قصر الفساد

قصر الفساد
الخميس 12 مارس 2015 - 16:36

يسقط الفساد، شعار فاتن، كأمرأة من الزمن الأندلسي. لا أعرف لماذا لم يعد يأسرني هذا الشعار ويحرك مشاعري ؟ ربما أصبح مجرد ذكرى ووهج من الماضي .

عندما كنت صغيرا كنت أتابع بعض الأفلام والتي يحارب فيها البطل المفسدين وهم يتقمصون في كل فيلم وجها من الوجوه الفاسدة، فمرة عصابة تسرق البنوك ومرة مجموعة ضغط تبتز العمدة أوفي بعض الأحيان رئيس الدولة ومرة أخرى، تأخذ شكل مؤسسة مختصة في قطاع معين، ومرة قد تكون، جهة من الدولة سواء منتخبة أو جهاز مخبراتي، تدفع بكل ما لديها من وسائل لتحقيق أغراض ذاتية، وذلك عن طريق الابتزاز وقد يصل الأمر لبلوغ ذلك، في الاعتماد على العنف غير المشروع أو حتى تشويه سمعة طرف من الأطراف التي قد تقف لهم بالمرصاد. أليست الغاية تبرر الوسيلة كما يقول ماكيافيل؟

وكم كنت ساذجا معتقدا أن الفساد مجرد رجل مسافر يركب القطار من محطة انطلاقه وسيتم القبض عليه في آخر محطة من وصوله ، وأن البطل لديه ما يكفي من المهارات والألعاب السحرية أو ما يتوفر عليه من وثائق سرية، نزلت عليه كما ينزل الوحي ليواجه بها هؤلاء المفسدون والخارجون عن القانون ، ليقدمهم إلى رحمة العدالة التي تقول كلمتها الفاصلة القاطعة باسم قداسة القانون وعظمته.وكم كنت أخرج منشرحا من دور السينما وأنا أحكي لأصدقائي عن روعة البطل وإمكانياته الخارقة والتي تجعلك تشعر معه بالأمن والطمأنينة . و تتوسم أنه لن يكون للمفسدين من أثر في حياتنا مستقبلا، و حتى إن فاحت رائحة كريهة يوما ما سنتصدى لها ونوقف زحفها بما تعلمناه من قواعد العشق للبطل وسحره الذي لا يقاوم.آه كم هو إحساس جميل وطفولي ؟

الغريب، لم يترك لنا سمو الفساد الفرصة للتماهي مع هذا الإحساس حتى نكبر كشجرة البلوط بحيث فاجأنا جميعا بتقلده مسؤولية قيادة القطار وبأقصى سرعة. والمدهش أننا نتسابق جميعا للركوب وراءه والانتشاء بمغامراته والحديث عنه والتبرك بخوارقه العجيبة والمخلة كصوفي جديد .

وهل نشعر بأوجاعه على الروح؟ الفساد ألم إنساني يصيب القلب فتتلبد معه كل الشرايين ويضرب العقل فيفقد مقوده النوراني، وتصبح الحياة مجرد رحلة لمجموعة من القوافل لتجار في الممنوعات أتلفوا الطريق وفقدوا الثقة في كل صديق. لا أحد منا قد ينكر أنه قد يكون ضمن هذه القافلة، والتي يعتقد قائدها أنه سيصل يوما إلى نقطة الضوء وأنه يسير بالرحلة في الاتجاه المأمول .وكم سيكون محزنا عندما يكتشف بعضا من المسافرين أنهم مجرد قطيع كانوا يتبعون سرابا ونهاية قاتلين.

