كلما سمعت اسم الطيب إلا وقفزت إلى ذهني صورة العديد ممن يحملون هذا الإسم وهم كثيرون ،منهم المبدعـَـيْن المسرحيّيْن الفذين : الطيب الصديقي والطيب العلج . الأول بشَعْرِهِ المتهدل ولحيته الكثة وسيگاره الطويل ، والثاني ببرنيطته ونظارته الطبية وابتسامته المعبرة .ولا يستقيم الحديث عن المسرح المغربي بشروطه وقواعده من دون الوقوف عند تجربتيهما معا، لما تنطويان عليه من جمالية خبيئة وروح مغربية وإنسانية مرحة وذكية لم يزدها مرور الأيام إلا توهجا وتميزا.كلاهما حظي بأول تدريب على الفنون المسرحية الذي نظمته وزارة الشبيبة والرياضة سنة 1954 والذي حضره بالإضافة إليهما كل من محمد عفيفي وخديجة جمال .
فنانان طيبان كبيران مبدعان عظيمان قد لا يجود الزمان بمثلهما من حيث المراس و الصلابة وقوة الدفاع باستماتة وعشق عن الفن المسرحي كوسيلة لتربية ذوق الجمهور وتوعيته وإمتاعه إلى آخر رمق،إضافة إلى تمسك كل واحد منهما بأسلوبه و خاصيته الفنية المميزة له ، والتي بذل كل واحد منهما من أجل إثباتها وإغنائها والبحث لها عن أنسب الوسائل والقوالب المسرحية لإبرازها للجمهور كاملة مكمولة مجهودات كبيرة و مستمرة. فنانان مسرحيان بمعنى الكلمة ، من فَمَيْهِما الطيبين انبعث أريج اللغة العربية الفصيحة والعامية والكلمات والحوارات على بساط الحكمة حينا، وفي أحيان كثيرة على جناح السخرية لإيقاظ البصائر و النفوس من غفلتها والترفيه عنها في نفس الوقت بإخراج أصحابها من وحل المشاكل والتحليق بهم بعيدا بعيدا في سماء الفن والحلم و الإبداع.
كل الأقلام الوطنية والعربية تشهدلهما بعلو كعبيهما وألمعيتهما ونجابتهما واجتهادهما وذكائهما في التأقلم مع الظروف العامة التي عاشتها البلاد يوم كانت الكلمة الهادفة والحادة محاصرة.كلاهما اقتبس من الريبرتوار العالمي لتقريب الذخيرة المسرحية الإنسانية من الجمهور المغربي :(موليير كمصدر اشتغال واستغلال مشترك بينهما ، إضافة إلى أعلام مسرحيين غربيين آخرين اقتبسا أواستلهما من نصوصهم ومسرحياتهم الكثير من المضامين والمواقف الدرامية والكوميدية التي صاغاها بمهنية عالية في قالب فني مغربي جميل ومقبول، نذكر على سبيل المثال:”محجوبة ” عن موليير ،”المفتش ” لغوغول ،”الوارث” لرينار ، “برلمان النساء” لأريستوفان ،”في انتظار مبروك” عن صمويل بكيت وغيرها .كلاهما يطبع وقوفه على الخشبة حس فكاهي ودعابة درامية عالية ومتميزة :حضور بديهة وارتجال عفوي متزن صادم ومفاجئ في بعض الأحيان، مرفوق بصرامة فنية لا ترحم لضبط تحركات الممثلين فوق الركح أثناء العرض ، مرة بالإيماء و بالحركة ومرات أخرى برفع الصوت وخفضه أوبالنظرة الموحية وذلك حسب ما يقتضيه مسار وتطور العرض المسرحي.وما قلناه عن طبيعة ردود أفعالهما الصارمة أثناء العرض المسرحي فوق الخشبة كحالة مشهود لهما بهما والتي لا ينتبه إليها إلا العارفون المجربون للميدان ينطبق كذلك على تصرفاتهما أثناء التداريب التي طبعتها كما جاء ذلك على لسان العديد من الممثلين الذين اشتغلوا معهما روح الجدية والصرامة .
كلاهما يستحق أسمى العناية بإبداعاته الخالدة دراسة وتدريسا وتعريفا وبثا وعرضا على الجمهور في التلفزة والإذاعة وعلى خشبات المسأرح من طرف الأجيال المسرحية الجديدة كي لا يطالها النسيان . فمن منا سينسى مسرحيات :بديع الزمان الهمذاني ، مومو بوخرصة ، “ديوان سيدي عبد الرحمان المجذوب” “النور والديجور” ،والقائمة طويلة، (للصديقي )..و”حادة “النشبة” “المعلم عزوز”، “البلغة المسحورة”، “ولي الله”،. واللا ئحة طويلة كذلك.( للعلج ( . كما يُحسَب لهما أيضا أنهما تركا مدرستين مسرحيتين الأولى “صديقية ” والثانية “علجية “، تخرج من كل واحدة منهما العديد من الأسماء والوجوه الفنية التي أثتت فضاءنا المسرحي والسينمائي والحقل الموسيقي والغنائي التراثي والشعبي ،ووفرتا على وزارتي الشبيبة والرياضة وزارة الثقافة في زمن ما الكثير من المصاريف والأعباء والمشاكل .كلاهما كانت له القدرة الفائقة على التقاط الجوهري و اقتناص الغريب والشاذ في طبائع البشر وسلوكياتهم وإخراج ما تختزنه الذوات الإنسانية من تناقضات و ما يبدر منها في خضم الصراع مع هموم الحياة اليومية من نزعات ونواقص ومواقف مضحكة ومبكية في نفس الوقت بسبب الصراعات الداخلية الناتجة عن التمثلات المصطخبة والمبهمة عن الكون والحياة والموت والحب والكراهية والعدل والمكر والدسائس والمقالب والطمع والحسد والمال والنساء والغيرة والخيانة والرشوة والقمع والغربة(الثقافية على وجه الخصوص) و حب السلطة والجاه ، وتحويل ذلك كله بوعي وحرفية إلى مادة مسرحية وفنية جديرة بالمشاهدة والمتابعة.
كلاهما تشبع بجذور الثقافة الشعبية المغربية واستلهم من روحها و أفضيتها:فاس، مراكش، الصويرة الكثير ،حيث دخلا سويا مع هذا الموروث الفني المتنوع في حوار سلس في أفق إخراجه من ظلمة العتمة إلى النور و تخصيبه أملا في صياغة وبناء شكل فرجوي مغربي أصيل ، تفوقا فعلا في الكثير من خطواته و مغامراته و تجاربه وتطبيقاته .كلاهما له مسار حافل بالتجارب والتراكم الإبداعي المتنوع من المسرح إلى التشكيل إلى الخط إلى الشعر بالعربية والفرنسية إلى الزجل إلى الكلمة المغناة .
كلا هما تشرب هموم الشعب ودافع عن قيم البلاد ومقدساتها وتاريخها وأعلامها دون انغلاق أو شوفينية . كلاهما حظي بمكانة خاصة في نفوس الجمهور و النقاد والمثقفين والمحبين للفن المسرحي الراقي المغاربة والمشارقة على حد سواء: الطيب الصديقي فقيه وأستاذ أنزل الروح المسرحية الأكاديمية من عليائها وأرستقراطيتها وكساها لبوسا فرجويا فانتازيا من دون إسفاف مستفيذا في تقنياته الحديثة من مرجعيته الغربية أبدع كما أراد فأجاد. و الأستاذ الطيب العلج مْعلمْ رْقايقي عصامي ، عرف كيف يوظف ثقافته الشعبية وموهبته المبكرة وخبرته في الحياة ، فخاطب الوجدان المغربي بلسان حاله ، وغرف من ثراء القول العامي ومن مَعينه الغني والفوار ، يعرف من أين و متى وكيف يهز الأوتار الحساسة، كل حالة يُلبسها بما يناسبها من نظم وتعبير ولغة فنية بسيطة تنفذ إلى قلوب المغاربة مباشرة بلا جعجعة ولا وسيط .
في ضل التوجسات والاخفاقات التي نعيشها احييت ياباادريس زمن الحكي لدى عضماء المسرح المغربي نبشت في الماضي واستطعت ان تفي لاصالة غابت ولكنها لن ولن تموت ابدا مادامت تنبع من ارض ام الحضارات مدينة افتقدنها في ضل زخم الحياة ومتاعبها …………فاس الحبيبة ……….شكرا يا معدن الاصيل