عن شعبوية الخطاب الديني وتدين الشعوب

عن شعبوية الخطاب الديني وتدين الشعوب
الخميس 6 أكتوبر 2016 - 10:03

الخطاب الشعبوي فعال جدا.. أنت ترى كيف يتلاعب السياسيون في جميع أنحاء العالم بمشاعر المتتبعين عن طريق مخاطبة قلوبهم والعزف على أوتار احتياجاتهم وكيل المدح والثناء لهم بلا حدود وتقديم الوعود بلا حساب.. هكذا يتحول الجمهور الذي يحتوي ضمن أطيافه مفكرين وكتابا وصحفيين ومحامين وعلماء وأساتذة جامعات إلى مجموعة من المتحمسين يصرخون ويهتفون ويندفعون للتأييد بلا تفنيد.. تتصاعد الأصوات العاقلة قبل ذلك وبعده، وتُكتب المقالات وتُقام الندوات واللقاءات والمناظرات، لكن سلطة الخطاب الشعبوي تظل قوية جدا وهي تمسك بتلابيب الجمهور وتتودد إليه بطريقة لا تكفي في العادة لخداع عقل مفكر منفرد، لكن متى انخرط هذا الفرد في جماعة وصار واحدا من مئات يستمعون يغيب العقل الفردي ويتشكل عقل جمعي لا يفكر بل يشعر، ولا ينتقد بل ينقاد، ويكفي أن تخاطب المشترك لديه وتُسمعه ما يحب أن يسمع حتى يتبعك على الفور.. في مقابل ذلك فإن أي خطاب عملي يدعو للتفكير والنقد وإعمال الذهن ويركز على التفاصيل الهامة ويربط التزاماته بإمكاناته ويتحدث بلغة الواقع لا الخيال، لا يلقى صدى لأنه ينسحب إلى مستوى أعمق بعض الناس مهيئون له وبعضهم ليسوا كذلك، وأولئك المهيئون يملكون آراء متضاربة بصدد الطرح الذي يأتي به، فيكون خلاف ويكون نزاع ولا يبقى من ذلك بعد انقضائه إلا شعور عام بعدم الارتياح..

لكن إذا كان هناك شيء يتفوق في فعاليته على الخطاب الشعبوي فهو الخطاب الديني.. ومن طريف المفارقات أن الشأن الديني هو دوما أشبه ما يكون بحقل ألغام، والخوض فيه أو الخوض به في مجال معين أمر محفوف بالمخاطر، إلا ما كان من توظيفه في العالم العربي في نطاق ما يسمى بالإسلام السياسي.. هنا يصير الدين أداة تسهيلية بدلا من أن يكون مسؤولية، ووسيلة لخفض مستوى الصعوبة ورفع نسبة القبول لدى الناس، وما كان من خطورة منه فليس على من يستخدمه بل في تداعيات هذا الاستخدام على الشأن العام وفرص التنافس ومعايير انتقاء الأصلح.. لو كانت السياسة لعبة فيديو لكان الدين شيفرة غش (Cheat code) فيها تمنحك امتيازات على اللاعبين الآخرين، ولو كان لعبة ورق لكان الدين هو ورقة الجوكر، ولو كان مسرحية إغريقية لكان أشبه بآلية الإله من الآلة (Dieux de machine) التي كان يستعين بها المؤلفون المسرحيون لتجاوز التشابكات الدرامية في المتن المسرحي وإصلاح كل شيء متى تعقدت الأمور واختلط الحابل بالنابل، عندها يظهر ممثل على رافعة يؤدي دور أحد آلهة الإغريق ويصدر أوامره المسموعة للممثلين الآخرين فتختفي كل المشاكل في لمح البصر. هكذا كلما تعقد المجال السياسي وتشابكت أطواره وارتفع مستوى الصعوبة فيه أمكن لحزب ما أن يستخدم ورقة الدين فترفعه على حصان مجنح فوق خصومه وتهبط به في سلام على مضمار الشأن العام بغير حاجة إلى إثبات جدارته الدنيوية وكفاءته السياسية، فيكفيه أنه جاء بالوصفة السحرية.

الخطاب الديني فعال جدا جدا، وخطر جدا جدا جدا.. فأما فعاليته فتكمن في مخاطبته لمشترك عقائدي لدى جماعة كل ما يتعلق بالدين عندها قدس أقداس لا يُساءل ولا يُتساءل عن استخداماته، وجرت العادة بقبول كل ما يتعلق به بتسليم تام، وهو جوهر الإيمان على كل حال ولا مشكلة فيه ما دام شأنا فرديا خاصا، لكن عندما يتم استخدام هذا الإيمان على نطاق جماعي لتمرير خطاب معين على لسان جهة ما، فإن هذه الجهة تصير متفوقة بأشواط على أية جهة أخرى منافسة لها، لأن تراث القداسة والتبجيل الراسخ في نفوس معظم أبناء الشعوب العربية يصير عاملا لصالح هذه الجهة، وهذا خطر أولا لأنه يمنح تلك الجهة المستغلة أسبقية غير عادلة على خصومها في مضمار غير عقائدي أصلا ويجعل من الدين أداة قوية في أيديهم، وثانيا لأنه يسمح لها بتمرير خطابات هدامة في عباءة المقدس تعين على قضاء أغراض الدنيا في إهاب الدين، وثالثا لأن فيه خلطا بين الدين نفسه وبين من يستخدمونه، ومع ميل الإنسان إلى التجريد وصعوبة التعامل مع المفاهيم المطلقة عنده، يصير ميالا إلى اعتبار الدين متجسدا في سلوكات قوم قد لا يكون بينهم وبين جوهره شيء، لكنهم يعرفون جيدا كيف يجيدون توظيف مظاهره لصالحهم، فيصيرون في نظر الناس هم الدين ومن الدين، بدلا من أن يكونوا أفرادا زاعمين.. ومظهر الخطورة هنا أن هذا يُكسب هؤلاء المتاجرين سلاحا فتاكا يوجهونه لصدور خصومهم حين ينتقدونهم بحيث يصير في وسعهم إقناع الغوغاء بأن أي هجوم عليهم هو هجوم على الدين نفسه، وأن من يعارضهم يفعل ذلك لا لاختلافه معهم في ميدان العمل السياسي أو مضمار العطاء الجمعوي أو أي شأن دنيوي آخر، ولكن لأنه كافر يخشى أن يتم الله نوره ويريد أن تشيع الفاحشة في الناس.. ومع عجز كثير من الناس عن الفصل بين مستويات الفهم، والتفرقة بين الدين والتدين، والمفهوم والمصاديق، والمعتقد واستخداماته، والفكرة والمتحدث باسمها، يكون هذا في كثير من الأحيان سلاحا كافيا..

والحق أن دروس التاريخ قد أثبتت أنه ما من جهة استعانت في السياسة بالخطاب الديني إلا كان هدفها السلطة في النهاية بأيسر الأسباب.. لأنه مهما كان منجزها الفعلي ومهما كانت حقيقة نواياها ومتانة المرجعية التي تزعمها، ومهما كانت الحصيلة المتشكلة من خوضها في الشأن العام، فإنها تجد دوما لفيفا من الناس على استعداد لتصديقها والتماس الأعذار لها والدفاع عنها وتبرير أخطائها وتأويل تجاوزاتها، لأنها مهما ساءت تظل جهة ناطقة باسم الدين، وما دام الدين كله حقا فلا بد أن يكون هؤلاء الناس على حق، وما دمنا نعيش في زمن فسق وفجور القابض على دينه فيه كالقابض على الجمر فلا بد أن يلقى هؤلاء الناس هجوما شديدا، وما دمنا في زمن الرويبضة فلا بد أن يتصدر المشهد متحدثون باسم العامة لا يجدر بالمسلم أن يلتفت لهم.. باختصار شديد: مهما كانت منجزاتك ضئيلة أو معدومة فإن توظيفك للدين يمنحك مكتسبا لا يُسحب منك، أشبه شيء بذلك المبلغ المضمون الذي يربحه المتسابق في برنامج “من سيربح المليون” فلا يخسره بعدها مهما تخبط في أجوبته بعدها وفشل في التعامل مع ما يُطرح عليه من أسئلة لاحقة.. استخدام الدين بهذا الشكل يضمن لك أنه مهما أفلس أداؤك فإنك ستظل تملك بوابة خلفية تتيح لك الفرار دائما والبدء من جديد بمجموع نقاط لا تخسرها مهما حدث ومهما فعلت. ألستَ متدينا تصلي وتستشهد في كلامك بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كيف لا تكون محقا إذن وكيف يسعنا ألا نصدقك؟ مغالطة منطقية أو مغالطتان، وقدر من الجرأة، واعتماد على دغدغة مشاعر الناس وذاكرة الجمهور السمكية، ويصير بوسعك الاستمرار لجولة أخرى. والنتيجة أن للتاريخ كلمة يقولها في شأنك في النهاية قد يصدمك مضمونها، لأن التاريخ – لحسن الحظ – ليس شخصا متدينا يمكنك التأثير على مشاعره، إنه صارم لا يحابي ولا يجامل ولا يتوقف طويلا عند التجارب غير الموفقة.

‫تعليقات الزوار

5
  • مواطن عادي
    الخميس 6 أكتوبر 2016 - 12:29

    مقال في منتهى العمق. وهذا ما سيجعل حظوظه في الانتشار ضعيفة لأنه يخاطب العقل. ففي ظل الشعبوية وهذا الهروب الجماعي الرهيب من صوت العقل، كل من يتقن الشعبوية وخاصة باسم الدين ينتشر انتشار النار في الهشيم. وكما قلت التاريخ لا يقف كثيرا عند التفاهات، لذلك لا خوف على المستقبل البعيد، لكن في انتظار ذلك سيظل الذباب في سعي كثيف نحو مصدر الرائحة الكريهة أي نحو الشعبوية الدينية.

  • الوردي
    الخميس 6 أكتوبر 2016 - 21:40

    تحليل عقلاني دقيق يجعلنا نؤمن بضرورة الفصل بين الدين والخطاب الديني، ثم بين الدين والتدين، ثم بين الدين بوصفه غاية والدين بوصفه وسيلة رخيصة. فعلا المقال يكشف مغالطات خطيرة تراكمت عليها أحداث أطفأت كل أمل لنا في الإصلاح والتطور. شكرا أستاذ إلياس على هذا المقال الرصين.

  • باحث عن الحقيقة
    الجمعة 7 أكتوبر 2016 - 07:14

    مقال في الصميم في الحقيقة كي بان ليا بلي ما كاينش تكافؤ بين الأحزاب كين حزب واحد لي مخرج عينيه وكيستمد القوة ديالو من الدين وهذا اجحاف في حق الأحزاب الاخرى لي ماعندهاش هاد السلاح الخطير لان حزب الخوانجية وخا ما يديرو والو للمواطن متعاطفين معاه لان المواطن مسكين كيقول ليك واخا مادارو والو مكايسرقوش وهذا هو الخطير في الامر وفِي حد داتو راه امتياز للحزب اما الأحزاب الاخرى ما عندهاش مسكينة هاد السلاح إذن الى نجح شي حزب اخر من غير الاخونج فبرافو عليهم ويستاهلوا علاش لأنهم نجحو بلا ما يستعملو سلاح الدين ويستاحقو اما بنزيدان ورباعتو بلا دين وما يسواو والو الى كانو رجال ماي وظفوش الدين ويدخلو لانتخابات وديك الساعة الى نجحو بصحتهم اما ما حدهم كي وظفو الدين فالمسألة غير متكافئة ولهدا انا كندعو الدولة تتدخل الى نجح البيجيدي ولو أدى الامر الى حل الحزب او يغير من الأيديولوجية الخطيرة لي كيتبنا بصراحة راني غيت من هاد بنزيدان راه راسو مسوس بالافكار البالية ديال القرن السابع ما يليقش يسير حتى إدارة عادية

  • أبوندى
    السبت 8 أكتوبر 2016 - 01:08

    مقال جيدجدا.الخطاب الديني يستهدف الجزء العاطفي أكثر من الجزء المنطقي من العقل كما انه يسوق للأسطورة والخرافة باعتبارها معارف تكون قريبة وواضحة المعالم بالنسبة للفكرالبسيط أكثرما يسوق للخبرالموضوعي العقلاني والمجرد الذي يتطلب قراءة وتفحصاواستنتاجا وجهداعقليا بغرض فهمه أو تأويله.لهذاالسبب يتم فهم والتقاط معاني الفكر الديني من طرف العامة بما ينطوي عليه من أفكاروتعاليم وتعليمات حتى وان كانت تتضمن اخطاءا أومغالطات أوأخطاراوذلك ،كما ورد بالمقال،لكون هؤلاء لهم ايمان بذلك الخطاب وهم لايشكون في نزاهة وصدق مخاطبيهم.هذا هو المشكل الرئيسي في الدول الإسلامية حيث توجد نخبة عارفة (حتى لانقول عالمة)بخبايا الدين توظف من داخله ما يخدم مصالحها لتبقى في عالية القوم تضلل البسطاء وحتى كثيرا من المتنورين وتحرص على أن تظل في مناصب التحكم الفكري وحتى الإداري وتتكررالأسطوانة مادامت الثقة والايمان تطغى على ملكات المنطق والموضوعية والعقلانية الى درجة كراهية الانسان المتدين لكل خطاب يحس به أنه يناقض خطاب الفقهاءوهذا من أسباب تخلف دولناعن ركب التقدم والازدهار في جميع القطاعات المنتجة والمربحة ماديا وثقافيا.

  • عبد الرحمن
    السبت 8 أكتوبر 2016 - 13:49

    هكذا نحنُ، يا مَعشرَ "المثقفين"، لأننا نحبُّ التصفيقَ وأن يُعجَبَ بنا الرأي العامّ، وأن يُقالَ فينا "نُزَهاء" وموضوعيونَ وأحرارُ فكر، فنَرضى عن أنفسنا ونغتبط ونتوهم أننا قد نوَّرْنا الرأي العامّ ووجَّهْنا الناسَ الوجهة الصحيحَةَ وحذّرْناهم من "تُجّار الدّين". يأسفُ "المثقفون" ويَقولون نَحن في أزمَة وفي هموم لا تنقطعُ نفكّر في الشعب ومصالحه وننشر فيه الوَعي الصحيح، ويأتي تُجّار الدّين فيستعبدُون قُلوب الشعب بإحسانهم إليه؛ ولكن يا معشرَ "المثقَّفين" أينَ كنتُم عندَما كان "تجار الدّين" يتغلغلونَ في الأحياء الفقيرَة المنسية يوزّعونَ عليْهم الزيت والطحين والسكر ويُصلحون شَوارعَهم المَعطوبَة ويأخذون بأيدي المرضى والأرامل؟ أين كنتُم؟ الجَواب: كنّا نفكّر في مصالح الشعب؟، وأين كنتُم "تُنجزونَ" فعلَ التفكير؟ في أبراجنا العاجيَة واضعينَ الساقَ على الساق نَحسو القَهوَة ونتأمل سراب الدخان الصاعد نستلهم منه حلولاً لمعضلات الأمّة.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات