حرية الدين والعقيدة وحقوق الكنائس والبيع في الإسلام

حرية الدين والعقيدة وحقوق الكنائس والبيع في الإسلام
الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 12:42

حقيقة مرة توصلت إليها عبر سنوات من البحث والتنقيب في بطون التاريخ الإسلامي والتاريخ الديني عموما وهو أنه لم يتم استغلال الدين من أي جماعة أو حزب أو طائفة أو دولة وإدخاله في أتون السياسة والأيديولوجيا إلا عاد ذلك بالوبال على البلاد والعباد وعلى تأزيم العلاقات فيما بينهم وبين أصحاب الديانات والمعتقدات الأخرى، كم من حرب دينية وقعت بسبب هذا ذهب ضحيتها الآلاف؛ بل الملاين من الناس؟! لهذا جاء الحسم من القرآن الكريم في جانب مهم وحساس وهو حرية العقيدة يقول تعالى: ” لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي” وقال تعالى: “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..” وقوله تعالى: “فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر” أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم فقط، “فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب” ، ولهذا قال سبحانه: “لست عليهم بمسيطر”؛ قال ابن عباس ومجاهد: لست عليهم بجبار، أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم، وقال ابن زيد: لست بالذي تكرههم على الإيمان..كما أن من مبادئ ديننا الإسلامي أن من حق أي انسان أو جماعة تعيش تحت مظلته ولا تدين به أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وأعرافها، وتمارس شعائرها الدينية بكل حرية، وعلى الدولة والحكومة المسلمة أن تحافظ وتحمي دور عبادة هؤلاء من معابد وكنائس وغير ذلك؛ فحماية دور عبادتهم هي من مقاصد العمران الإسلامي؛ بل القرآن الكريم جعل تغلب المسلمين وجهادهم لرفع الظلم والطغيان ودفع العدوان وتمكين الله تعالى لهم في الأرض سببا في حفظ دور العبادة من الهدم وضمانا لأمنها وسلامة أصحابها وذلك في قوله تعالى: ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا..” قال ابن عباس رضي الله عنهما، الصوامع هي التي تكون فيها الرهبان، والبيع هي مساجد اليهود، أما الصلوات فهي كنائس النصارى، والمساجد هي أماكن العبادة عند المسلمين، وقال مقاتل بن سليمان في تفسيره: “كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرا في مساجدهم ، فدفع الله بالمسلمين عنها” وبذلك جاءت السنة النبوية الشريفة فكتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأسقف بني الحارث بن كعب وأساقفة نجران وكهنتهم ومن تبعهم ورهبانهم: أنّ لهم على ما تحت أيديهم من قليل وكثير من بيعهم وصلواتهم ورهبانيتهم، وجوار الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ألّا يُغَيَّرَ أسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا كاهن عن كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم، ولا سلطانهم، ولا شيء مما كانوا عليه..” وعلى هذا النهج سار الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام، فقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهدًا إلى المسيحيين في بيت المقدس عام 15 هجريًا، فيما يسمى العهدة العمرية، قال فيها: ” ﺑِﺴْﻢِ ﺍﻟﻠﻪِ ﺍﻟﺮّﺣْﻤَﻦِ ﺍﻟﺮّﺣﻴﻢِ، ﻫﺬﺍ ﻣﺎ ﺃﻋﻄﻰ ﻋﺒﺪ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻤﺮ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺃﻫﻞ ﺇﻳﻠﻴﺎﺀ ﻣﻦ ﺍﻷﻣﺎﻥ -ﻭﺇﻳﻠﻴﺎﺀ ﻫﻲ ﺍﻟﻘﺪﺱ- ﺃﻋﻄﺎﻫﻢ ﺃﻣﺎﻧًﺎ ﻷﻧﻔﺴﻬﻢ ﻭﺃﻣﻮﺍﻟﻬﻢ، ﻭﻟﻜﻨﺎﺋﺴﻬﻢ ﻭﺻﻠﺒﺎﻧﻬﻢ، ﻭﺳﻘﻴﻤﻬﺎ ﻭﺑﺮﻳﺌﻬﺎ ﻭﺳﺎﺋﺮ ﻣﻠﺘﻬﺎ، ﺃﻧﻪ ﻻ ﺗﺴﻜﻦ ﻛﻨﺎﺋﺴﻬﻢ ﻭﻻ ﺗﻬﺪﻡ، ﻭﻻ ﻳﻨﺘﻘﺺ ﻣﻨﻬﺎ ﻭﻻ ﻣﻦ ﺣﻴﺰﻫﺎ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﺻﻠﻴﺒﻬﻢ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﺷﻲﺀ ﻣﻦ ﺃﻣﻮﺍﻟﻬﻢ، ﻭﻻ ﻳُﻜﺮَﻫﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺩﻳﻨﻬﻢ..” وعلى ذلك جرى عمل المسلمين وحكامهم -زمن فقه الأنوار الإسلامي- في الحفاظ وحماية حقوق هؤلاء في التعبد وممارسة شعائرهم الدينية بكل حرية؛ هنا نستحضر قصة السلطان المغربي المسلم محمد الخامس رحمه الله تعالى مع اليهود المغاربة عندما طلبه الجنرال (فيشي Vichy)بتجريم وتصفية لما يزيد عن 250000 يهودي مغربي من قبل قوات الاحتلال الفرنسية للمغرب سنة 1941 م؛ حيث رفض محمد الخامس رحمه الله تعالى رفضا قاطعا تطبيق هذه القوانين التي كانت تُجرمُ تواجد اليهود على تراب المستعمرات الفرنسية و دافع عنهم قائلا : ” لا يوجد يهود عندي في المغرب؛ بل عندي مواطين مغاربة ” . فالسلطان محمد الخامس رحمه الله تعالى كان يعي جيدا ما يقول -وهو الفقيه والعالم بالقرآ والسنة- على أن دين الإسلام يحرم ويمنع منعا كليا التعدي على اليهود والنصارى وسفك دمائهم أو هدم كنائسهم