أزمة التعليم بين اللغة والمضمون

أزمة التعليم بين اللغة والمضمون
الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 02:40

لم يشهد أي افتتاح للموسم الدراسي من قبل ما يعرفه هذا الأخير من تفاعل “اجتماعي”. أصبح الناس يتفاعلون مع أي موضوع تقريبا، سواء تعلق الأمر بالسياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو التربوي إلخ… خاصة مع توافر الامكانيات الاعلامية والتواصلية الحديثة. والجديد في هذا هو التفاعل الكبير مع مضامين المقررات الدراسية الجديدة للمستوى الابتدائي، إلى درجة جعلت الوزارة الوصية ترد ببلاغ رسمي وتشرح “الدواعي التربوية للتوظيف اللغوي، وتستنكر-حسبها- ما اعتبرته حملة مغرضة كما تدعو إلى الاسهام المشترك في إنجاح الدخول المدرسي الجديد.

في هذا العرض سننطلق من النقط التالية وسنحاول معالجة الإشكاليات المرتبطة بها:

1- التفاعل “الحاشد” عبر وسائل التواصل الالكترونية مع هذا الموضوع، أمر إيجابي جدا وهو السبيل المقود إلى ربط المسئولية بالمحاسبة، كما يضمن أو يفرض على الجهات المسئولة الإنصات للمعنيين وتقديم التوضيح لهم –وإن بالشكل البدائي هذا- ما لم يكن متاحا من قبل.

2- الموضوع يتعلق أساسا باستهجان المتفاعلين لبعض المفردات المعجمية الموظفة في إنجاز المقرر الدراسي، والتي اعتمدت بعض المصطلحات العامية.

3- حدود التفاعل مع الموضوع تقف في؛ أ) السخرية من مصطلحات البريوة والبغرير…، باعتبارها مصطلحات دارجة لا يليق بها المقام، دون اي تناول موضوعي للمسائل المتعلقة بموضوع لغات التعليم. ب) عدم التطرق للجوهر في الأمر وهو مضمون مواضيع التعليم. ج) يتطلب أي تناول للأمر آراء ومواقف المتخصصين والباحثين في مجالات التربية والديداكتيك وعلوم الذات واللسانيات واللسانيات الاجتماعية… وهو ما لم يحصل بعد.

أما الإشكالية الأساسية فترتبط بسؤال: هل واقع أزمة التعليم يقف عند لغته أو طبيعته/ مضمونه؟ وأي علاقة بين المضمون واللغة في حالتنا الراهنة؟

إن المسألة اللغوية في التعليم أمر بديهي سابق حتى للمضمون فهي مرتبط بعملية أولى وهي أن تصير جنبا إلى جنب مع المنتهيات الاستراتيجية للسياسة اللغوية والثقافية للبلد، ثم بعدها يطرح السؤال التربوي والديداكتيكي (طرائق التدريس وصيغها وكيفياتها…) بعدها يطرح المضمون (وهو أعمق ويشمل الرسالة بوجه عام) كخيار يفرض بحسب ما تمليه السياسة أي بحسب التوجه العام للسلطة السياسية في الوطن.. والمعلوم بالطبع أن التعليم بمختلف مراحله يبقى تحت مقياس التوجه السياسي الاستراتيجي لمؤسسات الحكم في أي بقعة من العالم إن في مستوى لغته أو مضمونه.

في البلدان “المتخلفة اجتماعيا” (نقصد التوجه العام لسياسة الدولة في مختلف المجالات) يبقى موضوع النصوص المدرسة مرتبط بتكريس نفس القيم السائدة في المجتمع والضامنة لاستمرار الوضع على ما هو عليه دون أي إمكانية للتطور إلا في مستواه التراجعي، وفي البلدان “غير المتخلفة” هناك إمكانية الرقص على حبلين؛ حبل “التوافق الاجتماعي”، بمعنى أن السلطة تنضبط لحد أدنى من الاحترام تجاه من تعتبر نفسها ممثلة عنهم، ولا تتمادى إلى أبعد الحدود في تكريس التخلف وهذا ناتج عن مستوى قوة المنظمات المدافعة عن رقي مناهج التعليم، ثم لأسباب مرتبطة بالتقاليد الديموقراطية المكرسة والإرث التنويري الذي أسست عليه إيديولوجياتها، أما الحبل الثاني فهو الذي يفرضه عليها التوجه الاقتصادي العام في إطار العولمة الرأسمالية، حيث لابد للدولة أن تتدخل لتوجيه التخصصات التعليمية بحسب متطلباتها في السوق الاقتصادي والمالي الكوني وهذا بدوره يتحدد وفق احتياجاتها المحلية لليد العاملة المؤهلة أو المتخصصة كما المنطق المعروف في أدبيات الاقتصاد السياسي “بدورة الخنزير”. بهذا المنحى يبدو أن مسألتي مضمون التعليم ولغته أمران متداخلان يصعب علينا اعتبار أحدهما محددا وقفيا والآخر مجرد مؤثر، مع العلم بكون اللغة لا ترتبط بالمضمون في طبيعته بالذات بل عليها أن تسايره كيفما كانت منتهياته، وإذا كان الأمر كذلك فإن موضوع لغة التعليم يكتسي جدية قصوى في تناوله لا تقل جدية عن موضوعه.

اللغة في التعليم

ليس لأول مرة يثار موضوع اللغة في التعليم، فهذا الموضوع قديم قدم السياسة اللغوية في مغرب ما بعد الاستقلال، وبداياته كانت مع انتهاج سياسة التعريب و”المغربة” (تعريب الإدارة ومغربة الأطر) وليس في المغرب فحسب بل في بلدان كثيرة ذات الشبه بوضعه، ومنها بلدان شمال إفريقيا عامة. ولكن بالشكل والوثيرة والوضع اللغوي، تبقى الجزائر والمغرب أهم بلدين يطرح فيهما هذا السؤال نظرا للتعدد اللغوي الذي يميزهما وبالصحوة الثقافية/ اللغوية لمجموعاتهما القومية. وفي المغرب خصوصا قد نتجرأ ونقول إن هذا الموضوع أثير بحدة قبل عامين تقريبا فقط أي بعد صدور قاموس الدارجة عن مركز تنمية الدارجة الذي يرأسه رجل الأعمال نور الدين عيوش (2016). فكان هناك كلام كثير شارك فيه الكل حتى أهل غير الاختصاص، ولكن للأسف باعتماد أساليب غير موضوعية وغير أكاديمية، بل فيها تحامل كبير باستغلال العاطفة الجمعية المقرونة بالتهويل (يا ويلتاه من معضلة اللهجنة والتدريج.. وا لغتاه !) ليس لدى الأوساط المحافظة فحسب بل من مختلف الاتجاهات.. وقد شكل هذا إثارة لمحفزات تمردية غير منهجية، جعلت حتى بعض العقول نافدة الذهن في التربية واللسان والسياسة تتوه وتنساق في مجرى المثار الإعلامي، وهذه مشكلة كبيرة في حد ذاتها إذ تطرح مسألة حضور المثقف في مشهد التحليل، موضع سؤال ونقد.

لقد استهجن الجميع هذا النوع من التوظيف اللغوي الدارج في المقرر المدرسي، وخاصة استعمال بعض المفردات المعجمية المقتبسة من حقل دلالي له علاقة بالطبخ (البريوة، البطبوط، البغرير…) وهذا الأمر طبيعي جدا، فهناك سلوك نفسي جماهيري يثيره التحفيز “الاجتماعي” في حالة كان هناك شعور بالارتياب والشك وعدم الرضى بوجه الجهات المسئولة عن إنتاج وفرض السياسات العمومية أصلا، فبالأحرى عندما يكون من ضمن إحدى القضايا التي أثارت، ولا تزال، تمردات واحتقانات تصل أحيانا إلى مستوى المواجهة الفعلية.

لكن دعونا نتفق أولا، فالواضح أن استعمال الدارجة في المقررات لم يقع في حالتنا هذه أو على الأقل بالطريقة التي روج بها.. لا وجود للدارجة في مقررات التعليم أبدا إن كلغة مدرسة أو لغة للتدريس، كل ما هنالك أنه تم توظيف بعض المفردات العامية التي لا نظير لها في اللغة العربية (لغة المقرر الأصلية) والمرتبطة أصلا ببعض المظاهر الثقافية المحلية كاللباس والمأكولات. ومن الناحية التربوية ليس هناك من أي حرج في استعمال المصطلحات العامية التي يعتمدها المتعلم في التداول اليومي والمقترنة بأوساطه القريبة في كتاب مدرسي محرر بلغة أخرى إن كانت مستوحاة من ثقافته المحلية، وتساعد في تقريب مضامين الدرس للمتعلم، ولا يقف الأمر عند المصطلحات فحسب، بل حتى بعض المظاهر الثقافية من جوانبها المشرقة كالمواسيم والأعراف وغيرها، على أن تقف بدورها حدا أمام التمييع والتهجين. مع اعتماد مبدأ الجهوية في ذلك، فلا يصح تربويا أن يتم تصريف مظاهر ثقافية خارجة عن الإطار المجالي الثقافي للمتعلم، كأن يدرج موضوع موسم “لالة تاعلاطت” في مادة الإنشاء موجهة لمتعلمين ينحدرون من مدن الرينكون ومارتيل مثلا أو مظاهر احتفالات النويل موجهة لمتعلمين منحدرين من قرى تينزيضن أو تيغيرت أو عوينت التركز. فذلك تعقيد للعملية التعليمية التعلمية ككل وفي الأصل.

لكن الحاصل الآن هو العكس تماما؛ هجانة فاقعة من حيث اللغة والمضمون، وهي ناتجة عن ما يشوب السياسة اللغوية والثقافية وانعكاس للضبابية والتسرع وفقدان البوصلة التي تعرفها السياسة العمومية بشكل عام. والواقع لا ينم عن وجود أي إرادة فعلية لإدراج اللغات الأم للمغاربة في المنظومة التعليمية وما الانتقادات الموجهة لما رأيناه في الكتاب المدرسي إلا لغو بدون أساس وهجوم استباقي من طرف معارضي إدراج اللغات المحلية الأم في التعليم.

الإقرار باللغات الأم في التعليم، ضرورة لإحقاق العدالة اللغوية والثقافية

يقصد باللغات الأم، أولا وباختصار، تلك التعابير اللسنية الأولى التي يصادفها الإنسان في محيطه، وبها تعلم الأشياء والقيم وهي الحاملة لأفكاره، وبها عبر عن مشاعره منذ أول اتصال له بواقعه اللغوي. وقد أكدت الدراسات العلمية في هذا المجال، على أن التعليم الأولي والمستمر في كافة مناهج العلوم التي سيتلقاها الطفل في مراحل تعلمه الأولى، ينبغي أن تكون بلغته الأولى، التي ترعرع بها وتعلمها من محيطه الأول، واكتسب بها أولى معارفه الأولية التي تصقل مواهبه العقلية وتنمي قدراته الذهنية وتحفز نمو ذكاءه بالشكل الطبيعي الذي يتطلبه الأمر. تلك اللغة التي أنتج بها أولى تعابير تفاعلاته مع إشكالياته التي يصادفها في حياته اليومية الأولى، هي ما يطلق عليه اللغة الأم mother tongue ، التي وجب أن ينظر إليها باعتبارها المكون الأساس في بناء ذكاء الفرد وصقل مواهبه التي تعد منذ المراحل الأولى –بالإضافة إلى كافة معطيات محيطه الاجتماعية والسياسية والثقافية…- اللبنة الأساسية في مصير ومسار الإنسان.

وإذا تم الاتفاق على ان أزمة التعليم بالمغرب هي أزمة بنيوية لا تتحدد باللغة فحسب، فإن هذه الأخيرة تعد أيضا أمرا مهما لا ينبغي تجاهله.

إن ما وقع بصدد إدراج بعض المصطلحات في الكتاب المدرسي لهو فعلا حق يراد به باطل، فإدراج اللغات الأم يعد أمرا ضروريا بل حتميا وملحا لا كلغات مدرسة فقط وإنما كلغات تدريس أيضا، فلا معنى أن يصطدم المتعلم في مراحل تعلمه الأولى مع لغة لا تربطه به أي صلة، بينما يتم استبعاد لغته التي تلقن بها أولى معارفه وحملت أفكاره وعبرت عن مشاعره. وقد تبدو هذه الفكرة منذ الوهلة الأولى للإنسان الناقد الناضج المتأني في اتخاذ المواقف أنها مسألة إيجابية وأن هناك جراة فكرية وعملية لدى أصحاب القرار ناتجة عن إرادة فعلية مبنية عن دراسة التجارب الناجحة للبلدان التي اعتمدت لغاتها المحلية الأم في المنظومة التربوية. والحال أن الغاية من إدراج تلك المصطلحات في المقرر ليس هي تقريب مضمون النصوص المدرسة إلى المتعلم، بل استكمال دورة التمييع والهجانة التي تشهدها المنظومة ككل، لأن اعتماد اللغة الدارجة المغربية يستدعي أولا توفير شروط تهيئتها لغويا فإعداد حواملها البيداغوجية ثم توفير شروط التأطير ومنها بناء القدرات البشرية الموكول لها بمهمة التدريس. أما بالنظر المتأني إلى تلك المفردات العامية (بطبوط، بغرير بريوة…) سنجد أولا أنها بعيدة جدا عن ثقافة العامة من المغاربة، إذ إن استهلاكها لا يتجاوز محور مدن الوسط والشمال.

وإذا تمكن الشعب المغربي من الكتابة والإبداع والإنتاج وطالب بتهييء لغاته الأم الأمازيغية والدارجة المغربية، والاعتراف بها رسميا، بكل ما تستحقه من حقوق كل على حدة، فذاك حقه المشروع الذي لا ينفصل عن مجموع حقوقه في الحياة العامة.

[email protected]

‫تعليقات الزوار

2
  • saccco
    الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 11:25

    يبدو واضحا ان النقاش الحالي حول للغة لا علاقة له بالاشكال الحقيقي المطروح،فكل ما يكتب وكل ما يقال هو فقط قراءات ساذجة عامية مؤدلجة حد التخوين لا تنتج سوى اجواء متجنشة بعيدة كل البعد عن حوار علمي جاد يتناول اصل المشكل وطبيعته الحقيقية
    المفروض ان مناقشة المسألة اللغوية بالمدرسة المغربية ما يجب ان يحكمها هو السقف البيداغوجي الديداكتيكي
    المشكل الحقيقي هو التعثر المهيمن على مستوى تعلم اللغات بالمدرسة المغربية بصفة عامة ومدى تأثيره على استيعاب باقي المواد المدرسية وهو مشكل لا ينكره الا جاحد
    اكيد ان هذا التعثر المدرسي لا ينحصر في المستوى اللغوي فقط بل هناك عدة عوامل منها الاجتماعي والتنظيمي والمهني الخ
    لكن يظل المشكل اللغوي بارزا بإعتبار ان اللغة هي وعاء الفكر وتشكل اداة رئيسية من بين ادوات التعلم والمعروف بيداغوجيا وداكتيكيا فالمتعلم وخصوصا الطفل في السنوات الاولى للتمدرس هو المحورالرئيسي الذي تدور حوله عملية التعليم والتعلم وبالتالي الضرورة الملزمة للإنطلاق من تعلماته القبلية فالطفل لا يلج المدرسة خاوي الوفاظ لغويا بل له معارف ووجدان وإستعدادت ترسبت بواسطة لغته الام (دارجة/امازيغية)

  • saccco
    الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 12:09

    فليس بمجرد جلوس الطفل فوق كرسي المدرسة حتى نشطب نهائيا كل مكتسباته المعرفية والمهارات القبلية ليجد الطفل نفسه مجردا من اهم اداة تعلماته وإدراكاته ومهارته اللغوية وهي بلغته الام الدارجة او الامازيغية ويجد نفسه في مواجهة لغة جديدة بقواعدها ونحوها وصرفها ومفرداتها والتي هي ليست سهلة وفي متناوله وحتى البالغين منهم
    فجل المختصين الدوليين في البيداغوية والديداكتيك الحديثة ينصحون في الدول المتعددة اللغات والتي لغة التدريس ليست هي اللغة الام المتداولة بالاعتماد على هذه الاخيرة ولو في السنوات الاولي لتعليم الطفل حتى لا تكون هناك قطيعة لغوية بين لغته المتداولة(دارجة/امازيغية) ولغة المدرسة (العربية الفصحئ)والتي قد تتسبب في ندوب وحواجز نفسية وجدانية قد تقلص وتقزم أستعداداته الادراكية في مسيرته التعلمية
    فالمطلوب ليس هو خطاب عامي هزلي ومؤدلج لان الامر يتعلق بمصير المدرسة المغربية وبالتالي مستقبل رجال ونساء الغد في عالم تنافس يرتكز على المعرفة
    فالمطلوب هو إجراء دراسات علمية مخبرية جادة بتجارب وإحصاءات وارقام لإختبار مدى تأثير اللغة الام في تعلم الطفل لغات ثانية وثالثة وباقي المواد المدرسية

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين