أُنْبُوشَاتٌ فِي المَفَاهِيمِ الْقُرْآنِيَّةِ / السَّلاَمُ

أُنْبُوشَاتٌ فِي المَفَاهِيمِ الْقُرْآنِيَّةِ / السَّلاَمُ
السبت 1 غشت 2015 - 23:27

لم يعد العالم اليوم يعرف من معاني السِّلْمَ، والسَّلاَمَ، والمُسَالَمَةَ شَيْئاً، وغدا المفهوم في ظل هذه الحروب من الأمنيات التي تتطلع إليها الدول والمجتمعات؛ فلا سَلاَمَ مع النفس، ولا سلام مع الضمير، ولا سلام مع العقل، ولا سلام مع الفكر، ولا سلام مع الناس. ولا سلام في الحياة والمجتمع. والعالم-كما لا يخفى على أحد- يعيش إشكالية عميقة مع السلم والسلام، وكل حديث عنه إنما هو في الحقيقة إِلْهَاءٌ للدول المستضعفة.

والسلام من الجذر اللغوي: سَلِمَ. جاء في لسان العرب: السَّلاَمُ والسَّلاَمَةُ: البراءة. والسلامة: العافية. ودار السلام: الجنة. قال تعالى: ( لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِندَ رَبِّهِمْ ۖ وَهُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) الأنعام/127. والسلام: من أسماء الله الحسنى. وسَلَّمَهُ الله من الأمر: وقاه إياه. والسِّلْمُ: المُسَالِمُ. تقول أنا سِلْمٌ لمن سَالَمَنِي. وقوم سِلْمٌ وسَلْمٌ: أي مُسَالِمُونَ، وكذلك امرأة سِلْمٌ وسَلْمٌ. وتَسَالَمَ القوم : تصالحوا. قال زهير بن أبي سلمى:

وَقَـدْ قُلْتُمَـا إنْ نُـدْرِكِ السِّـلْمَ وَاسِعًا بِمَـالٍ وَمَعْـرُوفٍ مِـنَ الأمْـرِ نَسْـلَمِ

وورد مفهوم السِّلْمِ في قول تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة/208. ولئن اختلف أهل التأويل في مفهوم السلم الوارد في الآية، فإنه يشمل معاني الاِسْلاَمِ والسَّلاَمِ والمُسَالَمَةِ والصُّلْحِ. قال الأشعث بن قيس الكندي:

دَعَــوْتُ عَشِــيرَتِي لِلسِّــلْمِ لمّـا رَأَيْتُهُــــمُ تَوَلَّـــــــــوْا مُدْبِرينَــــــــــــا

وتأتي الدعوة في الآية لكل مؤمن باسم الإيمان، وهو الوصف الْمُحَبَّبُ، والْمُمَيَّزُ والمُفْرِدُ، أن يدخلوا في السِّلْمِ كافة، وعدم اتباع خطوات الذين يَنْزَعُونَ إلى الحرب والتدمير، غير أن العالم بفرط البحث عن السيطرة والموارد الطبيعية، دخل في حروب ونزاعات طاحنة، مما وَلَّدَ لدى المجتمعات حيرة وقلقا، وشرودا وضلالا، جعل كل رغبة في السلام تتصادم مع مصالح الدول التي ترعى تلك النزاعات، مجتمعة أو متفرقة، وترى فيها خدمة لمشروعها.

ولأهمية السلام في الحضارات والثقافات، فقد تكرر في القرآن الكريم بجميع صيغه ومشتقاته(140 مرة) منها (79 مرة) في السور المكية، و(61 مرة) في السور المدنية. وأول ما يفيض به مفهوم السلام في مجال العقيدة على الفكر والقلب، سلامة هذه العقيدة من التحريف، والتشويه وسوء الفهم، وانطلاقها في نصاعة نحو وجهة واحدة يستقر عليها قلب المسلم، فلا تتفرق به السبل، ولا يطارده أرباب التأويلات الباطلة والجاهلة للدين، يُجَنِّدُونَهُ لضرب استقرار الدول وترويع أمنها. ولذلك نجد المفهوم يتردد في السور المكية (79 مرة). لأن من سلام العقيدة وسلامتها ينطلق البناء نحو الأمة التي تأخذ على عاتقها نشر أولوية السلام. قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا)النساء/94، وهذا الْمَقُولُ(لَسْتَ مُؤْمِنًا) هو نفي الإيمان بالسلام، ولذلك نهى القرآن الكريم عباده المؤمنين أن يتصرفوا وفق مقاييس ذاتية لا تعترف بمفهوم السلام، ولا تحترمه كما حدث في سبب نزول الآية للرجل القتيل الذي كان يخفي إسلامه عن قومه. فلما لقي المسلمين فرح بهم وأَقْرَأَهُمْ السلام، ومع ذلك قتلوه طمعا في الغنيمة. و لاشك أن هذه الحادثة تخفي رُعُونَةً وتَطَرُّفاً، نجد بعض مظاهره اليوم في الدول المفتقدة للسلام. وحتى لا ينحرف مفهوم السلام عن مساره، ينبه القرآن المسلمين ألا يكونوا في ضَعْفٍ وهَوَانٍ أمام إشكالية السلام. يقول تعالى: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ) محمد/35. فلا ضعف ولا هوان مع إعطاء السلم والدعوة إليه، فأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالله، والأعلون فكرا وتربية، والأعلون خلقا وسلوكا، والأعلون حين إشاعة السلام، وتحقيقه مع القوة لا مع الضعف والعجز والذل والهوان.

والسلام الذي تناولته نصوص القرآن الكريم، من القيم الانسانية التي وجه الله تعالى إليها المؤمنين للأخذ بها ونشرها، ولا يُلْتَفَتُ للذين يَدُوسُونَ عليها كما لا يُجَارُونَ في ضلالاتهم وبهتانهم، ولا تُهدَرُ الأوقات بالاستماع إليهم. قال الله عز وجل: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)القصص/55.

وإذا كان لا أحد ينكر أثر السلم والسلام على التنمية، فإن الدعوة إليه أصبحت ملحة، بتوجيه أنظار الناس إليه، من خلال التصور الذي وضعه له القرآن، وتربيتهم عليه، والتشبث به والدفاع عنه. فالقلوب العامرة بالمحبة والسلام تجدها في دعوة مستمرة للخير والسلام، (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يونس/25،

‫تعليقات الزوار

3
  • و التشريفات و الأوسمة
    الأحد 2 غشت 2015 - 11:40

    أحسنت و زيادة بمقالاتك المشرفة المغايرة لغالب ما تطالعنا به الصحف من مقالات لا تسلسلية و لا ترابط فيما بينها ، و أحسنتم تقديما لدار السلام و الخلد عملا و زيادة .

  • عبد العليم الحليم
    الثلاثاء 4 غشت 2015 - 00:11

    بسم الله

    في ثنايا نقده للمنطق الأرسطي

    يرأى نيكولاس هير في مقاله (تجريبيَّة ابن تيميَّة):

    1-أن هناك تشابها كبيرا جدّا بين تجريبيَّة بريطانيا وفكر ابن تيميَّة،وقد ذَكر من ذلك تكافُؤ قياس التمثيل،وقياس الشمول عند كلّ من ميل،ولوك

    2-وتعلُّق معرفتنا بالقياس والاستقراء عن طريق الحواس والتجربة،كما هي عند ميل،وهيوم

    3-وكذلك ما رآه ميل ولوك أيضًا أنَّ المسلَّمَات المنطقيَّة والرياضيَّة مشتقَّة من الواقع

    4- وكذلك الاستقراء كمفتاح للمعرفة،وُجِد عند فرنسيس بيكون

    ويمكن تعديد الكثير من هذه التشابهات بين فِكْر ابن تيميَّة وأفكار فلاسفة الغرب بعد عصر التنوير،

    وقد علَّقتِ أنكة فون كوجلجن على هذه التشابهات قائلةً:

    "لا شكَّ أنَّ هذه الموافقات في صفحة واحدة تُدهِش العقل،خاصة أولئك الذين لا يعرفون عن ابن تيميَّة إلا أنه رجل واعظ،أو مصلح نفسيٌّ،لا يملِك وراء ذلك تلك النظرةَ المعرفيَّة"

    و زادتْ على ذلك بعض الأمثلة الأخرى في سياق التأكيد على وجود تشابهات كثيرةٍ بيْن

    أفكار التجريبيين الذين تَدِينُ لهم أوروبا بالفضْل في إقامة نهْضتها الحديثة،

    وأفكار ابن تيميَّة التي وردتْ في ثنايا نقده للمنطق الأرسطي

  • abou reda.bz
    الثلاثاء 4 غشت 2015 - 18:21

    استاذي المحترم:
    لنكن صادقين شيئا ما,وكفانا نفاقا في امور ديننا فالحق واضح وضوح الشمس
    في الاية التي اتيت بها,هي كفيلة للاجابة على ان السلام ليس له مكان في القاموس الاسلامي,سورةة محمد الاية 35:
    (فلا تهنوا وتدعوا الى السلم وانتم -الاعلون -) مفادها ان لا تطلبوا السلام مع
    العدو وانتم في اوج قوتكم..بل اطلبوه في حالة ضعفكم..من اجل ربح هدنة حتى
    تتقوى شوكتهم ويكونوا اعلى قوة وشان..او في حالة اخضاع العدو للاسلام
    وذلك عن طريق الجزية (عن يد وهم صاغرون..)
    فالاية ليست في حاجة الى تاويل او تفسير,الامر الالاهي يحرض على عدم
    طلب السلام مع الاخر الا في حالة-الضعف- ما يعني ان لا يطلبوا السلام وهم
    في حالة قوة..
    فعن اي سلام تتحدث سيدي??اهو السلام الاسلامي ,ام السلام الانساني..???
    وشكرا….!!!!!

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 7

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس