روح الإعاقة..الوضعية المركبة وسؤال المقاربة

روح الإعاقة..الوضعية المركبة وسؤال المقاربة
الجمعة 30 مارس 2018 - 22:33

وضعية الإنسان المعاق، بما تتصف به من تركيب وتعقيد، تطرح تساؤلات كثيرة ومختلفة على مستويات متعددة؛ الأمر الذي يقتضي منا استحضار ما يشكله قوام هذا التركيب والتعقيد الإنسانيين. كيف لا وموضوع حديثنا هو الإنسان بغض النظر عن محمولاته إعاقة كانت أو غير ذلك؟.. والملاحظ أن الاهتمام بالإنسان في وضعية إعاقة أصبح يتزايد كما ونوعا، نظرا لوعي المجتمع باختلاف انتماءاته وتوجهاته بضرورة إعادة الاعتبار لهذا الإنسان في كل مناحي حياته العامة. فبعد أن كان الكلام في وضعية الإعاقة والإنسان المعاق من الأمور غير المفكر والمستحيل التفكير فيها لدى الأسرة والمجتمع، أصبحنا نلاحظ تغيرا نسبيا إيجابيا على مستوى التمثل الأسري والاجتماعي، من خلاله نرى نماذج تتجاوز الصور النمطية حول وضعية الإعاقة التي تكرس بعدها السلبي والدوني.

ويتزايد هذا الاهتمام أكثر بالإنسان المعاق في مجال البحث العلمي في العلوم الإنسانية باختلاف مناهجها وتعدد موضوعاتها، بل إن وضعية الإعاقة فرضت تدخل حقول معرفية أخرى تعنى بالإنسان ذاتا وموضوعا.

لا يبدو الحديث عن وضعية الإعاقة على غاية من اليسر، نظرا لكونها وضعية بنيوية مرتبطة بقضايا ووضعيات أخرى لا يمكن فهمها إلا من خلال فهم باقي عناصر هذه البنية، إلا أن هذا لا يمنع من تقديم بعض من بنات أفكارنا حول روح وضعية الإعاقة وسؤال المقاربة المركب والمعقد أحيانا، مؤصلين مرجعيا في ذلك على جملة من المواقف والتجارب اليومية ونحن نشتغل ميدانيا وأكاديميا في مجال الإعاقة داخل وخارج المؤسسات التي تعنى تربويا واجتماعيا وطبيا وترفيهيا بوضعية الإنسان المعاق عامة، (مركز محمد السادس للمعاقين وبعض الجمعيات العاملة في مجال الإعاقة في المغرب عامة ومراكش خاصة)؛ فضلا عن إيماننا ببعض المدخلات التعلمية والتربوية التي دونها سيكون الحديث والاهتمام بالإعاقة مجرد كلام. هذه المدخلات نقدمها بشكل دقيق وعميق على الصيغة الآتية:

إن وضعية الإنسان المعاق تقتضي استحضار البعد الإنساني المركب في كل مقاربة لها. وكل حديث عن أهمية مقاربة دون أخرى هو رأي وتوجه تجب إعادة النظر فيه بكل موضوعية. الإنسان عندنا خلق مركب، بل معقد أحيانا، لا يمكن اختزاله في بعد من أبعاده المتعددة والمختلفة، وهو الأمر الذي ينبغي أن تستحضره مختلف المقاربات والنظريات المختصة في علم الإنسان والإنسان المعاق.

كذلك نسجل أنه عادة ما نكرس وضعية الإعاقة لدى الإنسان المعاق ونحن لا نرى فيه إلا جانب الإعاقة السلبي، أو التركيز في تعليمه وتربيته على مظاهر نقصه وعجزه. كما نذكر بضرورة إعادة النظر في بعض تمثلات وآراء الباحثين والمختصين حول جدوى وأهمية بعض المقاربات أو المناهج دون أخرى، فضلا عن التفكير في المعاق كذات إنسانية وليس فقط كموضوع للإعاقة، بل والتفكير فيه إيجابا وليس سلبا.

الذي يهمنا ونحن نطرح سؤال روح الإعاقة تركيبيا ومقاربة، هو تقريب وتقديم نموذج تكاملي يعنى بالإنسان المعاق وتجاوز النظرة الاختزالية للإعاقة. ومعلوم أن العلوم الإنسانية على مر التاريخ، وهي تهتم وتدرس وضعيات وحالات الإنسان، تسعى جاهدة إلى إيجاد حلول بديلة للمشاكل والعراقيل التي تحد من تطور وتقدم هذا الإنسان في كل مناحي الحياة الاجتماعية. ووضعية الإعاقة بدورها تطرح على الباحث في العلوم الإنسانية تساؤلات كثيرة، إن على المستوى اللغوي في إطار التحديد المفاهيمي أو على مستوى طرق ومناهج تحليل الوضعية تعليميا وتربويا؛ فضلا عن أنواع المقاربات الاجتماعية منها والنفسية، الطبية والحقوقية، بل حتى الاقتصادية والثقافية. وكما نعلم أيضا أن طبيعة الإنسان المركبة تفرض على الباحث في الإشكالات التي تطرحها وضعية الإنسان المعاق أن يبلور مقاربته على نحو يراعي فيه هذا التركيب والتعقيد.

الملاحظ في الدراسات العلمية التي تعنى بوضعية الإعاقة، على أهميتها، وجود وهيمنة الطابع الاختزالي منهجا وموضوعا، وهو مشكل تعاني منه العلوم الإنسانية وهي تتخصص على غرار مناهج العلوم التجريبية. إن الظاهرة الإنسانية غير الظاهرة الطبيعية، إذ التعامل مع النفوس والعقول غير التعامل مع الأشياء والمادة، وهو أمر على الباحث في الإنسان قبل الإعاقة أن يعيه بعمق. فالباحث الاجتماعي يقتصر على العوامل والمظاهر الاجتماعية التي تحيط بالإنسان المعاق تأثيرا وتأثرا بمنهج كمي أو نوعي، عادة ما يلجأ فيه إلى الوصف والتحليل، غايته في ذلك تقديم إحصائيات وأرقام نسبية ترتبط بالمجال التداولي والسياق الزمني، تتحكم فيها نوعية العينة المدروسة. صحيح أن الباحث والبحث الاجتماعي بعد مهم في رصد مختلف الظواهر المؤثرة اجتماعيا في وضعية الإعاقة، إلا أن على الباحث ألا يتمركز موضوعا ومنهجا.

أيضا نجد الباحث في علم النفس باختلاف فروعه ومناهجه يكتفي ويقتفي الآثار النفسية التي يعاني منها الإنسان المعاق نتيجة التمثلات الاجتماعية من جهة والتمثلات الفردية والأسرية من جهة أخرى. وهي تجربة شخصية لا يدركها إلا الشخص المعاق والمتعايشون مع الإعاقة..إنها حالة نفسية تبتدئ من تلقي خبر الإعاقة غير المرغوب فيه وغير المتوقع عادة وما يتبعه من صدمات وعدم تقبل الوضعية إلى حدود ما بعد الصدمة وأثارها على حياة الفرد وأسرته.

كذلك يكتسي دور الأخصائي النفسي دورا مهما باعتباره من أبعاد الوضعية المركبة للإنسان في وضعية إعاقة من حيث الفهم والإدراك لماهية الإعاقة درجة ونوعا؛ دور يزداد أهمية كلما تعلق الأمر بالإعاقات الذهنية. لكن الملاحظ أن الأخصائي النفسي في المغرب وهو يشتغل على الإعاقة لا يبرح مكانه ولا يفارق عيادته، إنه في برجه العاجي على غرار الفيلسوف الأول المتأمل في الكون والطبيعة. إننا نحتاج فعلا إلى أخصائي نفسي ينطلق من واقع الإعاقة المعيش المتغير باستمرار بدل الاقتصار على معطيات قبلية وأفكار تأملية يصعب كثيرا تطبيقها باعتبار أغلبها مستوردة من بيئة وواقع مختلفين تماما عن واقع الإعاقة بالمغرب..

كذلك نرى الباحث والمعالج الطبي يقف في حدود معالجة المشاكل العضوية ومظاهر النقص الحسي، معتمدا في ذلك على نتائج الاختبارات الطبية المخبرية، وذلك من خلال تسخير العدة التقنية وآخر إنتاجات العلم والتقنية الحديثين. ويبقى التوجه الطبي من الأولويات التي يتجه نحوها الإنسان في وضعية إعاقة إيمانا منه بنجاعة وسرعة تغيير هذه الوضعية، خاصة في المشاكل المرتبطة بالجانب العضوي. وتكمن أهمية دور المقاربة الطبية أساسا في الإعاقات الحسية الحركية باعتبارها إعاقات أكثر وضوحا وأقل تركيبا وتعقيدا بالمقارنة بالإعاقات الذهنية التي تتسم بالغموض والتعقيد. إلا أن ولوج الخدمة الطبية يبقى رهينا بالوضعية الاقتصادية باعتبارها مكلفة ماديا.

كما نجد الباحث الحقوقي في مجال الإعاقة ينظر إلى وضعية الإنسان المعاق من زاوية مواثيق حقوق الإنسان، من خلال الترافع ضمانا لتفعيل هذه الحقوق. والمقاربة الحقوقية تنطلقا أساسا من مسلمة مفادها ضرورة إعادة الاعتبار للإنسان المعاق من خلال حقوقه كإنسان بغض النظر عن إعاقته، وهو منطلق يضمن باقي الحقوق الاجتماعية والنفسية والطبية منها والاقتصادية والتعليمية. فالإنسان في وضعية إعاقة لا تستقيم حالته الإنسانية دون اعتباره بعدا من أبعاد الحياة البشرية يحتاج ويستحق أن نضمن حقه في العيش الكريم وصحة جيدة وتعليم ذي جودة.

في حين عادة ما يقل الحديث عن المقاربة الأسرية باعتبارها الأرضية الأصلية التي يترعرع ويتربى فيها الإنسان في وضعية إعاقة، إذ يمكن القول إنه لا يمكن إعادة الاعتبار لهذا الإنسان دون إعادة الاعتبار لمحيطه الأسري، والاعتبار هنا هو أن نتحمل جميعا أجزاء المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والطبية…كيف لا ووضعية الإعاقة مكلفة ومقلقة على جميع المستويات السابقة.

إن دور الأسرة مهم للغاية، فقد تكون عنصرا مساعدا في تقدم ونجاح طفلها في حالة تقبلها وقدرتها على وضعية العجز أو النقص، كما تكون عنصرا عائقا في طريق التقدم والنجاح في حالة عدم التقبل والقدرة، فيصبح حديثنا عن الطفل في أسرة معاقة بدل في وضعية إعاقة. صحيح أن دور المراكز والجمعيات مهم للغاية، على الأقل من ناحية البعد التربوي التعليمي وبعد التنشئة والتفاعل الاجتماعيين، إلا أن دور الأسرة، وخاصة التربية الوالدية، يبقى أكثر أهمية باعتبار الطفل في وضعية إعاقة يقضي معظم وقته مع أسرته زمانا ومكانا. إنه أمر يفرض التفكير في آليات إجرائية لإدماج الأسرة في السياسات العامة التي تعنى بوضعية الإعاقة.

وقد اهتمت أيضا كثير من نظريات وبيداغوجيات التعلم بوضعية الإنسان المعاق، خاصة في مرحلة الطفولة، وهو اهتمام يشمل الجانب التعلمي والتربوي معا، من خلاله ننتقل من التربية العامة إلى التربية الخاصة.

إن الأساس النظري لنظريات التعلم الخاص له امتداد لنظريات التعلم العام؛ هذه الأخيرة التي تتأسس بدورها على الإنتاجات العلمية للعلوم الإنسانية. وقد نتساءل ما هي الحدود الفاصلة بين التربية الخاصة والتربية العامة في العملية التعلمية التربوية تنظيرا وتطبيقا؟ الجواب أن الأصل المشترك في التربية والتعليم موضوعا ومنهجا هو الإنسان.. يختلف الإنسان درجة عن الإنسان فيبقى نوعا إنسان، والإنسان في وضعية إعاقة لا يخرج عن هذا المبدأ.

تكتسي المقاربة التربوية التعلمية أهمية كبيرة بخصوص تمكين الإنسان في وضعية إعاقة من التكيف مع مختلف وضعيات ومتطلبات الحياة؛ ذلك من خلال إكسابه مجموعة من المهارات والكفايات والأخلاق العامة. والمهتم بوضعية الإنسان المعاق تفترض فيه معرفة بعض من البيداغوجيات المختلفة التي تعنى بالفعل التعلمي التربوي، بل معرفة طرق ومناهج تطبيقها في الوضعيات المختلفة، مراعاة للفروق الفردية داخل مجموعة من الأشخاص.

ولعل من أهم هذه البيداغوجيات هي البيداغوجية الفارقية التي تسمح للمدرس والمربي أن يتفاعل بشكل منصف وإيجابي مع مختلف مستويات الأطفال، مراعاة للفروق في درجة ذكائهم واستيعابهم للرسائل والأهداف المتوخاة، خاصة أن مجموعة الأطفال في وضعية إعاقة عادة ما تكون غير متجانسة، بحيث تفرض هذه الوضعية الاشتغال أكثر بالمشاريع البيداغوجية الفردية إما تطويرا للقدرات الموجودة أصلا أو استحضار الغائبة منها. إلا أن هذه البيداغوجية تستوجب توفر عدد قليل من المتعلمين. وقد تستدعي الضرورة أحيانا توفر مرب متخصص لكل طفل؛ ذلك حسب حدة وصعوبة الإعاقة. أيضا نجد أن بيداغوجيا اللعب لها أهميتها التربوية التعلمية، خاصة في الوضعيات الصعبة التي يصعب معها التجريد، إذ يكون اللعب فيها طريقة من طرق التعلم والتربية؛ ذلك أننا نشتغل على تطوير وإذكاء الحواس الخمس من سمع ولمس وبصر وذوق وشم، من خلال ألعاب بيداغوجية يتم فيها تبسيط المعقد وتجزيء المركب.

إن للعب وظيفة أساسية في الاكتشاف والابتكار، وهو ما يسمح للطفل في وضعية إعاقة أن يتجاوب ويتكيف مع الوضعيات المختلفة، بحثا عن تجاوز المشاكل التي تعترضه تعليميا وتربويا. ونحن نتحدث عن المقاربة التعلمية التربوية في مجال التربية الخاصة، لا بد للمربي المختص أن يستحضر نظريا وممارسة بيداغوجيا الخطأ كمبدأ أصيل في كل فعل تعلمي تربوي. إن الأصل في التعلم والتربية هو الخطأ.. من الخطأ يتعلم الإنسان، والطفل في وضعية إعاقة من الطبيعي أن يخطئ، بل من حقه ذلك، ودور المربي المختص في هذه الحالة هو التوجيه الصحيح بالتكرار والمحاولة دون كلل أو ملل؛ فالخطأ ينبغي النظر إليه بشكل إيجابي وليس كخطيئة تستوجب العقاب.

ولعل تقبل مقولة الخطأ مدخل أساسي لتقبل وضعية الإعاقة؛ ذلك لوجود نقط مشتركة بينهما تتجلى أساسا في خروجهما عن الوضع والتصور الطبيعي للوجود والفعل البشري.

من خلال ما تقدم يمكن القول إن مقاربة وضعية الإنسان المعاق في حاجة إلى المزيد من التحليل والتفكيك العميقين، إن على المستوى المفاهيمي أو على مستوى أشكال التدخل، مقاربة تشاركية تفاعلية لكل الأقطاب والقطاعات التي تعنى بشأن الإعاقة؛ بدءا من دور الأسرة والمحيط الاجتماعي، مرورا بالمؤسسات الحكومية ووصولا إلى الأخصائيين والمهنيين…إن الوعي بجدوى الاهتمام بالشخص المعاق وعد لا ينبغي إرجاؤه، بل التفكير فيه عمليا وباستمرار أصبح ضرورة وواجبا يتجاوز حدود رفع الشعار، والمهتم بهذه الوضعية منتظر منه أن يقدم إجابات للتساؤلات والرهانات التي يطرحها حاضر الإعاقة.

إن وعينا بأهمية المقاربة التكاملية لوضعية الإعاقة مرده إلى وقوفنا على حدود ومحدودية التوجه الأحادي المنهج والموضوع، وهو المشروع الذي نشتغل عليه، بدءا من هذه المقالة التي نعتبرها منطلقنا لطرح والإجابة على أهم التساؤلات التي تعنى بحاضر الإنسان في وضعية إعاقة.

*أستاذ التعليم الابتدائي ومرب مختص في الإعاقة

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس