الفساد المنظم و الإصلاح الغير المهيكل التقيا في مناظرة وطنية، ليحاولا إقناع الشعب الحائر المغلوب على أمره بالتصويت لأحدهما. في الحقيقة، لم يكن يوجد خيار ثالث. و الطرفان يشعران بأنه جاء وقت الحسم. و على الشعب أن يتحلى بالشجاعة و بأن يختار: الفساد المنظم أو الإصلاح الغير المهيكل.
كانا دائما يزمجران في و جه بعضهما البعض ، و إن كان الفساد المنظم بحكم تجربته الطويلة اكتسب خبرة كبيرة في خط الهجوم، مما يجعل الإصلاح الغير المهيكل دائما في حالة ارتباك و تراجع فيبدو غالبا بصورة الضعيف المتردد. يلعبان لعبة القط و الفأر. فهما يتخاصمان ليتصالحان و يتصالحان ليتخاصمان. و لكن هذا لم يمنعهما في أن يلتقيا يوميا في المساجد، و في مواسم الحج، و في الجنائز و الأعراس و المناسبات و الأعياد. فالحياة اليومية و الهوية المتأصلة و روح التعاطف و روابط القرابة و الصداقة و الانتماء للوطن كان يوحدهم.
فجوهر الاختلاف بين الفساد المنظم و الإصلاح الغير المهيكل لم يكن دينيا، و لا حتى شعائريا أو ثأرا قبليا. و لكنه كان شيئا أخر يصعب تفسيره. هل يمكن أن نقول هو اختلاف في الأسلوب؟ اختلاف في المواقف؟ اختلاف في المواقع؟ اختلاف في التجارب و الرؤى؟
الفساد المنظم كان يسيطر على الإحزاب و على النقابات و على الإدارات و على مختلف المرافق العمومية. كانت له طريقته لقبر أية عملية اختراق يمكن أن تزعزعه. فكان يختار بعناية الهياكل و التمثيليات و المسئول الذي سيدافع عنه. فهو يؤمن بأهمية التنظيم و الهيكلة، و لهذا ستجده ككتيبة لها جنود أوفياء و كل جندي له دوره و مهامه. و الولاء الأول و الأخير هو الدفاع على مصالح الفساد.
و لكن الفساد المنظم و إن كان يسيطر تنظيميا إلا أنه شاخ و ترهل فأصبح يبدو ضعيفا فاقدا للشرعية و التعاطف و الاحترام. فهو ما زال يعتمد كليا على خدامه القدامى و هو يدرك في أعماقه بأن هؤلاء و إن كانوا قد أدوا خدمات جليلة في شبابهم و أبانوا إخلاصا إلا أنهم لم يتجددوا في الأسلوب فظلوا يشتغلون بنفس الأسلوب القديم دون أن يدركوا أن كل شيء تغير من حولهم. و لهذا الفساد المنظم لم يستطع تجنيد الجيل الجديد من الشباب و لا المثقفين و لا أصحاب الكفاءات و لا النزهاء لأن هذه الفئة كانت تنظر باستغراب و عدم استيعاب لمنطق اللامنطق و العشوائية التي كان يتبناها أتباع الفساد المنظم. فاختار الفساد أن يقصي كل من ينتقده أو ينتقد أسلوبه، دون أن يستوعب بأنه بهذا يقصي فئة كبيرة من المجتمع و بأن هذه الفئة لن تصمت.
فعم الاحتقان في الأحزاب، في النقابات، في الإدارات و في الشارع العام. تكسر الاحترام و زالت الهيبة التي كانت تقف حاجزا, فالتنظيم المنظم للفساد أصبح ينظر إليه كتنظيم لا يمثل إلا نفسه و لا أحد يهتم بخطاباته و لا توجيهاته.
و بالمقابل، الأصوات التي تنادي بالإصلاح غير مهيكلة، و غير مؤطرة. بل التنظيم بالنسبة إليها أصبح مرادفا للفساد.
أوليس صحيحا بأنه متى لفظ الفساد المنظم أحد خدامه إلا و ستجد هذا الأخير قد انضم دون أن يدري إلى الإصلاح الغير المهيكل فتجده ينتقد بشدة الفساد المنظم الذي كان يخدمه سابقا بكل جوارحة. و بالمقابل متى دخل أحد اتباع الإصلاح الغير المهيكل إلى التنظيم و تم إشراكه في دوائر القرار إلا و ستجده يدافع بشدة على الفساد المنظم ناسيا كل مطالب الإصلاح التي كان ينادي بها.
و أمام فساد منظم و لكن بدون شرعية جماهرية و إصلاح غير مهيكل بقاعدة جماهرية كبيرة و لكن غير ممثلة، تنتشر الفوضى و ينتشر الاحتقان و تصاب العامة بالحيرة و الإحباط.
و غالبا ، لو لم يتصرف الطرفان بحكمة و تبصر، و لو لم يتذكرا التاريخ المشترك الذي يجمعهما، و تحليا بروح المسئولية و الوطنية فإن المستقبل لن يكون لأي واحد منهما، فصراعهما فقط سيفتن و سيضعف البلد.