قصة حقـل سياسي!

قصة حقـل سياسي!
الأحد 30 يناير 2011 - 12:32

لم يكد يمر عقد كامل على العهد الجديد حتى أشرق صباح فارقٌ على المشهد الحزبي، فقد قرر أحد الحراس السابقين أن يقتني جرارا لإعادة تخطيط “الحقل السياسي” وقلبه من جديد، ومن ثم زرع بذوره الهجينة التي لا يمكن أن تستوي على سوقها إلا باقتلاع الأعشاب “الضارة بمشروعه” حتى وإن كانت أصلية أصيلة، وبالخصوص تلك التي تختلف أصنافها -تماما- عن الفصيلة المراد استنباتها.


كل شيء في مستوى الطموح! هكذا فجأة! جُلبت البذور المختارة، واستوردت الأسمدة عالية المفعول، وحتى أمطار الخير -في غير عادتها- تغدق على التربة الهشة، لتواري آثار التشققات الناتجة عن “الجفاف السياسي” الذي عانى منه الحقل فصولا ومواسم متعاقبة.


لم يتبق -إذن- إلا مباشرة العمل، لكن من سيقود الحرث؟ كون الجرار لا يتطلب -حينه- رخصة سياقة، فالأمر لم يشكل عائقا حقيقيا، وحتى تلك الطيور “البيضاء” التي تقتات من وراء العملية لا تشكل مصدر إزعاج أيضا، فعلى الأقل يخفي بياضها ما تقتات عليه في المياه الراكدة على هامش الحقل، وآخر الأمر ستساهم -إلى جانب باقي المكونات- في تأثيث المشهد وإضفاء رونق خلاب على هذا الصباح الباكر.. صباح لا تنقصه سوى الشمس بشفافية أشعتها ودفئها الباعث على الطمأنينة، فقدت توارت المسكينة وراء سوداوية “العارض الممطر”، وغابت معها سكينة المكان بعدما انطلق هدير الجرار المتقادم، نافثـا أولى انبعاثاته التي أفسدت النسيم العليل للحقل العليل.


ترددت أصوات المحرك المتحشرج على محيط الحقل موقظة من كان نائما من موتى القرية، فالكل هنا مستيقظ من الأحياء حتى البهائم والدواب، وكثير من الطير التي تفرد أجنحتها لعنان السماء الملبدة في حرية تُغَبط عليها. فلا يمكن أن يطرأ حادث في غفلة من ساكني قريتنا العامرة؛ وحتى أولئك الذين يدّعون عمى البصر في متابعة التطورات الفلاحية، والزراعية منها خصوصا، لا تسعفهم بساطتهم البدوية وصدق البديهية في كبت نفّـاذية بصيرتهم؛ لتراهم كلما جمعتهم مناسبة يتهامسون بشأن الوافد الجديد/القديم، فهم يعرفون مهمته السابقة في الحقل، واليوم قد غير الصفة فجأة دون سابق حيثيات. وتتناسل بين ثنايا استغرابهم إشاعات عديدة، فيتحدث البعض عن حقيقة الإذن الذي فاز به الحارس لمباشرة الحرث، فيما يخوض آخرون في نوعية المزروعات الجديدة التي يشاع أنها غير مسبوقة في تربتهم، ليتساءل بعضهم عما إذا كانت ستتناسب مع “جو القرية” ليكتب لها النجاح، وما إن كان المنتوج سيسهم في طفرة مجالهم القروي نحو الحضر؟ وهكذا…


… هكذا يدور الكلام بلا نهاية رغم أن البدايات معروفة، فهم يعلمون الكثير، خاصة في تدبير الحقول ومواسم “الحصاد البارد”.. يعلمون على الأقل أن نية الحارث المعلنة تتصدرها أولوية الاجتثاث، ثم إعادة تخطيط الحقل بالشكل الذي يحقق الأهداف المحفوظة؛ والراجح أن غالبيتهم تعلم –أيضا- أن “الحقل السياسي” سبق له أن عرف عمليات مشابهة من القلب والحرث، لكن في كل مرة كانت تتدهور جودة التربة وتزيد انجرافا، دون أن تنمي الإنتاج أو تسهم في الرفع من المردودية، كما أن هذه العمليات لم تزد بعض الفصائل النابتة –حينه- إلا تشبثا بالحياة، قبل أن تفقد خصوبتها بعدما امتدت جذورها -طمعا- في معادن باطنية محرمة.


وبما أن “الجرار” يملك عجلات خلفية أكبر من محركه اليتيم، فليس هناك داع للتذكير بعبر التاريخ، وضغط الوقت لا يسمح بهكذا تخمينات. اندفع المسكين مغلوبا على أمره أمام دهشة السائق الذي وُضع في مواجهة آلة تخضع للتحكم عن بعد، تجر من ورائها عجلات مسننة ومصففة أصغر حجما، تكرر نفس الموّال في حرثها للحقل بناء على تفصيل من يملك المقود الفعلي؛ ودون أن تدري ما ينتظرها في مستقبل الطريق، حصدت كثيرَ أحجارٍ وأشواك قبل أن تأتي على الصالح قبل الطالح، لكن من دون أن تبلغ هدفها في الوصول إلى بعض نقاط الحقل؛ حيث يوجد ما يهدد نجاح المشروع، أو على الأقل، ما قد ينافس منتوجه في سوق السياسة المتواضع.


عملية القلب والحرث لم تنجح -إذن- في اجتثاث الأعشاب التي يقول صاحب الجرار أنها “ضارة”، والتي صنع منها “فزاعة الحقل” البارزة، الشيء الذي اضطره إلى “الترجل” مجدِّدا للوسائل وممهدا لعملية “الاستئصال الجذري”؛ فهو يعرف أن زخم الأحداث يتجاوز إمكاناته الذاتية، وموسم الحصاد على الأبواب، ولا يمكن لزراعته أن تنجح إلا بمساعدات رسمية؛ قد تثير مزيدا من الانتباه والريبة، لكنها تبقى ضرورية لتجاوز حالة الإخفاق الراهنة. هي “هيستيريا الحصاد” إذن! ربما انطلقت متأخرة، لكنها تطمح في كسب حصة مهمة من السوق وبنسبة تزيد عن الثلث! وتطمح قبل ذلك إلى جلب مستثمرين جددا للتغلب على مشاكلها، خاصة أولئك الذين يصدّقون الإشاعات ويطمعون في اقتسام الأوهام التي قد تصبح حقيقة!


نتيجة الثلث في “سوق السياسة” المتواضع طموحة جدا، ولأجلها تهون كل الصعاب، خاصة إذا ما وفرت الإدارة أجواء العمل الزراعي؛ وهذا ما يفسر –ربما- الاستعانة الأخيرة بالمبيدات وعلى اختلاف أنواعها! إذ يرى صاحب الجرار أن هذه الخطوة لابد منها، وإعادة قلب “الحقل السياسي” رهينة بتسهيل هذه المخاطرة… مخاطرة يتناسى معها الذين علت بالمبيدات همّتهم أنهم يهددون -في المقام الأول- كل سكان القرية في حياتهم الآمنة بتلويث تربتها ومياهها، كما لوثوا –من قبل- جوها المادي والمعنوي. ولا يضعون في الحسبان رد الفعل من كل أولئك الذين سيجدون أنفسهم بلا مقومات الحياة الحقيقية، بعيدا عن رونق العيّنات (échantillons) الزراعية المستوردة، والتي بان بوارها في سوق الاستهلاك الداخلي حتى قبل أن تستزرع!


أما المقام الآخر، فيغيب فيه عن ذهن الحارس/الحارث أن الأعشاب التي يريد اجتثاثها تملك مناعة قوية ضد مبيداته السامة؛ لأنها حين قررت مد جذورها في تلك التربة بكل مواصفاتها، علمت -ومنذ الوهلة الأولى- أن عليها أن تتكيف مع معطيات المناخ وتتأقلم مع ملوثات “البيئة السياسية”، حتى تحافظ على استقامتها وارتفاع هامتها في شموخ مهما بلغت ابتلاءات “الطقس السياسي”، وحتى لا تكون عالة على غيرها في مدها بما تحتاج من عناصر الحياة والرعاية، فتفقد خصوصيتها قبل خصوبتها كما حدث مع سالف الغلات؛ وهي بكل ذلك تكون قد أوجدت لكيانها مشروعية ذاتية في الوجود الطبيعي، فتستوي على سوقها دون خلل ومهما بلغت قوة الإبادة، وتؤتي أكلها دون كلل ومهما كان حجم “التعتيم الضوئي”، فتحصد –بذلك- غلتُها الإعجاب والقبول، وتعود بالنفع على القرية وأهلها.


أهل القرية -هؤلاء- يعلمون أن “الضرر” الذي يتحدث عنه الوافد الجديد لا يتهيأ إلا في ذهنه؛ لأنه فعلا “وافد” ولا يعرف ما يصلح لتربتهم، وهنا “جوهر الإشكال[1]” الذي لا يستسيغه من يعيشون خارج الواقع القروي ولا يحملون ثقافة وهموم أهله. وهؤلاء الأهل مازالوا يأملون أن ينتـفعوا بِغلّتين -على الأقل- بدل واحدة، وينتظرون يوما يمرون فيه -باكرا- على حقـل السياسة وقد ازدان بكل الخيرات ليقطفوا منه ما شاءت خواطرهم، ويتذوقوا حلاوة ما سـرّ له ناظرهم. فأهل قريتنا لم ولن يقبلوا من يفرض عليهم منتوجه الوحيد ويحرمهم من حقهم في الاختيار! وقد مضت سنة الأولين منهم تردد حكمتها الخالدة من أن “الحرمان وليد الطغيان”! وخاتمة الطغاة لا تخفى للعيان؛ فهل من مُذَّكِـر؟!


—–


[1] مقالة طي الإعداد بهذا العنوان (جوهر الإشكال) تنبش -بمنطق علمي- في عمق الإشكال الذي يخلق التضارب بين تصورين رئيسيين على الساحة السياسية المغربية في هذه المرحلة الحساسة.

‫تعليقات الزوار

4
  • مغربية حتى النخاع
    الأحد 30 يناير 2011 - 12:38

    ايوا ساليو علينا داك الصراع باسرع ما يمكن و اتفقو اش بغيتو تحرتو و تشاورو مع القرويين حتى هما خدو رايهم، قبل متديرو لينا شي حرثة نحصدو منها فول و طعمية و لا هريسة.
    اتفق الفلاحون الا يتفقوا

  • مغربية حتى النخاع
    الأحد 30 يناير 2011 - 12:36

    ساهلة: خليو الجرار يحرث مبغا
    و انتوما خدمو الميزان ف موسم الحصاد
    و ناس خرين يشدو المصباح يضوييو عليكم الى دترو الميزان بالليل كخخخخخ
    و الحاضي مولانا الامام اعزه الله و نصره

  • ابن المغيرة
    الأحد 30 يناير 2011 - 12:34

    حزب البام هو ظاهرة ايجابية في المشهد السياسي المغربي,فهو عرى عن نفاق هذا المشهد حيث ان المواطن لاحظ ان جميع الاحزاب لا تتوفر على برنامج تقنع به الناخبين لذا تلجا هذه الاحزاب الى السب والشتم,فالمواطن او الناخب واع تمام الوعي اروه برامجكم وهو يقرر من يستحق صوته
    نصيحتي للاحزاب ان تبتعد عن اسلوب نهش لحم البشر فهو يعبر عن السداجة نعم للمنافسة الشريفة
    يبقى السؤال من يصلح لخدمة البلد
    المغرب في مفترق طرق فمن له الغيرة………………..

  • مغربي من دبي
    الأحد 30 يناير 2011 - 12:40

    في الموسم الفلاحي تحول فجأ دلك الحارس الى فلاح ليقتني جرارا ويدخل المعترك الزراعي لا للمساهمة في ازدهار المحصول بل للتشويش على نوايا اهل القرية في بناء مشهد جديد لقريتنا ويطفئ مصباحا كان قد دب الرعب في قلوب الإ قطاعيون الكبار
    ولم يبنى مسجد في قريتنا
    والحقول ما زالت عجاف
    الى موسم فلاحي اخر و مشهد مسرحي اخر و إن لم ياتي المطر فلن نموت جوعا فقريتنا قد يأتيها القمح من عمها سام مادام لم يبنى المسجد بعد

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس