"رقصة الأنوثة"

"رقصة الأنوثة"
الأحد 22 أكتوبر 2017 - 12:20

كلما ضاقت الحياة بنرجس، كانت تسرع إلى معبدها الصغير، كما كان يحلو لها أن تسمّيه، حيث الأرضية والجدران كانت مزينة بزراب صوفية بربرية بألوان زاهية كمتحف أثري.

تجلس في الغالب والكتاب يعانق يدها، فوق قطعة الأثاث الوحيدة بالغرفة. وهي عبارة عن أريكة من خشب الآرو الطبيعي والمغلفة بجلد ناعم؛ ولكنها مصممة كذلك لتحتوي على مكتبة صغيرة على جنباتها، بالإضافة إلى صينية صغيرة تضع فوقها عادة قطع “الكيك” مع كوب من قهوتها التركية المنسمة بالقرفة والقرنفل.

عندما رأت نرجس الأريكة في الصيف الماضي، في معرض الأثاث الذي يقام كل عام بمدينة طنجة، بشمال المغرب، لم تتمالك نفسها. فاستلقت عليها أمام دهشة البائع الذي ظل يحدق فيها. “ممنوع الجلوس” مكتوبة بعناية فوقها؛ ولكنها لم تكترث للتحذير. غمرتها نشوة عندما غطس جسدها النحيل فوق الأريكة. شعرت بأنها مصنوعة على مقاس جسدها ومنحوتة على أوتار أحاسيسها. في تلك اللحظة، الأريكة بالضبط ما كانت تحتاجه لتنتشي برقصة الروح. أخرجت دفتر الشيكات، ووقعت بدون تردد على مبلغ يعادل أجرتها لشهرين.

يناير هذا العام بارد جدا؛ ولكن نرجس لم تكترث للصقيع، فغضبها متأجج. فاكتفت بوشاح عريض من الكشمير وضعته فوق كتفيها وتركته يتدلى على جنبات الأريكة. كانت تحاول أن تبدو متماسكة وألا تجهش بالبكاء. تكره البكاء. لأنها تعتقد أنه بداية الانهيار، انهيارها..

حاولت مرارا أن تركز على الكتاب بيدها، بدون جدوى. أغلقته وهي تضغط عليه بيديها الصغيرتين الناعمتين. سافرت عينيها في رسمة الغلاف. صورة سريالية لامرأة بتنورة قصيرة وكعب عال، معلقة في منتصف سلم خشبي مهترئ. لا تستطيع الهبوط لأن بسطة درجة أتلف أثناء تسلقها. ولا جدوى من مواصلة الصعود لأن السلم لا يوصل إلى شيء.

صورة الغلاف أزعجتها. فرمت بالكتاب بعيدا. لا بد أنه ممل وكئيب. لا تعرف ماذا دهاها عندما اقتنته. أغواها عنوانه “رقصة الأنوثة”. اعتقدت أنه سيروي حكايات مغرية وملتهبة. لم يخطر ببالها أنه سيكون سرياليا ليخبرها بأنه لا جدوى من الحياة والصمود. لا تستطيع أن تفهم بعض الروائيين. يكتبون مائتي صفحة ليقنعوك بأن الحياة لا طائل منها. هؤلاء ليسوا بكتّاب. إنهم مرضى ومجرمون حياة.

نرجس كانت تحب الحياة كثيرا.. أكثر من البيتزا.. من الملابس الباهظة.. من أحذية الكعب العالي… من صخب الحفلات الراقصة.. من معارض الفن الراقي.. من الموسيقى الكلاسيكية.. من القبلات المسروقة.. من رقصة الفالس.. من فن العيطة الشعبي.. من كتاب راق.. من رائحة البحر الهائج.. من طيور النورس عندما تحلق مجتمعة.. من رائحة القهوة القوية.. من عطر شانيل..

فإذا كان العالم مذكرا فإن الحياة أنثى. فما فائدة العالم بل الكون بأسره بدون حياة تحتويه وتمنحه معنى؟ لهذا، لم تكن تستسغ الأدب المتشائم المتحامل على الحياة؛ لأنها كانت ترى بأنه أدب متحامل على الأنوثة كذلك.

ونرجس عاشقة للأنوثة، لأنوثتها. وتشكر الله لأنه خلقها أنثى ووهبها الرقة والدعة.. تشكر الله وهي تسرح شعرها المتموج كل صباح.. تشكر الله وهي هائمة في خزانة ملابسها.. تشكر الله عندما ترسم شفتيها بأحمر شفاه.. وأثناء وضع الكحل وأحمر الخدود..

ولكنها كانت حزينة اليوم والحزن مذكر والفرحة أنثى. طغت صورة الغلاف على مخيلتها رغما عنها، وهامت في اللاجدوى. كيف ستصبح حياتنا عندما ستسقط في بئر اللاجدوى؟ لا جدوى من الصعود ولا جدوى من الهبوط، لا جدوى من الاستمرار ولا جدوى من الوقوف، لا جدوى من الكلام ولا جدوى من الصمت، لا جدوى من الحب ولا جدوى من الكراهية، لا جدوى من المقاومة ولا جدوى من الاستسلام، لا جدوى من الشعب ولا جدوى من الحكام، لا جدوى في الموت ولا جدوى من الحياة..

ولأن الموت مذكر والحياة أنثى، ابتسمت نرجس من جديد. وتذكرت بأن القلب مذكر والعقل مذكر؛ ولكن الروح أنثى..

‫تعليقات الزوار

1
  • العفراء
    الأربعاء 25 أكتوبر 2017 - 09:57

    وصف جميل لروح الانثى انسانا ودعوة للامل والفرح في ابسط تجلياته

    جميل ات تصبح على هذا الجمال كتابة دام رقيك حرفا .

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52

“أش كاين” تغني للأولمبيين