الأرشيف ذاكرة الأمة، حاضرها ومستقبلها

الأرشيف ذاكرة الأمة، حاضرها ومستقبلها
الجمعة 7 نونبر 2014 - 10:53

يكتسي الأرشيف أهمية بالغة لدى الشعوب، فمنذ اكتشاف الكتابة في بلاد الرافدين، سارعت مجموعة من الحضارات القديمة كمصر واليونان والرومان، إلى جمع وصيانة تراثها الوثائقي من الضياع والتلف، وذلك بغية حفظ ذاكرتها التاريخية، وتجنيبها مصير الذاكرة الشفوية المعرضة في الكثير من الأحيان للتشويه والتحريف.

إن السعي إلى تدوين أي حدث أو واقعة من التاريخ بمعزل عن الوثائق والمخطوطات سيفضي بنا حتما إلى تاريخ تغيب عنه الكثير من الحقائق، شأنه في ذلك شأن “مولود غير مكتمل الأعضاء”. فأي تاريخ للأوطان والأنام دون وثائق تسنده وتعبر عن مختلف محطاته الصغرى والكبرى!! ولأن الماضي يصلنا دائما بالحاضر، فإن الأرشيف طالما كان ولا يزال وسيظل دوما حاملا في طياته لتاريخ وحاضر ومستقبل الأمم.

وبالعودة إلى الأصل اللغوي لكلمة “أرشيف”، فإن الأخيرة كلمة يونانية الأصل مشتقة من كلمة أرشيفوم (Archivum)، وكانت تعني مكان إقامة القاضي أو المكتب العام، وقد أخذ هذا التعبير، مع توالي السنون والأحداث، أبعادا أخرى في باقي العوالم اللغوية ليجد الباحث والقارئ والمتلقي، بشكل عام، نفسه أمام ثلاثة معان يحيل أولها على الوثائق التي تم إنشاؤها أو إنتاجها أو جمعها من قبل فرد أو مؤسسة ما قصد تدوين الأنشطة اليومية، وينم ثانيها عن المصالح أو المؤسسات المسؤولة عن تدبير وتوفير سبل الوصول إلى الوثائق الأرشيفية، فيما يدل المعنى الثالث على المباني أو المستودعات التي تحفظ هذه الوثائق ذات الطبيعة الأرشيفية.

وبالإضافة إلى ما سبق التعرض له، فإن المكون اللغوي “أرشيف” يستعمل أحيانا كتعبير عما يصطلح عليه ب “الربائد” أو “المحفوظات” أو “المستندات”، لكن يبقى تعريف المجلس الدولي للأرشيف (CIA) المرجع الرئيسي في هذا المجال. ويعني الأرشيف استنادا إلى هذا التعريف الكوني “مجموعة من الوثائق مهما كان تاريخها، شكلها، حاملها، منتجة أو مستقبلة من طرف شخص طبيعي أو معنوي، أثناء القيام بالأنشطة”.

وإذا كان الكثير منا يختزل معنى الأرشيف ومجاله في تلك الوثائق القديمة المهملة الملقى بها داخل أقبية مظلمة أو على مستوى رفوف نال منها عامل الزمن فباتت متآكلة وصارت ملاذا يحتضن “الموظفين المغضوب عليهم” داخل مؤسسة معينة، فإن القيمة الحقيقية لأي وثيقة أرشيفية (مخطوطات، أشرطة، صور، سجلات، عقود، خطابات، مطبوعات حجرية، خرائط، نقوش، أقراص مدمجة، ميكروفيلم، إلخ)، تنبعث بمجرد إنشائها.

ولعل الكثير من القراء يتساءلون عن مدى أهمية حسن تدبير الأرشيف باعتباره وديعة ذات قيمة إدارية وتاريخية وفكرية وعلمية، تعبد لنا الطريق في اتجاه كشف أو وصف واقع مجتمعي ما. فزيادة على قيمته التاريخية، كوسيلة لسرد الوقائع الماضية وإثراء تاريخ البشرية وإبراز أهمية الذاكرة التاريخية ونقلها للأجيال القادمة التي لم تعايش الحدث، فإن الأرشيف يشكل بدون منازع أداة للبحث العلمي والتحصيل الأكاديمي، من منطلق كونه المادة الخام لحزمة من الأبحاث التقنية، وصماما يفيد التحقق من صحة وسلامة معطيات معينة، ما يدعو إلى إعادة التفكير في سبل حسن تنظيمه وعقلنة تدبيره، خاصة وأننا في زمن العولمة الذي يطرح تحديات شتى ذات الصلة بالحكومة المفتوحة وضمان الحق في الوصول إلى المعلومة وغيرها.

على صعيد آخر، يلاحظ أن المغرب انتظر زمنا طويلا، ليس فقط لإخراج القانون رقم 69/99 المتعلق بالأرشيف إلى الوجود (صدر بتاريخ 30 نونبر 2007)، بل كذلك من أجل إنشاء مؤسسة تعنى بتدبير أرشيف البلاد، ألا وهي مؤسسة أرشيف المغرب، التي تضم منذ تأسيسها سنة 2011 إلى الآن طاقما من الأرشيفيين من خريجي مدرسة علوم الإعلام التي تعنى بتكوين الأرشيفيين أو “الربائديين”، والذين يسدون خدمات جليلة لهذا الوطن من تنظيم وجرد وحفظ ومعالجة وإتاحة الأرشيف وفقا للمعايير الدولية المتعارف عليها عالميا، ما يجرنا إلى التساؤل عن الظروف التي يشتغل فيها هؤلاء المهنيون، والمخاطر التي يتعرضون لها بشكل يومي، وعما إذا كانوا يستفيدون أم لا من تعويضات وحوافز لن تقيهم في جميع الأحول شر فاتورة مهنتهم النبيلة، مع العلم أن المغرب عبر في الكثير من المناسبات عن إرادة سياسية قوية في اتجاه النهوض بهذا القطاع الحيوي والقائمين عليه، ويذكر هنا اختيار 30 نوفمبر من كل سنة للاحتفال باليوم الوطني للأرشيف، وإصدار منشور رئيس الحكومة (بتاريخ 6 أكتوبر 2011) الذي يذكر فيه الإدارات العمومية المركزية وجميع المصالح التابعة لها بأهمية الوثائق الإدارية والأرشيف مع ضرورة صيانتها وتنظيمها، وكذا تشكيل لجنة بين وزارية مكلفة بإعداد المراسيم التطبيقية للقانون رقم 69-99 المتعلق بالأرشيف، والتي أنهت أشغالها في مطلع السنة الحالية.

وفي جميع الأحوال، فإنه ليس علينا أن نخجل من الأرشيف المغربي بالنظر إلى الوضعية المزرية التي يتخبط فيها بسبب النسيان والإهمال اللذين لحقاه (واللذين يكونان مقصودين أحيانا)، وذلك حتى يتسنى للمغاربة اكتشاف ما كتبه وما قاله صناع الوقائع و القرارات على مستويات مختلفة !!!

خبير في الأرشيف

[email protected]

‫تعليقات الزوار

2
  • جهان
    الجمعة 7 نونبر 2014 - 16:57

    جميل أن يكتب أرشيفي من بلدنا الحبيب عن أوضاع هذه المهنة النبيلة وعن أصحابها الأجلاء…

  • youssef
    الثلاثاء 11 نونبر 2014 - 09:45

    السلام عليكم
    مقال لخص كل الجوانب المتعلقة بمجال تدبير الارشيف، من حفظ للذاكرة، مرورا بمختلف التعريفات و التأويلات (حتى القدحية منها) إلى حال القييمين على الأرشيف و ظروف اشتغالهم.
    نتمنى نجاح تجربة الارشيف الوطني و تقلد أحد أبناء مدرسة علوم الإعلام منصب تسيير المؤسسة في المستقبل.
    بالتوفيق.

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 4

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية