ويفشل الكتاب المدرسي..

ويفشل الكتاب المدرسي..
الأربعاء 19 شتنبر 2018 - 12:10

مرة أخرى يفشل الكتاب المدرسي في تقديم صورة فضلى عن اللغة العربية إلى الطفل المتمدرس، ولا يمده إلا بصورة غير صحيحة ومنقوصة عن هاته اللغة وعن وصفها.

تستند الطريقة الجديدة لتقديم العربية إلى مريديها على تجميع مكوناتها كاملة في كتاب واحد، وهي طريقة تحرم التلميذ من تذوق العربية وتبعده عنها وتنفره منها، وتزيد من حجم اتهام هذه اللغة والافتراء عليها بالإغراق في الصعوبة والتقعيد.

ينبري جل هاته الكتب إلى التمهيد للظاهرة النحوية أو التركيبية بنصوص مصنوعة ـ معتبرة قرائية افتراضاـ وغير سلسة ولا عذبة بتاتا (والاستثناء قليل)، ثم يعقبها وصف للعربية وليس استعمالها، فيجد المدرس نفسه في مواجهة سلسلة متتابعة من الدروس التي تبحث في اللغة وفي بنيتها ونحوها وصرفها (التركيب والصرف والتطبيق والإملاء)…

يكاد يخلو جل كتب العربية من كل نص أدبي ممتع، وتكاد تغيب عن صفحاته النصوص الباهرة البارعة لكبار الكتاب، الذين أبدعوا وأمتعوا، المغاربة منهم والمشارقة، أو كل من سحرته لغة البيان العذبة هذه. ولا نعثر في ثناياه إلا على فتات منثور هنا وهناك، ونصوص باردة خشبية المعنى، غير ممتعة إطلاقا. جدّ أصحابها المؤلفون في تأليفها وصنعتها. يقرؤها التلميذ مكرها، وكأنه يمضغ التراب، ويتجرعها لا سائغة ولا ماتعة.

فيفشل كثير من كتب اللغة في تقديم العربية إلى مريديها، وتكتفي بتقديم قواعد مبتورة عن وصف اللغة، وبحوث مستقطعة عن بنيتها التركيبية والصرفية والإملائية. بحوث تبعد التلاميذ عن لغتهم وتزيد من عزلة الاثنين، اللغة وصاحبها. فيصبح التلميذ مطالبا بمعرفة أجزاء الكلام والعلاقات بين كلماته، بدل استعمال اللغة وتداولها.

ينساق التلاميذ مع نحو اللغة وصرفها، فيحذفون نون المضارع ويثبتونها، ويقدرون حركات المقصور ويتوهمونها، ويتيهون بين لامات الجحود والتعليل والأمر واللام المزحلقة الأخرى، ويثقل الأمر عليهم ويثقل على مدرس اللغة. فتكون النتيجة أن يتأفف متعلمنا الصغير ويتبرم، ويطوي كشحا عن تعلم اللغة وعن أهلها (سلوا الصغار والكبار كيف ينظرون إلى معلم العربية، واسألوهم كيف ينظرون إلى أصحاب الألسن الأخرى البراقة الملونة المبهرجة!) ويبني بينه وبينها حاجزا نفسيا ونفورا شديدا معديا، حتى إذا سمع عن درس الإعراب، ظنه حصة لأكل الحصرم ومضغه وبلعه رهقا.

وهكذا، تسقط العربية في أعينهم، ويبنون بينهم وبينها جدارا نفسيا منيعا، فيرغبون عنها وينصرفون إلى غيرها من ذوات الكتب الجذابة الفاتنة والأناشيد المغناة والقصص ذات الحبكة الآسرة، يجلبون ذلك من ألسن أخرى لأمم أخرى..(وكأننا أمة بدون تاريخ ولا حكي ولا سرد)، فيرطنون بها، ويلوون ألسنتهم بهذه اللغات الضرائر، وسط تصفيقات الأهل واستحسانهم، يكاد الدمع يفيض من أعينهم، عندما تتوصل فلذة الكبد الصغيرة، إلى رطن أول كلمة بالفرنسية أو الإنجليزية أو الإسبانية أو الألمانية…فهاته هي اللغات حقا، وهذا هو المستقبل، أما غير ذلك فتخلف ورجعية.

في هذا الجو الموبوء بالألسن، يتداخل السياسي والتربوي والتاريخي وغيرها من العوامل التي أفرزت هذا الجو المشحون بالألسن يدفع بعضها بعضا؛ فالنظام التعليمي جبل يريد أن ينقض، بعد أن كثرت معاول الهدم والتزييف. فتمخض جبل الألسن فولد طريقة لا يستقام عليها أبدا. طريقة من التبخيس الممجوج، ظنوا به تحايلا أنهم يربطون اللغة بمحيطها الآسن منه، وجلبوا من قاع التلهيج مفردات لا تقدم ولا تؤخر ولا تغني ولا تفيد. ولا سبق في ذلك إطلاقا ولا فائدة، مهما روج المروجون.

فما الجديد الذي يقدمه الكتاب المدرسي، لمّا ينقل من محيط المتكلم بضع كلمات، تثير في نفسه ونفس غيره سخرية واستهزاء. بدعوى ربط المدرسة بمحيطها. معجم يتداوله التلميذ جزافا صباح مساء، فلا يجد في ذلك فتحا جديدا ولا اكتشافا.

لعمري هي دعوى مخاتلة، أريد لسهمها أن يصيب اللسان العربي في مقتل. وتتبعوا سير أصحاب التلهيج والتعمية (من العامية) واقتفوا أثر قواميسهم اللاهجة (من اللهجة)، وسعيهم الحثيث إلى ركن العربية في المتحف وبين ثنايا المصحف الكريم. تجد أن الأمر عناد مكشوف، لإبطال سحر اللسان العربي، وإنشاء مكانه جوا مربكا ومضطربا من التلهيج والرطانة.

بين الفرد والعالم الذي يحيا فيه لغة، وعن طريق هاته اللغة يعرف هذا العالم ويسميه، وما تقدمه هذه اللغة أو هذا اللسان، فهو الموجود بالنسبة لصاحبه، وما لا يقدمه اللسان ينتفي ولا يوجد (وإن كان موجودا فعلا). وكلما زاد رصيد اللغة زادت المعرفة وتوسع الأفق، وكلما اضمحل ونقص، قدم عالما بسيطا لا يتعدى بضع مئات من الكلمات. وصراع الألسن صراع من أجل البقاء، فتتسابق فيما بينها توليدا وترجمة واشتقاقا، والتوسع ضمّا لهذا العالم الواسع الذي ينبغي تغطيته وتسميته.

اللغة في وضعها استعمال، استعمال في اللحظة والآن، يستعملها الفرد بينه وبين نفسه وبينه وبين العالم، وهي جواز المرور إلى هذا العالم. فترى الأمم الأخرى تسارع إلى إغناء معاجمها وضخ المستحدث من الكلمات المتناسلة، إغناء للثروة اللفظية لأصحابها وتعريفا لهم بما يوجد في هذا العالم المحيط بهم؛ فالألسن الحية غنية بمعاجمها وقوامسيها وأرصدتها من الألفاظ والكلمات، فتتوسط بين العالم والمتعلم، لتقدم له عالما يشمل جل ميادين الحياة الواسعة.

‫تعليقات الزوار

1
  • Hassan
    الأربعاء 19 شتنبر 2018 - 14:50

    خطاب عاطفي لا فائدة منه يعج بقاموس لغوي قديم لم يعد مفهومها لدى جل دارسي اللغة العربية الفصحى وبالتالي لمن كتبت هذا المقال ؟ هذا هو عيب اعتماد لغة لا يتكلم بها المغاربة فيحكم عليهم النظام التربوي بالفشل وتضيع فرص التعلم من بين ايديهم لكونهم كانوا ضحية الزامهم بتعلم لغة لا يتكلمون ب منها. وبالله عليك اذكر لي شعبا يلزم بتعلم لغة لا يتكلمها؛ وحتى ان تعلمها كما فعل بنا فهل يتواصل بها خارج فضاء القسم ؟ حاول معالجة نفسك من تقمص دور الباحث المتخصص فتبيع للقارء وهما عاطفيا اجوف لا يستقيم وتحديات اليوم والمستقبل

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب