المد القومي وتفكيك المفكك

المد القومي وتفكيك المفكك
الجمعة 17 نونبر 2017 - 23:07

يشير العديد من المفكرين على أن بداية السلطة انطلق تاريخيا من القبيلة ومن التنظيم القبلي حيث تخضع القبيلة لسلطة قائدها او شيخها وغالبا ما تكون علاقة الزعيم مع باقي أعضاء القبيلة علاقة احترام وتقدير . هذا الاحترام يتوقف على استمرار الزعيم في التقيد بعادات وطقوس القبيلة، تعتبر هذه الرابطة عبارة عن عقد غير مكتوب تأطره عادات وتقاليد المجتمع القبلي، كما تعتبر السلطة داخل المجتمعات البدائية حسب كلود ليفي ستراوس نوع من التحكيم بين مواهب وسلطة الزعيم من جهة ، وحجم وانسجام الجماعة وإرادتها الحسنة من جهة أخرى.

وخلال القرنين 15 و16 مع اكتشاف العالم الجديد والتحولات التي احدتثها ظهور الطبقة البرجوازية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بدأت تظهر معالم الدولة الحديثة سواءا بشكلها الملكي المطلق مثل المملكة الفرنسية او الملكية البرلمانية داخل بريطانيا. وقد لعبت البرجوازية كطبقة اجتماعية طارئة على المجتمع دورا كبيرا في التحولات السياسية التي شهدتها أوربا بعدما استطاعت أن تتغلل داخل الطبقة الحاكمة وبدأت في تفكيك معالم المجتمع الفيودالي الاقطاعي الذي يمهين عليه النبلاء والاكلروس.

مع اكتشاف العالم الجديد بدأ الذهب يتدفق على أوربا بشكل غير مسبوق ، وهو ما أدخل الاقتصاد الأوربي في مرحلة جديدة أصبحت التجارة النشاط الرئيسي المهيمن وبالتالي ازداد نفوذ الطبقة البرجوازية التي كانت تتعاطى التجارة والأعمال المالية. دفعت هذه التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في اتجاه الوحدة، فالتمزق السياسي للبلدان في ظل النظام الفيودالي لم يعد يخدم مصالح البرجوازية نظرا للحواجز التي تعيق التجارة داخل البلد الواحد، لكن وحدة البلدان التي تحققت خلال هذه الفترة تداخل فيها عدة عوامل ويصعب ارجاعها إلى دوافع قومية محضة .بل كان جزء منها مرتبط بدوافع دينية او بتخوف من الخطر الذي اصبحت تشكله الامبراطورية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط، وفي هذا السياق يمكن إدخال الوحدة الأسبانية خلال القرن 15م بعد زواج فرديناند ملك الأرغون من إيزابيلا ملكة قشتالة مع احتفاظ كل مملكة بقوانينها وعاداتها ،بهدف طرد المسلمين من الأندلس ومواجهة التهديدات العثمانية ونقل المعركة نحو الضفة الجنوبية للمتوسط وهو ما تحقق في عهد حفيدهما شارلكان.

وخلال القرن 19م عرفت أوربا مدا قوميا غير مسبوق وبدأت القارة العجوز تتحه نحو الانفجار في الوقت الذي كان العديد من المفكرين مثل مازيني يتحدثون عن أمكانية إنشاء الولايات الأوربية الموحدة تتكون من جمهوريات قومية توحدها دهنبة أخوية. شكلت هذه الأفكار القومية حافزا من أجل الوحدة في البلدان التي كانت مفككة سياسيا مثل إيطاليا و ألمانيا، لكن الافكار القوية جوبهت برفض كبير من من طرف بعض الامبراطوريات المتعددة القوميات لأن مثل هذه الافكار أصبحت تهددها بالانفجار من الداخل أبرزها روسيا القيصرية والامبراطورية النمساوية التي شكلت حلفا مقدسا بزعامة مترنيخ لمواجهة الأفكار التحررية والقومية ، وحتى الدول التي كانت داعمة للأفكار التحررية والقومية مثل فرنسا أصبحت تتوجس منها بعدما أصبحت عامل تفكيك للقارة، فأعلن وزير خارجيتها في 4 مارس 1848م أن فرنسا لا ترغب في تمزيق أوربا ، رغم أن فرنسا كانت تحدوها رغبة قوية إلى جانب إنجلترا في القضاء على نظام مترنيخ في النمسا.

هذا الخوف من انتشار الأفكار التحرررية والقومية داخل أوربا والتي كانت تتجه بها نحو الانفجار نظرا لتعقد الوضعية القومية داخلها ستلعب دورا مهما في توحيد ألمانيا وإيطاليا (لم تكن كلمة إيطاليا في القرن 14م سوى تعبير عن منطقة جغرافية) واستقلال اليونان عن الامبراطورية العثمانية، لكنها سستتحول إلى آلية لتفكيك الوحدة السياسية للدول الأوربية مع نهاية الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدات السلام، فقد استند ترسيم الحدود بين الدول الأوربية إلى أحد مبادئ ولسون الأربعة عشر التي طرحها في مؤثمر السلام وهي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما أدى إلى بلقنة أوربا حيث ظهرت دول جديدة إلى الوجود مثل يوغسلافيا وتشيك -سلوفاكيا بعد تفكيك الامبراطوريات، ودخلت أوربا مرحلة جديدة خلال القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة وهي تفكيك المفكك بعض انفجار عدة صراعات داخل بعض الدول مما أدى إلى اختفائها على وجه الخريطة السياسية لأوربا لتتولد عنها دول جديدة وأبرز مثال على ذلك تفكك يوغسلافيا بعدما شهدت حروبا عرقية وقومية دموية راح ضحيتها الملايين، وانفصال التشيك عن سلوفاكيا لتصبحا دولتين بعدما كانتا دولة واحدة .

تعتبر إسبانيا كذلك من البلدان التي تجمع قوميات متعددة مثل الباسك وكتالونيا التي استطاعت أن تحقق نوعا من الاستقلال الذاتي مع بداية القرن 20م قبل أن تتعرض هذه المنطقة للاضطهاد من طرف الجنرال بريمو دي ريفيرا سنة 1925م .وكما أشرنا لذلك سابقا، توحدت إسبانيا بعد زواج سياسي بين فرديناند وإيزابيلا. لكنها ستتميز بعددم استقرار سياسي خلال القرن العشرين بفعل هيمنة جهازها العسكري على ماهو سياسي وفي هذا الاطار تدخل الحرب الأهلية بين سنة 1936م 1939م وهي الحرب التي خلفت جروحا غائرة في منطقة كاتالونيا التي كان أغلب أعضاء الحكومة الجمهورية ينتمون لها، نظرا لشدة القمع التي تعرضت له من طرف الجنرال فرانكو كإلغاء الحكم الذاتي ومنع اللغة الكتالونية في المدارس وإعدامات بالجملة في صفوف النشطاء الكتلانيين. وهو ما زاد من حدة العداء بين منطقة كتالونيا ومدريد و إدكاء التعصب القومي داخل منطقة كتالونيا، هذا العداء استمر حتى بعد التحول الديموقراطي الذي شهدته إسبانيا بعد فرانكو سنة 1975، وهو ما أدى لتنظيم استفتاء للانفصلال عن اسبانيا هذه السنة، لتعود الأفكار القومية لتهديد القارة الأوربية بالانفجار من جديد، خاصة وأن العديد من المناطق داخل أوربا أصبحت تطالب بمزيد من الحكم الذاتي مثل مقاطعة لومبارديا بإيطاليا بالاضافة للباسكيين الأسبان والفرنسيين حيث صرح أحدهم خلال مشاركته في مظاهرات لدعم انفصال كتالونيا على أنه لا يعتبره نفسه فرنسيا ويطالب كذلك بانفصال منطقته التي تقع على الحدود مع اسبانيا .

إن صلابة الدول الديمواقراطية وقوتها في الوقت الراهن تتجلى في قدرتها على تدبير الاختلاف والاعتراف بحقوق الأقليات والقوميات وحرية المعتقد، كما تقوم على أساس المواطنة والمساواة. فهل تنامي المد القومي والرغبة في الانفصال يعتبر فشلا للديمواقراطيات الغربية في تدبير الاختلاف وعدم النجاح في بناء دولة يجد الكل مكانا له فيها ؟

‫تعليقات الزوار

2
  • ابن طنجة
    السبت 18 نونبر 2017 - 14:27

    اوروبا الحالية ستلقى مصير الاتحاد السوفياتي سابقا من تفكك وتمزق الى دويلات والازمة ااسياسية في اقليم كاتالونيا ومطالبة الشعب الكاتالوني بالانفصال هو بداية المرحلة من المراحل المتتالية في انقسام كل اوروربا كما ان من مصلحة المغرب والعرب عموما وتركيا وروسيا تمزق الاتحاد الاوروبي وحلف الناتو العسكري وتفكك التحالف الامريكي الاوروبي المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة وذلك لاستعادة التوازن الجيوستراتيحي الاقليمي والدولي وادوات القوة لهذه الدول التي ذكرتها في العالم تدريجيا فاتخاذ المغرب وتركيا موقف الدعم لوحدة اسبانيا ليس حبا فيها بل تكتيك ديبلوماسي وذكي اتخد نظرا للتغيرات والتقلبات ااسياسية التي يعرفها البلدين والعالم اجمع في الوقت الراهن فلكل وقت وزمان ومرحلة قراراته السياسية

  • حقنة تنويم
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 10:21

    الحروب القادمة ستقع في الشرق الاوسط بين الخصمين اللدودين وهناك امكانية انتقالها الى شمال افريقيا مالم يتدخل الاتحاد الافريقي اما عن اوروبا فسوف تنال نصيبها من هذه المعارك اقتصاديا مما يادي الى تفكك حلف الناتو وبروز تحالف الروسي الصيني

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02

وزير النقل وامتحان السياقة