوشة متداعية ، لن يذكرنا أحد ، لأن التاريخ لا يأبه بالغشاشين و لا يقيم لهم وزنا أبدا .
ولأن التاريخ كذلك ، لا يحتفظ ، إلا بالصروح المشدودة و النُصُب الصلدة ، دلالة على عبقرية أصحابها و مشيديها ، أما أبنية الطين و القش و القصب فتنصرف ، مع أول قطرة غيث و سيل ، و تجعلها ، لا أثر و لا عين .
أما ، آن الآوان أن نعيد النظر في الصفقات المعتبرة عمومية، و سبل مراقبتها و تتبعها ، و معاقبة المخالفين والإلقاء بهم في غيابات الردم و والهوى السحيقة، و بين ثنيات الشقوق و الفوالق، التي يتركونها، أثرا دالا عليهم، و على فسادهم و إفسادهم.
إنها الفسيلة التي بيد كل أحد منا ، نأبى أن نغرسها، و الحاقة لم يحن موعدها بعد ، فكيف و الجبال تندثر فوقنا ، و الكواكب و الشموس تنثال على رؤوسنا …