ومعابدهم، وخصوصا وهم في كنف الدولة الإسلامية وتحت سلطانها، ولهذا أبرز فقهاء الإسلام في بعض كتبهم قمة وعظمة الإسلام وخصوصا فيما يتعلق بالحوار والتعايش والتسامح مع الآخر وضمان حقوقه وممارسة شعائره الدينية بكل حرية، حتى أن عالمي الديار المصرية الإمام والمحدث والفقيه الليث بن سعد والإمام قاضي مصر عبد الله بن لهيعة أكدا أن كنائس أقباط مصر لم تبن إلا في ظل الحكم الإسلامي، وأن والي مصر في زمن هارون الرشيد، موسى بن عيسى أمر بإعادة بناء الكنائس التي هدمها من كان قبله وجعل ذلك من عمارة البلاد، وكانا أعلم أهل مصر في زمنهما، وفي هذا السياق يقول الدكتور “إيدمون رباط” في حديثه عن سماحة الدول الإسلامية: “إنه كان من حق الشعوب الخاضعة لنظامه أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم ” . مع الأسف، يأتي اليوم بعض التيارات والجماعات الإسلامية المتنطعة ويصدرون فتاوى يحرمون من خلالها بناء الكنائس والمعابد في البلاد العربية والإسلامية؛ بل ويقومون بهدمها وتفجيرها انطلاقا من هذه الفتاوى التي أصبحت خارج السياق وخارج التاريخ معا؛ لأن للتعصب وللمذهبية والأيديولوجية أعين كما يقال، لا ترى إلا ذاتها وجماعتها وحزبها وطائفتها وزعيمها؛ فمن خلع جلبابها وطلقها فسيرى الخير والعدل والحق والاستقامة والصلاح والتقوى في أناس كان يحسبهم كفرة فجرة ومرتزقة وخونة وعملاء..هنا تكمن خطورة الحزبية والأيديولوجية؛ لكونها تعجز عن رؤية القيم الانسانية ورؤية الخير والاستقامة في الآخر؛ بل تقوم بتشويه هذه القيم وتحريف مضامينها مع التدليس والغرر والشطط في تطبيقها ونفيها عنه؛ لأن الإنسان المتحزب -مهما كان تقيا مستقيما أو فقيها عالما- لا يقوى على فهم ماهيه الأمور على وجهها الحقيقي؛ لعيب أو غبش في بصره وبصيرته، فالدين كما هو معلوم، وأي دين سماوي جاء ليسعد الإنسان من حيث هو إنسان، خلقه الله تعالى بيده ونفخ فيه من روحه وكرمه وفضله على سائر مخلوقاته، ولهذا قصة الدين هي قصة إنسان أولا وقبل كل شيء، لكن نحن -أهل الإسلام- قلبنا المعادلة تماما، فجعلنا الدين أصل الكون وجوهره والإنسان تبع له؛ بل العكس هو الصحيح تماما، مع العلم أن صفة الدين أخلاقية لا مذهبية قومية، فدين الله الحقيقي لا يخص جماعة أو طائفة أو قبيلة بحد ذاتها بقدر ما يخص جماعة الانسان (رحمة للعالمين) فمن الصعب جدا أن تكون مؤمنا حقا؛ لأن المؤمن الحق ينبغي عليه أن يحب الخير لجميع الناس كما يحبه لنفسه، إن لم تكن كذلك فأنت لم تؤمن به “جل جلاله” حتى ولو صليت ملايين الركعات، فظلم االإنسان وإيذائه والسخرية منه، ومنع الطعام عنه وعدم مساعدته كفر ! وفي هذا السياق يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ به” ، فعدم فهمنا لهذه المعاني السامية للإسلام فهما صحيحا انتشرت -مع الأسف خلال السنوات القليلة الماضية- بين التيارات والأحزاب والجماعات الدينية وشيوخهم ظاهرة “أنت كافر”.. هذه الكلمة الخطيرة انتشرت بكثرة في البلاد العربية، خاصة البلاد التي بها حروب، أو صراعات بين أحزاب اسلامية سياسوية مختلفة، كالعراق وسوريا وليبيا.. حيث أصبح من السهل أن يكفر كل حزب الآخر أو شيخ يكفر صديقة لمجرد اختلافه معه في بعض الجزئيات والفروع، ويجزم ويحلف بالأيمان المغلظه أنه كافر، ويأتي بألف دليل ودليل من القرآن والسنة، مع أن جميعهم مسلمين، يقول شيخنا العلامة عبدالله بن بيه: فلا بد من التفكير في مشكلة التكفير، إن أهم قضية يجب أن يتداول حولها العلماء والمفكرون هي مسألة التكفير المتبادل؛ لأن التكفير هو مفتاح الشرور، لأنه مدخل استباحة الدماء والأموال والأعراض، وأي وطن ينتشر فيه داء التكفير فإن جسد وحدته سيتلاشى، وجدار بنيته سيتداعى وينهار.. الجسد والبنيان هما مثالان للمجتمع المتماسك في الإسلام.. “مثل المؤمنين في توادّهم، وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”، “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” وشّبك بين أصابعه، لكن للأسف وإلى يوم الناس هذا هناك من يعتبر من المشايخ والدعاة والعلماء ورؤساء وؤمراء الجماعات الإسلامية في أوطاننا العربية والإسلامية أن الوطن هو حفنة تراب نجسة ولا ينبغي أبدا الولاء له أو الدفاع عنه والإحتماء به وتنظيم حقوق وواجبات مواطنيه تحت لوائه، مع العلم أن صحيفة المدينة المنورة تعتبر أول دستور في التاريخ ينظم العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين؛ حيث اعتمد الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيفة مبدأ المواطنة، فوضعت فيها الحقوق والواجبات على أساس المواطنة الكاملة التي يتساوى فيها المسلمون مع غيرهم من مسيحيين ويهود ومجوس وعباد الأوثان وغيرهم من ساكني المدينة المنورة ومن حولها.

ختاما، ما أحوجنا اليوم إلى قراءة رسالة الإسلام وقراءة القرآن من جديد قراءة علمية دقيقة معاصرة تخرجنا من كثير من المشاكل الثقافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية والسياسية التي نتخبط فيها اليوم ، ومن أخطرها التعددية والتنوُّع في العقائد والمذاهب والإيديولوجيات والجماعات الدينية المختلفة، وذلك أنّ الحضارات تمتلك ثقافات مختلفة، والثقافات المختلفة ناشئة من عقائد وديانات ومدارس متباينة ، إذن فحوار الحضارات لا يمكن تصوره بعيداً عن حرية العقيدة، وحرية العقيدة هي الضامن الجوهري والحصن الحصين للتعايش بين الأمم والشعوب والأجناس البشرية المختلفة .

‫تعليقات الزوار

3
  • simo
    الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 16:44

    م قالك منطقي رغم اني لااعلم شيئا كثيرا من هذا
    واصل حتى يظهر الحق
    شكرا

  • توت الحلوف حلال
    الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 17:26

    صالح بن حميد إمام الحرم المكي: إذا أقبلت الفتن فلا تخوضوا فيما لا يعنيكم والزموا الصمت

    وصى الشيخ الدكتور صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام المصلين إذا أقبلت الفتن بعدم الخوض فيما لا يعنيهم والتزام الصمت والتمسك بالسنة.

    محمد القيعي

  • مولاي الديني الخزرجي
    الجمعة 12 أكتوبر 2018 - 17:29

    والله ما تستحيون ولا مقياس شرعي تلتزمون به، تميل ن مع الميل كيفما اتفق، أنتم مع الرياح يمينا وشمالا. وقد حولت الإسلام إلى إسلام مزاجي. وأنتم تلزمون الناس بالصوم رغم أن للصوم رخص مرسومة وتل مون كل مغربي بأن يكون ملتزما برمضان، وتعتبر ن كل الأمم الأخرى مسرحا للغزو بسبب (الفتوحات). وربما غدا أو بعده تقولون إن شمال إفريقيا قد دخل في الإسلام حبا وطاعة،
    ربما كان إسلام من أعفى لحيته غير إسلام من حلقها. في الإسلام كلام غير متجانس وناس يفتون حسب الهوى والمزاج، ولله. في خلقه شؤون.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة