التنويم الإعلامي وتخريب القيم

التنويم الإعلامي وتخريب القيم
الثلاثاء 9 يونيو 2015 - 14:00

إن النهضة الحقيقية لأي مجتمع لا تأتي من فراغ روحي وخراب قيمي، بل إن القيم والدوافع النفسية الايجابية هي بمثابة الروح للجسد والطاقة لأي جهاز، فهل يبقى للجسد معنى أو وظيفة إذا ما غادرته الروح، وهل يبقى للأجهزة مهما كانت متطورة ومعقدة التكوين نفع إذا ما خلت من الطاقة؟ فذلك مثل المجتمع إذا ما خلا من القيم الايجابية البناءة والحوافز النفسية الدافعة.

ولقد جاء في كتاب المهدي المنجرة “قيمة القيم”: إن دلالة “القيم” جمع “قيمة” كمفهوم تتنوع باختلاف الثقافات، فمثلا عند الفرنسيين لها مدلول نفسي ومعنوي، وفي اللغة العربية “القيم” مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدافع نحو الإيجابي من الأمور والقدر والمنزلة بل وحتى التنمية.

من هنا فإن غرس القيم الايجابية البانية للمجتمع، أو بالعكس غرس القيم السلبية الهدامة والمخربة، هو من يحدد درجة نهضة واستمرارية أي مجتمع في العطاء والحياة.

ولما كان الإعلام على أيامنا من أبرز محددات صناعة ثقافة المجتمعات، بل وقناعات أفراده وأفكارهم واختياراتهم وتعاملهم مع مختلف الأمور، فإن فعل الإعلام في المجتمع يعد حاسما ويحدد وجهة المجتمعات إيجابا أو سلبا.

ولمن أراد أن يعرف مدى الأهمية القصوى للإعلام في صناعة مستقبل الأنام، فلينظر إلى مطلب “هيرتزل” زعيم الحركة الصهيونية، حين دعا كافة الأثرياء اليهود المساندين للحركة ألا يمدوه بأموالهم، بل أن يعمد كل منهم إلى شراء ما يستطيع من محطات إعلامية، تلفزية، إذاعية، أو جرائد مكتوبة، لإدراكه الجيد لدور مختلف وسائل الإعلام في توجيه ثقافة المجتمع واختياراته الكبرى وتكوين قناعاته واهتماماته بل وتشكيل ولاءاته.

ومما نورده هنا ما جاء في كتاب “السيطرة الصهيونية على وسائل الإعلام العالمية”. للكاتب زياد أبو غنيمة : حيث أورد قول الحاكم اليهودي “راشورون” في خطاب ألقاه في مدينة براغ عام 1869م:

“إذا كان الذهبُ هو قوتنا الأولى للسيطرة على العالم، فإن الصحافة ينبغي أن تكون قوتنا الثانية”.

وهو ما أثبته التاريخ فيما بعد، فها هي الثقافة الغربية والأمريكية، التي ليست إلا من ثمار ما زرعه يهود الحركة الصهيونية، ها قد بات هذا النمط الثقافي المعولم يكتسح كافة أرجاء المعمور، ليشكل عند المجتمعات المستهدفة نوعا من الفصام النكد بين ثقافة الأرض والثقافة المفروضة عبر صواريخ الإعلام العابرة لكل الحدود.

رغم كثرة الفضائيات وضعف العرض الإعلامي للكثير منها، إلا أن الإعلام المحلي ببلادنا يتابعه عدد لا بأس به من الناس، خاصة بعد أن فطن إعلامنا بعد أن صار على حافة الإفلاس، إلى استخدام مختلف أساليب الإغراء المثيرة للغرائز من شهوتي البطن والهوى، فباستثناء نسبة ضئيلة من بعض البرامج الجادة، فإن غالبية برامج إعلامنا البصري بالخصوص، تسيطر عليه سهرات الرقص والرفس، وبرامج الترفيه والتتفيه، وبرامج الطبخ والنفخ.

فكلما فتحت تلفازك على إحدى قنواتنا، إلا وصادفت صور أشباه المغنين وهم يتراقصون وينطون على إيقاعات منفرة للأذواق السليمة وأصوات نشاز مقفرة، فإذا ما غيرت القناة ستجد إحداهن أو أحدهم يجرب ما لديه من خلطاته الطبخية الغريبة، ومع تكاثر هذه البرامج كالفطر.. فقدنا المذاق الطيب للطبخ الأصيل، ومع برامج الهز والنط والفز فقدنا الذوق الفني الرفيع.

ولمن أراد معرفة التأثير الخطير لهذا التنميط الإعلامي الممنهج وأثره على ثقافة واختيارات المجتمع في شتى مجالات حياته، فلينظر إلى إحصائيات المعرض الدولي للكتاب بالمغرب والتي تشير إلى أن أكثر الكتب مبيعا هي كتب الطبخ وتفسير الأحلام.

إنها لإشارة خطيرة لها ما بعدها، وتدل على أن الأمة لم تعد تهتم سوى بالأكل والنوم، فهل أمة هذا شأنها، يطمئن لمستقبلها؟

ليبقى السؤال مطروحا بخصوص من يكون وراء هذه السياسة الممعنة باستمرار في تنميط الذوق العام والهبوط بمستوى اهتمامات المجتمع إلى الغرائز والشهوات في مقابل تنويم العقل وملكات التفكير والإبداع.

إن هذا الأمر الذي قد يبدو بسيطا من وجهة نظر الكثير من شرائح المجتمع لهو أمر خطير يحدد مستقبل البلاد بأكملها..

قد علمنا إذن درجة تأثير الإعلام في صناعة ثقافة ونمط تفكير أجيال المستقبل، وعليه فإن ما يجري حاليا في إعلامنا من تنميط للأذواق وتدجين للعقول وتخريب للقيم، لهو تهديد خطير لمستقبل الأجيال وتحوير لهمم الشباب واهتمامات المجتمع عن الأخذ بشروط النهضة والنأي عن قيم الجدية والالتزام، وهو ما يؤدي إلى صناعة أذواق ضحلة بعيدة كل البعد عن الفن الراقي الذي يسمو بالأرواح والنفوس، وبالتالي صناعة أجيال رخوة باهتمامات سطحية تافهة، وعقول فارغة ونفوس محطمة الهمم.

إن سيادة هذا النوع من الإعلام البهرجي لا يساهم إلا في تأخير انطلاق قطار النهضة والتنمية، حيث أن وظيفة الإعلام كما يظهر هي تنويم المجتمع في أجواء عسلية من الرقص والغناء السوقي، ومخاطبة بطنه بأطباق بأشكال لا تنهي، وتتويهه في مسلسلات مارطونية.

كل هذا يجعل من الصعب أن تكون للفرد اهتمامات جادة وطموح وقاد للتفكير في سبل حل أزمات المجتمع والمساهمة في صناعة نهضة حقيقية، والحال أن النهضة يجب أن تتأسس على قيم العلم والعمل والروح المتشبعة بمعاني الإيمان العميق والفن الراقي وكل القيم الإيجابية البناءة.

. باحث وفاعل مدني

[email protected]

‫تعليقات الزوار

6
  • Akim
    الثلاثاء 9 يونيو 2015 - 16:33

    حاجيتك وماجيتك آشنو البرنامج اللي كيجي نهار الجمعة دايخ بايخ يضحك على اللي شافو واللي ماشافوش ؟ – خليني نفكر شوية : ماشي العروسة ؟ – لا .- شميشة ؟ – لا . – الخيط ….؟ – لا . – موازين ؟ . – لا . – قصة بنادم ؟ . – لا. – أخطر…؟- لا. – اعطيني صاكي ؟ – لا . الزين اللي فيك ؟ – لا . – البرملان ؟ – لا.- الهاربان ؟ – لا . – واد الشراط ؟ – لا. – كوميديا ؟ – لا . – هادوك اللي كايتسابقو بال……؟ – لا. – اعطيتك ……. مافهمتش وماعرفتش .. واسير احرس عليه نهار الجمعة ولا عرفتيه قلها لي بالعلالي وماتحشمش وتربح معانا قسيمة شراء بمبلغ خيالي + سيارة بالقرعة وانت وزهرك !!!!!

  • عبد الرحمن احميداني
    الثلاثاء 9 يونيو 2015 - 22:30

    لا فضض الله فاك أيها الملهم. لن نجد في ضحايا الإعلام على الإطلاق ممن لم يتداركهم الله بما يعالج من أدوائه الفتاكة؛ من يملك القدرة على التفكير بهذا الشكل الراقي الذي أقدم لك عليه وافي الشكر. لقد كنت أتهم عقلي وذوقي عندما أخلص إلى مثل الأحكام التي ذكرت مما يخص انعدام الذوق وتسييد التفاهة وتغليب الاستحمار في معظم ما يقدم. الإعلام عندنا لا يصح وصفه بالوطني لانه إعلام °°°°°نفعية لا تراعي في ما تقدم اعتبارا غير الربح. كان الله لنا.

  • ابراهيم
    الأربعاء 10 يونيو 2015 - 12:28

    مقال رائع ،ماأحوجنا الى مثل هذه المقالات التي تنور الرأي العام بخطورة الانحراف الذي وقع في وسائل اعلامنا فقد اصبحت تهدم اكثر مما تبني ، وللأسف ضرائب الشعب تصرف في افساد أبنائه ، فإلى متى تستمر وسائل اعلامنا في هذا الهراء؟ .

  • مغربي
    الخميس 11 يونيو 2015 - 23:33

    والله لقد اثلجت صدري بمقالك هذا, بارك الله فيك …

  • بشرى
    الجمعة 12 يونيو 2015 - 10:18

    مقال تطرق الى لب المشكله التي يعاني منها مجتمعنا بل بالاحرى الفيروس الخطير الذي اصاب هذه الامه والذي غسل عقول الملايين وازاغهم.عن.الطريق الصحيح. شكر موصول للاخ الكريم جمال الهاشمي وثبت الله خطاك ووفقك الى المزيد من العطاء

  • abdellatif
    السبت 13 يونيو 2015 - 21:29

    ما أحوجنا الی هذهِ المقالات التي تبعث فينا روح الأمل بأن لازال هناك كتاب بضمير حي و غيور علی قيم هذا الوطن الذي ما فتیء يهتز يوما بعد يوم تحت وطأة الفضائح الأخلاقية

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز