الكتابة والوعي الشقي أو نهاية الكاتب المثقف

الكتابة والوعي الشقي أو نهاية الكاتب المثقف
الخميس 6 يناير 2011 - 11:35

“الكاتب مثقف يساهم في المجال الرمزي، إنتاجا وترويجا، بواسطة فعل الكتابة“


الميلودي شغموم


لماذا نكتب اليوم؟ هل بقي للكتابة معنى في زمن اللامعنى الذي صنعته الحداثة ومفعولاتها؟ ألا يمكن الحديث عن الموت السريري للكاتب؟ ما حضور المثقف في إعادة تشكيل وبناء الوعي الجماهيري اليوم؟ هل يُمَكنه برجه العاجي من الاضطلاع بدوره الحضاري في التنمية البشرية؟ أليس المثقف، اليوم، شيئا من الماضي؟؟ !!


كثيرا ما تنقدح على الكاتب أسئلة من هذا الحجم متعلقة بالوعي الجمعي ضمن الإطار المرجعي الذي ينتمي إليه، باعتباره إما مثقفا عضويا أو مثقفا تقليديا بالتعبير الغرامشي، وهذه الأسئلة نفسها غالبا ما تلج عالم اللاوعي، وتصبح من صميم تشكل الذات الكاتبة والقارئة في الآن نفسه، مما قد يخلق “وعيا شقيا” للكاتب تجاه العالم والأشياء بكل تمفصلاتهما الإيديولوجية والثقافية والسياسية…إلخ؛ والوعي الشقي هو بالضرورة محصلة تناقض أنطولوجي بين ما تؤمن به الذات وما تنطلي عليه إكراهات الواقع، فتجد الكاتب بين الأمرين يقدم رجلا ويؤخر أخرى.


لم يكن، في اعتقادي على الأقل، يتصور هيجل، وهو ينحت مفهوم “الوعي الشقي” بالمعنى الذي أشرنا إليه، يعتقد أنه سيصبح ظاهرة بمعناها السوسيولوجي، تطال كثيرا من “المثقفين” سواء منهم الواعين بعظمها أم الذين لا يكترثون لذلك. ومن طبيعة هذا الوعي الشقي “الجديد” أنه يدفع صاحبه إلى الانزواء عوض الانخراط في هموم المجتمع، ما دام يؤمن بخَرَسه وصَمَمِه، ويغدو رومانسيا يستلذ بالهروب من الواقع الحقيق إلى آخر يصنعه من خلال ذاته المنفصمة.


ومنه،لم يكن غريبا أن يتساءل جم غفير من الكتاب المشهورين عن دور الكتابة(تزفيتان تودروف ورولان بارت وغيرهما) في زمن الحداثة، بالرغم من قيمتهم العلمية في مجتمع المعرفة، ودورهم الفاعل في النقد والتحديث وتشكيل الوعي الجمعي للذوات، ناهيك عن التأثير البارز في قرائهم النموذجيين في جميع بقاع العالم. لقد كان تساؤلهم تأسيسا لوضع جديد لمفهوم “المثقف” بالنسبة للمجتمعات التي تطلب التحديث، ولم تدخل بعد في الحداثة بَلْه ما بعد الحداثة.


إن المثقف ابتداء لازم للوعي الشقي إيجابا لاعتبارات مفهوم المثقف نفسه كما هو محدد في التداول الاجتماعي الفرنسي تأثيلا، حيث ارتبط المثقف بمن يقول “الحقيقة” للسلطة السياسية، دافعه الأساس معرفته وخبراته، لذلك كان إميل زولا ومن وقع معه “بيان المثقفين”، إثر حادثة دريفوس الذي اتهم بالوشاية، أول المثقفين.


يعد هذا البيان في ذاته تأصيلا لمفهوم المثقف، فكل إنسان دفعته معرفته إلى قول الحقيقة عُد مثقفا، وإلا فلا؛ فالمثقف يهَدم لأجل البناء الحسن، ويرمم الاعوجاج السياسي من خلال وعيه الشقي بأمور السياسة والثقافة معا، مما يجعله محركا أساسا في التنمية المستدامة وفاعلا فيها لا منفعلا، قادرا على التغيير نحو الأفضل.


يقضي الإطار المرجعي لمفهوم المثقف بجعل الثقافي معارضا ومناوئا للسياسي ومبينا لعثراته ونزواته وتسلطه، يجعلنا في حيرة ونحن ننعت كثيرا منا بهذه السمة، في وقت أصبح فيه القول ليس بأيدي “المثقفين”، ما داموا تخلوا عن جَوْهر الانتماء الرمزي للمفهوم، واهتموا بعَرَض تَبْيِئَتِه في التداول الاجتماعي العربي.


لقد أصبح المثقف اليوم شيئا من الماضي فاقدا لهويته وخصوصيته، حيث يذوب في السياسي، ويمسي تابعا لا متبوعا، سامعا لا قائلا، منقودا لا منتقدا، غافلا لا مبينا؛ لقد سُيِسَتِ الثقافة وابْتُلعت باعتبارها رأسمالا سلطويا بالمعنى الرمزي.


إن ما ذكرناه يجعلنا نعيد النظر في مفهوم المثقف، مادام لم يعد ضمن النخبة التي بيدها الحل والعقد في زمن التخلي الثقافي وزمن التحلي السياسي، الذي ولى دهره للدور التاريخي الذي كان يلعبه المثقف في حضارة الكلمة وبناء الفكر وتلاقحه؛ حيث إن إنتاج الفكر الذي كان يميز المثقف عن غيره لم يعد اليوم رئيسا، ما دامت التقانة الحديثة( تعددية الوسائط) تسمح بترويج الأفكار بين الجماهير بعيدا عن النخبة وسلطتها الرمزية في إنتاج الأفكار وترويجها، إننا اليوم بالتأكيد نعيش عالم نهاية النماذج، بما فيها نموذج المثقف.


لذلك، لم يعد لـ”المثقف” ما يثبت به وجوده باعتباره ذاتا مفكرة سوى قلمه، ينزوي به في برجه العاجي ليخط كلمات لا يقرؤها إلا النزر اليسير من أفراد المجتمع في زمن تخلى عن سلطة الكتابة، حيث استبدل بها سلطة الصورة في كامل تجلياتها الأكسيولوجية والإيديولوجية (بالمعنى السيميائي)، لذلك لم يعد ينظر إلى “الكاتب” باعتباره أُس النخبة المشكلة للوعي الجماهيري، وجزءا مهما منها في تحقيق الأوعاء الجمعية التي تشكل بدورها أساس التنشئة الاجتماعية التي تصبو إلى التأسيس وإعادة التأسيس للذاتين الفردية والجماعية معا، لذلك يحلو لنا أن نتحدث في زمن طلب التحديث عن نهاية “الكاتب المثقف” !


[email protected]

‫تعليقات الزوار

2
  • yassir
    الخميس 6 يناير 2011 - 11:37

    كثر الكلام وقل الفعل ,واصبح المثقف طيفاليس الا,لكأني به يفضفض عما بغقله وينثر ما برأسه لمتلقين انمحى حبهم للكلام وانتهى عشقهم للكتاب ,بدءا بكتاب الله الذي لا يمل,فأنت واجد في بيت كل واحد منا كتاب الله قد طلاه غبار ينتظر من ينفضه ,انه زمن الهجر لكل ما هو نافع ,لذلك لا تعجب أن يوصف كلام المثقف بالسفسطة أوضرب من الهذيان.وأصبح لسان حاله يقول مع الشاعر,وبي كل ما يبكي العيون أقله”””وان كنت منه دائما أتبسم.ونسأل الله الدوام والاستمرار للمثقف الملتزم ,لأن السبب,والله أعلم, في أزمة المثقف هو في تصوره الغير الملتزم ,الذي أصبح جفاء,قال تعالى “وأما الزبد فيذهب جفاء,وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”لذلك يجب اعادة النظر في نوع المثقف ,الذي كتب له المكوث من فوق سبع سماوات,

  • علاء الدين مدغيس
    الخميس 6 يناير 2011 - 11:39

    تكلمت عن المثقف العضوي، أي المثقف الذي يستمد قيمته حسب نظريةغراشي من مدى تأثيره في المجتمع و ليس لدى السلطة،لكن سرعان ما هزك الحنين إلى سلطة الفقيه لدى السلطة في أمر الحل و العقد( العلماء ) .. الثورة التكنلوجية غيرت هذاالمفهوم يا عزيزي، و لم يعد الفقيه أو المثقف أو المعلم هو المصدر الوحيد للمعرفة، هناك نوع من دمقرطة المعرفة و علم المعلومات و فعل الكتابة و الصحافة .. و هذا يدعم المفهوم الثوري للمثقف الذي جاء به غرامشي. أن تكون مثقفا اليوم يعني أن تكون ثوريا و قادرا على التجدد و التنازل عن موقع تقليدي رديف للسلطة و المكانة الاجتماعية.. المثقف الثوري اليوم عليه أن يثبت موقعه في نسيج الإنترنت و الفيس بوك و المجتمع الرقمي الذي يشكل فضاء لتجاوز السلط التقليدية و يدعم ثورة الحرية و يرسي قواعد جديدة في الكتابة كما في الحياة عامة، و لا داعي للتباكي على أطلال بئيسة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 7

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس