الأفلام والمسلسلات المصرية..وجريمة "التكلاخ"!!

الأفلام والمسلسلات المصرية..وجريمة "التكلاخ"!!
الثلاثاء 27 مارس 2018 - 00:52

أنا من مواليد السبعينيات، نشأت في جيل تربى على الأفلام والمسلسلات المصرية.

ليلة الجمعة كانت لنا عيدا، إنها ليلة الفيلم المصري، الذي يهل علينا بعد ركن المفتي، برنامج حفظنا فتاواه التي لا تخرج عن الحيض والنفاس ونواقض الوضوء، إمعانا في قتل الوعي الديني لدى جيلنا.

وأما ليلة الخميس فكانت القناة الأولى تتكرم علينا ببرنامج سينما الخميس، لصاحبه علي حسن، الذي لم يبخل عن مشاهديه – بين الفينة والأخرى – بفيلم مصري تطيب به الخواطر.

سينما علي حسن انتظرناها آنذاك بعيون مشدودة، حيث الأنوار مطفأة، والصمت مطبق، والكل يتلذذ بدفء “المانطة”، وعلى أتم الاستعداد للتلقي السلبي اللامشروط، والعيش في العالم الموازي. جلسات لم تكن تخلو أحيانا من استدعاء الأصدقاء من الأهل أو الجيران، احتفاء وزيادة في المتعة..حتى إن بعض الوجوه ارتبطت عندي بذكريات أفلام..فصرت لا أفصل أحدهما عن الآخر!!

وفي ليلة خميس باردة، اعتذر علي حسن عن تقديم فيلم لعادل إمام..فطارت العقول وطارت معها “المانطات”، وصرخ الجميع احتجاجا، أهلا وأصدقاء؛ ولعله الخوف من “علقة” ساخنة أو مصير مجهول وحده الذي منعنا من تكسير التلفزيون الملون الذي بعثه لنا أخي من الخارج لنذوق متع الحياة الدنيا.

وأما علي حسن فلم تكن له منا سوى اللعنات…حتى طلوع الفجر. كأن المسكين حجب عنا ريح الجنة… ويا للغباء!!!

صورت لنا الأفلام والمسلسلات المصرية في سنوات التسعينيات –باستثناء روائع العملاق أسامة أنور عكاشة – واقعا مخالفا لما كنا نعيشه، وسوقت مبادئ وقيما آمنا بها –دون وعي- من كثرة التكرار..سوقت لنا اعتقادا بأن كل الأغنياء لصوص، استغلاليون، يمصون دماء الفقراء الذين يعرقون ويكدحون من أجل اللقمة الحلال..حتى جعلونا نحس بالفخر لفقرنا..فلسنا لصوصا…نحن الشرفاء!!

واستطعمنا دور الضحية..الذي ينال الأجر عند الله. أليس أكثر أهل الجنة من الفقراء…؟! هي الجنة إذن!! إنه وسخ الدنيا..ونحن أنقياء، أصفياء، أتقياء…إنهم كروش الحرام.. ونحن ذوو البطون النحيفة، التي ضاقت بامتصاص كؤوس الشاي…ولكنها لقمة حلاااااااال!!

يا إلهي!..كأن الفقر شرط لتكون من الصفوة..أسبغوا عليه بمكر ثوب القداسة..وخلقوا لدينا تعاطفا لا مشروطا مع الفقير مهضوم الحقوق الذي يقفل كتاب السيناريو في وجهه كل الطرق المشروعة للقفز إلى القمة، ولا يبقون أمامه سوى “الفتونة” أو المخدرات: السجن في الدنيا والنار في الآخرة -مبغاش يحمد الله-.

فهمت الآن لماذا كانت دهشتي عظيمة حين قرأت حينئذ أن خمسة من المبشرين بالجنة كانوا من أثرياء الصحابة -عثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمان بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين- وثروتهم تقدر بالملايين..أو بالملايير حسب تقدير البعض؛ أي إنهم كانوا مليارديرات بلغة عصرنا.

أتابع الحكي..حيث تحملني ذاكرتي إلى أفلام مصرية ألبست خيانة المرأة حلة طاهرة..إنها الشريفة العفيفة، التي لم تكن لتزل لولا أن “الحب سلطان”. الموسيقى التصويرية استعملت بدهاء أيضا لتجعل قلوبنا ترقص طربا كلما نجحت بطلتنا المصونة في مقابلة عشيقها، واستغفلت الزوج “القاسي” الذي يجهل أبجديات الحب.

الغريب أنه بعد نهاية الفيلم..كنا نقوم لتأدية الصلاة.. وندعو الله في خشوع أن يسبغ علينا من فضله، ويكتبنا من الطاهرين..الصادقين..الأوفياء.

تناقض…!!

وأما الفتاة التي تستغفل والديها، وتهرب مع حبيبها، فهي الضحية..البطلة..الشجاعة، المناضلة من أجل عيون كيوبيد، والتي نرفع لها أكف الدعاء طيلة لقطة الهروب، حتى لا يستيقظ الأب “الديكتاتور” الذي ليس له منا إلا الويل والثبور.

ومع طلوع الشمس، نستيقظ، ونقبل أكف الوالدين، قبل بداية يوم نتمناه معطرا برضاهما.

تناقض…!!

الانتقام صور كحل..قيمة عليا..انتصار..ونهاية سعيدة، في مجتمع البقاء فيه للأقوى؛ فاحترقت قلوبنا انفعالا بعد كل وجبة انتقام دسمة تطير فيها رؤوس الأشرار..ويخلد بطلنا الخارق بقواه الأزلية.

وحين تتناهى إلى مسامعنا أحاديث التسامح، وفضل التناسي والتغافل في تطييب القلوب وتجميل العلاقات..تفيض أعيننا من الدمع…إيمانا.

تناقض…!!

العالم في معظم أفلام التسعينيات أريد له أن يكون محبطا، ظالما، العضلات فيه حل، والانتقام حل.. وكراهية الآخر حل..واللعب بالبيضة والحجر…أم الحلول.

بعدها كتب على جيلنا أن يعيش بداية موجة المسلسلات المكسيكية المدبلجة، حيث الشوارع خالية..ودكاكين الحي تغلق أمام المشترين، والويل لك إذا لم تختر الوقت المناسب، وأزعجت “مول الحانوت” وهو فاغر فاه في جمال ورقة “كوادالوبي”..فقد يأتيك الجواب الغاضب من وراء ستار: “سير فحالك مابايعش، تفو على وجوه”، قبل أن يعود ليسرح في عالم الوجوه الجميلة.

وأما الحمامات العمومية فخاوية على عروشها..كأن الجميع على موعد في..الجنان.

واستفحل مسؤولونا في سياسة “التكلاخ”..وقلب المفاهيم، طيلة سنوات التسعينيات، في جريمة تغييب وعي سيسألون عنها يوم القيامة، فاستقدموا للشعب البطلة المكسيكية -المغمورة في بلدها – “كوادالوبي”، في أسبوع الفرس..فطارت بالعقول وطارت معها بالملايين..في بلد لازال الناس فيه يموتون بردا.

موجة “تكلاخ” رهيبة لعبت بعقولنا، وقلبت مفاهيمنا، قبل أن نستفيق، وننفض عنا الغبار..ونرميها وراء ظهورنا، ونعيد ترتيب منظومة قيمنا ومعتقداتنا، التي سلمناها لهم، فعاثوا فيها فسادا.

دمتم قلوبا مفعمة بالحب.

‫تعليقات الزوار

7
  • nadia de la france
    الثلاثاء 27 مارس 2018 - 09:37

    la maniére dont vous écrivez est tellement simple que j'ai adoré, d'hbitude j,ai pas la patience de lire des articles en arabe jusqu,a la fin ,mais c'étais l'exception merci

  • moubarak
    الأربعاء 28 مارس 2018 - 08:03

    أتفق معك في جزء كبير من مقالك،غير أن فترة التسعينات من القرن الماضي تضل أحسن مما نعيشه الآن،والبرمجة التي تعرضنا لها كانت أقل حدة ،مقال ممتع

  • المغتربة
    الأربعاء 28 مارس 2018 - 09:46

    صحيح ما قالته الكاتبة المحترمة لكن هذه السياسة التي اسميتها سياسة التكلاخ مازالت موجودة و ستزيد
    الان زادو الطين بلة لما الهونا بالمسلسلات التركية الطويلة و التي تنتهي بالزواج بعد ولادة اطفال

  • فاطمة الزهراء حماني
    الأربعاء 28 مارس 2018 - 13:00

    شكرا لك على هذا المقال الرائع، أخذتينا في رحلة للماضي الجميل بكل تفاصيله الصغيرة حين كنا نجتمع على شاشة التلفاز و نصدق كل ما يقوله الممثلون.
    اليوم كل واحد يجلس في عالمه الخاص…
    رغم كل عيوب السينما المصرية إلا أنها كانت الأقرب لنا و لأعرافنا و وتقاليدنا و تضل أحسن بكثير من التركية و المكسيكية المدبلجة التي تسوق لقيم فاسدة.
    متمنياتي لك بالتوفيق و تحياتي الخالصة إليك.

  • نورالدين- اوطاط الحاج
    الجمعة 30 مارس 2018 - 08:48

    التكلاخ هو سياسة ممنهجة تنهجها العديد من الانظمة العربية عبر مؤسسات مختصة من ضمنها المؤسسة الاعلامية التي تبث الاعمال الدرامية والسنيمائية والعديد من إيديولوجيات الخطاب الاعلامي لانها تسعى الى خلق نموذج لمواطن صالح في نظرها يقدس سياسة الحاكم وكل من خالف ذلك فهو متآمرعلى الوطن ؟ والى جانب المسلسلات المصرية وحاليا التركية مالها وماعليها لايجب ان ننسى ايضا المسلسلات المغربية التي تعتبر الرقم 1 في التكلاخ ونشر الجهل والتعتيم والسخرية الثنائية العروبي والمديني ووصف الشخص ذو اللون الاسود بسراق الزيت والمعاق بالضفدعة ..بلسان من يسمون انفسهم فنانين يكرمون على عفنهم … ولاننسى هنا الاعمال الجادة لفنانين حقيقين محاصرين لانهم يرفضون التملق ولعق الاحذية مثل احمد السنوسي وغيره من الفنانين المثقفين المنتجين لثقافة التنوير والتقدم لا التكلاخ والرجعية والتخلف

  • أم طه
    الجمعة 30 مارس 2018 - 12:40

    شكرا الأستاذة الكريمة على هذا المقال الرائع فعلا تضمن جزءا من تشخيص حقيقي وصادق لفترة عشناها جميعا أضيف إليها الآن الأفلام المكسيكية والتركية المدبلجة التي غزت وبشكل كبير جل بيوتنا وبشكل ملفت وخطير قرانا وبوادينا حيث انعكس ذلك سلبا على أخلاق وسلوك شاباتنا وشبابنا الذين أضحوا يقلدون ما يشاهدون ظنا منهم أنهم يعيشون الحياة كما ينبغي (ربط علاقات غير شرعية + أطفال غير شرعيين .. مصائب لا تعد ولاتحصى) دون التفكير في العواقب المترتبة عن ذلك.

  • Mustapha
    السبت 31 مارس 2018 - 21:29

    Assalamou Alaikoum
    A mon avis un très bon choix de sujet , et le plus beau c'est qu'il a été traiter coté littérature par excellence .Tout ou presque tout le monde peut être d'accord que c'était un complot joué par les responsables sur le secteur de l'audio visuel , un secteur très influent sur la mentalité des peuple dans un époque ou il n'y avait pas toute cette armada de média qui nuit présentement qui permet de trouver les bonne opinions et informations dans notre cas un peuple de la nation marocaine et d'un autre coté toute ou presque toute la nation arabe et tout ça pour détruire nos bon principes et les faire remplacer par ceux du démon

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات