أنبوشات في المفاهيم القرآنية/ الإنفاق

أنبوشات في المفاهيم القرآنية/ الإنفاق
الأحد 29 مارس 2015 - 15:17

يحيل مفهوم الإنفاق على البذل والعطاء المادي والمعنوي. جاء في معاجم اللغة العربية: نفق البيع نفاقا راج، والسوق: قامت، والسلعة غلت ورغب فيها والرجل والدابة نفوقا: ماتا، والجرح : تقشر . وكفرح ونصر : نفد وفني، أو قل، ويجمع على نفقة ونفقت نفاقهم : فنيت نفقاتهم . ورجل منفاق: كثير النفقة. وأنفق: افتقر،كما في قوله تعالى:( إذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ) الإسراء/100 وماله: أنفده. وصرفه. قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)يس/46ونفقت نفاقهم : فنيت نفقاتهم. وأنفق الرجل إنفاقا إذا وجد نفاقا لمتاعه. وقد ورد مفهوم الإنفاق في القرآن الكريم( 71 مرة) بالصيغ الآتية:( أنفق- ينفق- أنفقت- نفقة- الإنفاق- تنفقون- ينفقون- أنفقوا- ينفقوا- أنفقتم- ينفقونها- نفقاتهم-المنفقين)، وتكرر في الآيات المكية (11 مرة) وفي الآيات المدنية( 60 مرة). والقاعدة الأولى في المفهوم ما أشارت إليه الآية من سورة الإسراء: (إذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ) التي تصور في تقرير جميل الشح في حالة البذل، وهي حالة مرضية في القلوب والنفوس، تمنع رحمة الله لو أنهم يملكون خزائنها.(قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي)الإسراء/100. هذا الأصل في الإنفاق مبتدؤه العقيدة، لذلك ذكر إحدى عشر مرة في هذا المجال العقدي، لكن تطبيقه العملي المطلوب هو في بناء المجتمع ومجاله التشريع، ولأهميته فيه تكرر (60 مرة)،وهذا من قوة دلالة المفهوم التي تعتبر ميزانا لحقيقة العقيدة ورسوخها بمفهومها القوي في القلوب، وإلا تحولت إلى زخرف ومظاهر. ولا يتصور في المفهوم الجانب المادي فحسب، بل ينصرف إلى إنفاق كل ما فيه نفع للإنسان قال الله تعالى: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)سبأ/39. وله في النص دلالة الفعل والتصرف في طاعة الله. والسؤال الذي يواجهنا اليوم في تحد كبير هو: لماذا نجد أنفسنا إزاء هذا المفهوم نتنافس في الشهوات اللحظية، والكيد والإساءة، ويغيب فينا كل فعل يرقى بالمجتمع؟ إن التطبيقات العملية للمفهوم تبدأ أولا بتأليف القلوب على الله، ليسري مفعوله في المجتمع رحمة وعطفا وبناء.

قال تعالى : (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال/64. والخير كله في الإنفاق الذي يقي النفس ويحفظها من الشح، ويدل بالممارسة على إيمان الإنسان واهتمامه بالناس، يزيل بفعله الإنفاقي فيما استخلفه الله، هم المحزون، ودمعة اليتيم، ويقيم في المجتمع مشاريع الخير التي تحفظ كرامة الإنسان، وتقي الشباب من العطالة، وتقضي على جرائم الاعتداء، وسرقة أموال الناس ونهب ممتلكاتهم، إنه الإنفاق المستمر في البناء سرا وعلانية. (وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)الرعد/24.

والإنفاق من خلال النص مرتكزه الأساس الفعل الإيماني المرتبط بالله، (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ)الرعد/24، لأنه في توجه خالص له تعالى، في مقابلة السيئة بالحسنة التي تكسر غلواء النفوس وتوجهها إلى الخير، وإن نتيجة الإنفاق المرتقبة، هي في صيانة الكرامة الإنسانية، التي تعتبر من المواقف المطلوبة فيه. فأين نحن في تصرفاتنا اليوم من هذا المفهوم الراشد؟ فالبحث في هذا السؤال وتفكيكه ينطلق من خطاب الله عز وجل: (قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً) إبراهيم/33، في التفاتة كريمة خاصة تستمر في الزمان والمكان للذين فهموا وتمثلوا دلالة وكمال الخطاب (قُل لِّعِبَادِيَ)، وهم الذين حققوا في صلاتهم التوجه إلى الله، والوقوف ببابه، وهو مظهر من مظاهر العطاء بألا يكون الإنفاق تظاهرا ومباهاة، بل يؤدى طاعة وفريضة، وقدوة طيبة في المجتمع، انطلاقا من ضمير حي قائم بالله.

وليس الذين ينفقون وهم له كارهون كما قال تعالى: (وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) التوبة/54 أو ينفقونها ليصدوا عن سبيل الله، وسبب ذلك ومبعثه في مدى ارتباطهم بالله، لأن الذي يأتي الصلاة أو العبادة مظهرا لا عن حقيقة وكمال عقيدة، لا تنتظر منه الإنفاق بتلك السجية الإيمانية المطلوبة، ولذلك نبه إليه النص قبلا في قوله تعالى: (وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى). وقد يتعذر على بعض الناس الإنفاق بالمال لفقرهم أو لقلة ذات يدهم، وينسون أن مفهومه لا يقتصر على المال، ولا يكون به وحده، بل يتنوع إلى جميع الأشياء التي فيها نفع كالعلم،والكلمة الطيبة، والابتسامة المشرقة،والسلوك الجميل الحسن، وكل خطوة من خطوات الخير، والبذل والعطاء، كل بحسب سعته (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) الطلاق/7.بدلالة الاسم بناء وكمالا (نفقة) وبالفعل(ينفقون) إثباتا وحالا، في قوله تعالى:(وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)التوبة/122. لندخل بذلك في سلك المنفقين، وأخلاق المتقين من عباد الله الصالحين.

‫تعليقات الزوار

1
  • nizar
    الأحد 29 مارس 2015 - 15:47

    إذا عرفنا أن نظرة الإنسان للنقود تكشف عن كثير من عقده و أمراضه النفسية ، أدركنا لماذا يتحرج أغلب الناس عن الكلام بحرية عن مدخولاتهم و ممتلكاتهم ، حتى مع أقرب المقربين لهم ، بل هناك من يثور ثورة عارمة إذا سئل سؤالا يتعلق بنقوده أو أسعار ممتلكاته ، و يعتبر هذه الأمور شخصية جدا لا شأن لأحد بها

    هناك شيء -إذن- في أعماق الإنسان يجعله مدركا بأنه لو عرف الناس كيف يحصل على النقود و كيف ينفقها ، أصبحت نفسه عارية تماما ، بكل ما تحويه من غموض و أسرار

    حافظ أحمد أمين

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 6

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال