الحقيقة والزيف

الحقيقة والزيف
الأربعاء 29 نونبر 2017 - 01:37

نكاد لا نعثر على خطر أشد على المرء من أن يكون ضالّا، وربما يشكل هذا المنطوق ذاته خطورة من الحجم نفسه، بالنسبة للذين يُعدّون، حسب المنطوق ذاته، ضالين أو مارقين أو من هم في عُرفهم.

عندما يعتنق الناس (من العناق) أفكارا ومذاهب وتوجهات وديانات ويعتقدون بها (من العقد)، فإن السؤال الأساس، ليس ما الذي اعتقدوه أو مدى صحته، ولكن الأهم، كيف ينظرون إلى الآخرين غير المعتقدين وغير المعتنقين، وغير التابعين، الذين لا يشاركونهم الاعتقاد والولاء والتبعية.. هنا تبدأ القضية، وتزداد على سلم الخطورة خَطبا وتعقيدا.

كثير من الناس يلبس اعتقاده ويتمسح به مسوحا، وكثير منهم كلما زاد اعتقادهم تصلبا وصلابة اعتقدوا أن الحقيقة بيدهم وحدهم، وأنه لا مندوحة للآخرين من اتباعهم والحذو حذوهم.

كثير مما جرى ويجري فوق هذه الأرض خرج من رؤوس البشر، فالحرب فكرة، والثورات فكرة، والقتل تصميم مع إصرار سابق وتعمد، كان يدور في عقل صاحبه. عندما يسوغ العقل (الفكر) الشيءَ، يكون الفعل صورته المادية، ووجوده الفعليّ، ولما يتلبس الفكر بمسوح فكرة ما، فإنه يعمى بها ولا يرى غيرها.

ما الذي يجعل طائفة من الورى تنشدّ إلى عينة من الأفكار والمذاهب والتوجهات، وتعتنقها عناقا وتعتقد بها اعتقادا، فيعتقد صاحب الاعتقاد أنه المدافع المنتدب عن هذا المذهب أو ذاك، وأنه عُين مفوّضا يعتنق، ويُرغم غيره على أن يعتنقوا.

لمّا ركبت الأفكار الشيطانية عقل هولاكو، عاث فسادا في ما تبقى من حضارة آفلة، ولما لعبت الفكرة الاستعمارية برأس “السادة” البيض، يمّموا جهة الجنوب الفقير “غير المتحضر”، ووضعوا أهله في الأقفاص، وسحلوا أرضه ولووا لسانه. وجرّب هتلر اللعبة، وتمسح بالمسوح النازية، وعبد الجنس الآري، فأحرق نصف العالم جراء تمسحه.

الاعتقاد مُعم، وأحادي النظر عند طائفة من المشايعين والأتباع، فيمد يده إلى المدية، يجز أعناق المارقين والمخالفين والآبقين.

فعلى أي مقياس يمكن أن نقيس ما يُمكن اعتباره “الحقيقة”؟ إن ما أراه أنا حقيقة قد يراه الآخر محض زيف وافتراء، وعلى أساس ذلك المقياس المفقود قد يعُدّني “ضالا” ومختلفا، حد الانحراف، لأنني لا أُقاسمه الأفكار ذاتها، ولا ألون حياتي بالألوان نفسها، وأن الذي ينبغي عليّ فعله حالا هو الإسراع للالتحاق بدائرة المعتنقين، قبل أن تسرع اليد المستأصلة المعتنقة.

قد جرب بنو البشر ألا يعتنقوا، أن يظلوا “محايدين”، فلم يفلحوا، فلم يوجد إلى حد الآن هذا الكائن المحايد، غير المُعتقد وغير المعانق، مادام الناس يولدون، فوق تراب ما، ويتنفسون هواء ما، ويتكلمون لسانا ما، فلا وجود لأرض الحياد على الأرض.

من هذا التراب، وذاك اللسان، وتلك السحنة، جاء الاعتناق والولاء والاتّباع، فالناس خُلقوا ليؤمنوا وليعتنقوا، وتلكم حقيقة من حقائق البشر الخالدة. غير أن السؤال المفجع، الذي بسببه ابتكروا المقصلة وعقودا المشنقة، ونصبوا الخازوق، وصنعوا البارودة، ما حدود التماس بين الحقيقة والزيف؟.

والجواب هو هذا التاريخ الذي يكتبه بنو البشر بالحبر والدماء…

‫تعليقات الزوار

2
  • ابن طنجة
    الأربعاء 29 نونبر 2017 - 12:31

    أكبر وأسوء عدو للإنسان أفكاره فأغلب افكارنا 80% تجانب وتنافي الواقع والحقيقة المطلقة فقط يبقى %20 من افكارنا حقيقية وواقعية لهذا علينا أن لا نجعل من افكارنا الحكم أو القاضي على ما يحدث في حياتنا بل نجعلها كالمشاهد الملاحظ قبل التسرع في الفعل والحكم على اي شيء فدماغنا يتميز بالمرونة ومبرمج على عدم البحث عن الحقيقة مبرمج على التكيف والتعايش والبقاء في منطقة الراحةconfort والهدوء فأي تفكير غير مرن متصلب منغلق ومتحجر مفروض عليه بالقوة يتفاده فيحوله مباشرة دون معالجة وانتقاء إلى شعور ثم سلوك متعصب لا يقبل التغيير فيضر بصاحبه وبالاخر في حين بالمقابل الشخص ذو عقلية وتفكير مرن حر ومنفتح يعرف كيف يتكيف مع الظروف ويتعايش مع الآخرين رغم المصاعب

  • حقنة تنويم
    الخميس 30 نونبر 2017 - 02:20

    الاختلاف على ماهو جمع عليه وارد وطبيعي ولا ينقص الراي المعارض من قيمة الجوهر ان كان الهدف واحد ولكن تقع الاصتضمات حين الزيغ فيحصل زلزال تتفاوت ارتداداته حسب العقرب الذي يحدد بين الاتزان والاختلال في العقل والفكر

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس