من المعرفة الأكاديمية إلى ترسيخ القيم الديمقراطية
هل يمكن أن نسند صفة المواطنة لأفراد يجهلون المعرفة بالحجاج؟ أليس تطوير المعرفة بالحجاج ينسجم مع المجتمعات التي تؤمن بالتعددية و حق الاختلاف ؟ أليس الحجاج وسيلة لتطوير ” معرفة الكينونة” التي تنسجم مع مبادئ المواطنة الديمقراطية ؟ أليس الحجاج أحكم أداة لحل النزاعات ؟ وكيف نسهم في إعداد أفراد يقبلون السلوك الديمقراطي و يؤمنون بالتعددية و حق الاختلاف و ينبذون العنف ؟ هل أعددنا زادا كافيا لجعل الفرد ” فاعلا اجتماعيا “؟ هل طورنا فيه آليات ” الحوار الاختلافي” ؟ أسئلة تطرح من خلال كتاب د. لحسن التوبي: “الحجاج و المواطنة من المعرفة الأكاديمية إلى ترسيخ القيم الديمقراطية” يربط فيه بين معرفة الحجاج و ترسيخ المواطنة الديمقراطية.
المقاربات الحجاجية:
يتناول الكتاب مجموعة من المقاربات الحجاجية العربية الإسلامية التي أصلها علم الأصول في مستوياته الثلاثة ( التدليل و التبيين و ” الآداب المشتركة”)، فباكتساب آليات الحجاج تبدد شقة الخلاف، و يرى أن بلاغة الأسلوب قد رجحت على بلاغة الحجاج.
و يرصد المسار التطوري لبلاغة الحجاج في الفكر الغربي مبرزا الفرق بين البلاغة القديمة مع أرسطو و البلاغة الجديدة مع برلمان، كما يطرح المقاربة “اللسانية الحجاجية” مع ديكرو المسماة ب” التداوليات المدمجة” و المقاربة “المنطقية الخطابية” مع كرايز حيث الحجاج نشاط يستهدف التدخل في اعتقادات و خيارات المخاطبين، و المقاربة الاستعمالية مع تولمين من خلال ” الخطاطة الحجاجية”، و يختم الكتاب بالموضوع الذي سنقف عنده و هو اكتساب الحجاج و تعلمه و الأطر المرجعية التي تبحث في القدرة الحجاجية عند المتعلم و طرق إنمائها و الفائدة التربوية المرجوة منها، ثم السبل الكفيلة التي تجعل المتعلم يتشبع بالقيم الديمقراطية والتربية على المواطنة لتمنحه الوعي بدوره الفاعل في حياته العامة أو السياسية.
تدريس الحجاج:
إن تدريس الحجاج أهم أداة تربوية لتعليم قيم التسامح و حق الاختلاف في مراحل مبكرة، حيث يوضع التلميذ في وضعيات نزاعية ذات وظيفة تربوية، الغاية منها إكسابه آليات تعليل المواقف و طرق الاعتراض دون المس بشخصية الآخر، ثم طرح الحجج المضادة لجعله يعدل عن موقفه.
هكذا نعلم التلميذ قواعد الحجاج على المستوى اللغوي و المنطقي و التأدبي، و نطور قدراته الحجاجية التي تظهر مبكرا، معتمدين على دراسات الخطاب الحجاجي المتنوعة.
رغم اختلاف التبريرات تاريخيا بين المجتمعات في تدريس الحجاج، فإن الاحتياج إليه اليوم ضرورة لتنامي الإقصاء و العنف، فما عدة أنظمتنا التربوية لإكساب التلميذ سلوكا ديمقراطيا يقبل التعددية و الاختلاف و جعله فاعلا في الحياة العامة ؟
إن نظامنا التربوي يجب أن يطرح الآراء البشرية بمنطق النسبية و أن الميزان الحقيقي هو القوة الحجاجية لها، هذا المنطق يفرضه اليوم إلغاء الحدود و الفواصل في عالم التواصل، فالحجاج هو الآلية المعول عليها في تسويق السلع و الأفكار عوض آلية الإغواء.
في الثمانينات ارتبطت أهمية الحجاج بأزمة النظم التعليمية، و اعتبر من ” مهارات التفكير”، و في فرنسا ارتبط بأزمة الأنظمة التواصلية و تجاوز البلاغة الأسلوبية خاصة مع برلمان.
و أصبح الاهتمام في الأبحاث التعليمية الديداكتيكية بنقل المعرفة الأكاديمية التخصصية إلى الأوساط التربوية لتمنح معرفة أفضل للتلميذ، فلا يمكن الحديث عن قدرته الحجاجية دون الحديث عن تعليمه و تعلمه، و السؤال هو كيف سننقل من المعارف الأكاديمية إلى تعليمية حجاجية ؟ و كيف سنهيئ الوضعيات التعلمية لتطوير هذه القدرة ؟
من المعلوم أن أي مشروع تربوي يجب أن يتفاعل مع محيطه الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي لإعداد فرد مندمج ، ممنهج، متشبع بالقيم الديمقراطية، يستطيع أن يشارك في صنع ” الرأي السياسي” و أن يتصالح مع واقعه، ف” الحياة المدرسية ” لها دور أساسي في تجاوز الإحساس بالعجز و الجهل بأبسط قواعد ” جودة الحياة”.
إن متخيلنا ” الديمقراطي”، يتسم ب”الهشاشة”، حسب إدغار موران، لأنه يتغذى من الصراعات التي قد تكون سببا في القضاء عليه، فالتعددية و الاختلاف يتجسدان في نمطين: الأول يؤدي إلى العنف المادي و إقصاء الآخر، و الثاني ” تدافع تعاوني”أو ” نزاع تعاوني” يغلب فيه الحوار و تدبير الاختلاف و المؤسساتية التربوية، و في هذا النمط يتم الاعتماد على الحجاج، فديمقراطية أي نظام تقاس بمدى إعطاء الفرصة للآراء كي تعبر عن وجودها.
المدرسة مؤسسة حجاجية:
إن المدرسة مؤسسة اجتماعية مطالبة بترسيخ ثقافة المواطنة و مناهضة ثقافة العنف، و لا يتم ذلك بمعارف جاهزة بل لابد من تنمية المواقف و السلوكات، حيث تصبح المدرسة مختبرا للحياة الديمقراطية من خلال ” الحياة المدرسية “.
و فرق بين المواطنة و التربية الوطنية التي تحصر الفرد في علاقته بوطنه، فالمواطنة معارف شاملة، مهارات للتحليل و تمييز الوقائع عن الآراء الشخصية، و قراءة للجداول البيانية، إضافة إلى التعددية و القبول بالغير و الحرية و المساواة.
إن محتويات التربية على المواطنة يقوم على معارف حول حاضر المجتمعات و ماضيها، و على معرفة قواعد الحياة الجماعية و صيغ حل النزاعات، ثم التربية السياسية على المؤسسات و كيفية اشتغالها.
إن الحياة المدرسية يحيل على كل ما يجري داخل المدرسة خاصة الفصل الذي يشمل كل مكوناتها من فاعلين و سلوكيات و توجيهات مدرسية و قوانين داخلية و أنشطة صفية و برنامج دراسي.
إذا كانت المواطنة تقوم على تحقيق الكفاية التواصلية في وضعيات مختلفة، فإنها رهينة بلغة التواصل و نظام من العلامات المرتبط بشمولية الثقافة، و عدم إتقان اللغة الرسمية هو مس بالمواطنة، و ينعكس على سلبية المواطن و مشاركته السياسية، فكيف يمكن الحديث عن المواطنة وسط الأمية ؟ و كيف يمكن الحديث عن حرية التعبير أو الانتباه إلى المضمر في الرسائل السياسية في مجتمع لا يقرأ ؟.
أما بعد:
ـ أثبتت الدراسات تاريخيا العلاقة بين حرية التعبير و بين طبيعة الثقافة التعليمية في المؤسسات التربوية التي تشجع على المبادرات الكلامية بكل حرية.
ـ إن تاريخ البلاغة لا يمكن فصله عن التاريخ السياسي، و التأثير السياسي يستدعي خطابا بلاغيا، و العلاقة بينهما اليوم شرط للحياة الديمقراطية، و نجاح المؤسسات يقتضي الرهان على المنظومة التربوية بإرساء ثقافة المواطنة الفاعلة.
ـ جعل علماء أصول الفقه تعلم الحجاج فرض كفاية و اعتبروه آلية لتبديد الاختلاف بين الأحكام المختلفة.
ـ الرهان اليوم هو ترسيخ ” معرفة ثقافية ” خاصة بالمواطنة و حقوق الإنسان، نستطيع من خلالها تجاوز أزمتنا في تدبير خلافاتنا و نسلم من تهديد تماسكنا المجتمعي.
ـ الإصلاح السياسي رهين بتنشئة تربوية، أي إقامة مشروع خاص بالتربية على المواطنة أو “التربية المدنية” حسب النماذج التشاركية أو المعرفية النمائية أو نظرية التمثلات.