والغريب أن الفساد آخذ في الازدياد، يتوالد كالذباب ويمتص كل رحيق إنساني، ونحن نتصنع بأنانيتنا الحقيرة أنه شأن جماعي لا يمت لنا بصلة لمن قريب أو بعيد، إنه استهتار أخلاقي يخرجنا من دائرة الكائن المسؤول إلى المستنقع البهائمي المسلوب. إنه هروب اختياري من مواجهة الحقيقة ووجعها المرير، إنه امتحان من نكون وماذا نريد؟ هل مازال لنا اختيار في هذه البلاد السعيدة، بعد أن حولوا كتاتيبنا إلى حوانيت للبقالة ومدارسنا إلى قاعات واسعة لحلاقة الرؤوس وجامعاتنا إلى ساحات لمصارعة الثيران (الكوريدة) ومتاحفنا إلى صالونات للتجميل والموضة. وماذا عن الاحتفال بملكة الجمال التي أصبحت من الطقوس المقدسة ، إنه نظام جديد لثقافة الاستهلاك .

وهل خيار الفرجة الذي نقوم به جميعا سيوقف النزيف؟ وهل يمكن الاعتماد على المتكلمين والمتفيقهين في الإصلاح لقطع رأسه؟ قصر الفساد يتسع بنائه ويستعلى سوره ويزيد في تزين واجهته بأزهار النرجس، يستقطب في كل ليلة ليلاء مريدين جدد، ويحتفل بلاعبين يحلمون بتاج الرخاء ليفوزوا بالغنيمة ولو على حساب دم الفقير وقوته البسيط . واللامبالاة تزيد في صناعة المفسدين واحترافيتهم وتزيد في تهميش صوت الأحرار واغتيال سلطة القانون. لا تنتظروا أخرجوا قصائدكم لترجموا بها هذا القصر الذي شيدوه بسكوتنا وببؤسنا.

-كاتب وصحفي

‫تعليقات الزوار

2
  • مشاكس
    الخميس 12 مارس 2015 - 20:01

    شكرًا أستاذ ، هذا المقال يمثل لسان حال المجتمع المغربي ، " محاربة الفساد " أتخيل هذه العبارة كلوحة سريالية تحيلنا على إيحاءات طوباوية … الإشكالية واضحة و هي كيفية التوصل لآليات عملية لا أقول من أجل محاربة الفساد بل من أجل التخفيف من حدته … و قبل ذلك أرى ( وجهة نظري المتواضعة ) أنه من ضروري إعادة صياغة مفهوم إجرائي " للفساد " بحيث يشمل كل المقاربات وذلك مع مرعاة خصوصية الظاهرة بالمغرب.

  • محمد أيوب
    الخميس 12 مارس 2015 - 22:40

    من المسؤول؟:
    "..قصر الفساد يتسع بنائه ويستعلى سوره ويزيد في تزين واجهته بأزهار النرجس، يستقطب في كل ليلة ليلاء مريدين جدد، ويحتفل بلاعبين يحلمون بتاج الرخاء ليفوزوا بالغنيمة ولو على حساب دم الفقير وقوته البسيط.." ". واقع الحال الذي لا يختلف عليه عاقلان ببلدنا هو أن المسؤول عن انتشار الفساد بل واحتضانه هو المخزن ولا أحد غيره..هو الذي يحمي الفاسدين ويعفو عنهم ويقول لهم:"عفا الله عما سلف".المخزن همه الوحيد هو الحفاظ على نفوذه وسلطته وامتيازاته لذلك فهو يغدق من الريع السياسي والاقتصادي على الكائنات السياسية ما به يستقطبها ويسكتها ويخرصها مستعملا في ذلك كافة الوسائل"القانونية"وغير القانونية..الفساد موجود في كل بلاد الدنيا لكنه عشش عندنا وبنى لنفسه قصورا لا زالت تعانق عنان السماء بأبراجها العالية لأن المخزن يود ذلك ويرغب فيه لأن الفساد روحه التي لا يمكن له التخلي عنها.من يقرأ كتاب طبائع الاستبداد للكواكبي سيعلم ما يعنيه اقتران السلطة بالثروة والنفوذ..وسيعلم أيضا ما يؤدي اليه استغلال الدين لنشر الفساد وحمايته.ما نختلف به عن باقي البلدان الديموقراطية الحقيقية هو وجود محاسبةة هناك وغيابها هنا.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة