الصحافة ورهان التخصص

الصحافة ورهان التخصص
الإثنين 15 أكتوبر 2018 - 08:30

تضطلع الصحافة بكل أنواعها (مرئية، سمعية، ورقية، إلكترونية) بأدوار ووظائف متعددة المستويات (إخبارية، تثقيفية، توعوية، تحسيسية، تأطيرية…) تجعل منها سلطة رابعة تجد موقع قدم لها ضمن السلط الكلاسيكية الثلاث (التنفيذية، التشريعية، القضائية)، ولها من الآليات والوسائل الصحافية ما يجعلها قادرة على إحداث التغيير المجتمعي، ليس فقط عبر نشر الأخبار والمعلومات ووضعها تحت تصرف عموم الناس، بل أيضا من خلال قدرتها على التأثير في الرأي العام وجعل المواطن متفاعلا باستمرار مع ما يعرفه المجتمع من تحولات ومتغيرات سياسية ومؤسساتية واقتصادية واجتماعية وتربوية وقضائية وأمنية وغيرها. وهذه القدرة تتطلب ليس فقط التوفر على إعلامي أو صحافي حر ونزيه يحترم أخلاقيات المهنة ويلتزم بالتشريعات التي تؤطر مجال الصحافة والنشر، بل أيضا القطع مع الإعلامي أو الصحافي “العام” ( Polyvalent ) الذي يتجرأ على كل المواضيع والقضايا والتخصصات ويكتب في “كل شيء” ويفهم في كل “شيء”، مدفوعا بالرغبة في الحصول على الخبر أو المعلومة التي تعتبر “عصب” العمل الصحافي، وبدونها تفقد الصحافة قيمتها وقوتها التأثيرية كسلطة رابعة، وهذا التوجه قد يجعل العمل الصحافي أو على الأقل بعض الأعمال الصحافية تسقط في “العمومية” أو “الضبابية” أو “الارتجال” أو “الهفوات”…

حتى تتضح الصورة، واستثناء لبعض المنابر الصحافية المتخصصة (الاقتصاد، الأمن، التربية والتكوين، الرياضة …) وكذا بعض التخصصات الصحافية ذات الطبيعة التقنية، يمكن تصور حالة صحفاي حاصل على إجازة أو ماستر في الأدب العربي أسندت له مهمة مواكبة وتتبع قضية جارية على مستوى القضاء، وهو غير ملم بالإجراءات وطرق سير الدعوى والتنظيم القضائي (اختصاص المحاكم)، أو صحافي صاحب إجازة أو ماستر في الدراسات الإسلامية يتتبع قضية معروضة على الشرطة القضائية وهو لا يعرف البحث التلبسي والبحث التمهيدي، بل لا يميز بين “ضابط شرطة قضائية” و”ضابط أمن”، أو صحافي موجز في التاريخ والحضارة يتحرى بشأن قضية قضائية جارية حول شركة في طور التصفية القضائية، وهو يجهل جملة وتفصيلا مراحل صعوبات المقاولة وأبجديات قانون الشركات وغير ذلك… في هذه الحالات وغيرها لا نطلب من الصحافي أن يكون قاضيا أو شرطيا أو متخصصا في صعوبات المقاولة وقانون الشركات، لكن في الآن نفسه ليس بمقدوره أن يكون ملما بهذه المهن والتخصصات وغيرها، فقد ينجح في الحصول على المعلومة إما عبر القنوات الرسمية أو عبر مصادر الخبر، لكن وفي ظل قصور الرؤية المعرفية، قد يكون المنتوج الصحافي معيبا من ناحية الحرفية والدقة والوقوع في بعض الهفوات غير المقبولة، كمن يبحث في قضية جارية لدى الشرطة ويتكلم عن “ضابط أمن”، بينما المقصود هو “ضابط شرطة قضائية”؛ أو كمن يكتب في قضية ضرائب وهو لا يستطيع التمييز حتى بين “الرسم” و”الضريبة” .

في هذا الصدد، وتجويدا للعمل الصحافي والارتقاء به، أضحى من الضروري على معاهد تكوين الصحافة والإعلام والجامعات تعزيز الاهتمام بالتخصص الصحافي – مثلا تكوين صحافيين متخصصين في قضايا الأمن والإرهاب، أو قانون المال والأعمال، أو قضايا الضرائب، أو قضايا البورصة، أو قضايا البيئة والمناخ، أو قضايا التنمية أو قضايا التربية والتكوين أو العلوم السياسية وغيرها- لأن كل مجال تخصصي إلا وله قاموسه ومفرداته ومفاهيمه الخاصة؛ وكلما اتجه الصحافي نحو “التخصص” كلما أحاط بتفاصيل مادته الصحافية وشملها بما يكفي من الحرفية والمهنية، حرصا على احترام “المتلقي” وكسب ثقته وضمان إخلاصه وتتبعه؛ وكلما اتجه نحو “العام” كلما كانت إمكانية الخطأ واردة. فلا يعقل أن تتجه قطاعات حيوية نحو “التخصص” منذ مدة لتجويد عملها، كقطاع القضاء -مثلا- (قضاء الأحداث، محاكم ابتدائية زجرية، محاكم تجارية، محاكم إدارية، محاكم مالية، قسم قضاء الأسرة … إلخ) وقطاع الأمن الوطني (فرقة وطنية للشرطة القضائية، مصالح ولائية للشرطة القضائية، فرق الشرطة القضائية، دوائر الشرطة، فرق جنائية، الاستعلامات العامةـ، شرطة السير والجولان، شرطة الدراجين “الصقور”، شرطة الخيالة، خلايا العنف ضد النساء، فرق الأحداث، فرق محاربة المخدرات، مسرح الجريمة، الفرق الاقتصادية والمالية، الأمن المدرسي …إلخ)، بينما لازلنا نجد بعض الصحافيين يكتبون في جميع التخصصات الشرطية من جرائم مالية واقتصادية وقضايا الإرهاب وتبييض الأموال وجرائم الأحداث والعنف ضد النساء والأمن المعلوماتي وأمن الموانئ وأمن المطارات وغيرها من الجرائم التي يستدعي التعامل معها نوعا من التخصص (الإرهاب، الجرائم المعلوماتية، الجرائم المالية…).

الحديث عن “التخصص” في حقل الصحافة لا بد أن يأخذ ما يستحقه من عناية واعتبار من قبل المعاهد المتخصصة في التكوين الصحافي، سواء كانت عمومية (المعهد العالي للإعلام والاتصال) أو خصوصية، والتفكير في فتح إجازات وماسترات متخصصة في بعض الحقول المعرفية، كالصحافة الإلكترونية، الصحافة المالية، الصحافة الرياضية، صحافة البورصة، وصحافة قضايا الأمن والإرهاب، وصحافة العلاقات الدولية والعلوم السياسية، وصحافة التنمية والبيئة، صحافة الآثار والتراث، وصحافة الهجرة، وصحافة الإجرام، وصحافة التربية والتكوين وصحافة الأحداث وغيرها. وفي هذا الصــدد من الضروري الإشارة إلى تجربـة “الإجازة المهنيــــــــة في الصحافة القانونية والاقتصادية” التي تؤثث الهندسة البيداغوجية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بالمحمدية، والمفتوحة أمام الطلبة الحاصلين على “شهادة الدراسات الجامعية العامة” في القانون والاقتصاد وتخصصات أخرى كعلم الاجتماع والإعلام وغيرها. وهذه التجربة التي دخلت موسمها الثالث من شأنها الإسهام في تكريس التخصص الصحافي في المجال القانوني والاقتصادي، إذ تقدم للطالب مجموعة من الوحدات الدراسية، منها مثلا ما يرتبط بالعمل الصحافي، مثل “تقنيات الكتابة الصحافية” و”الأجناس الصحافية” و”اقتصاد الإعلام” ومنها ما يقوي الجانب القانوني والسياسي للطالب، مثل “مدخل إلى علوم التواصل السياسي”، و”قضايا دولية معاصرة”، و”الفاعلون والمؤسسات السياسية بالمغرب” (برنامج السداسية الخامسة)؛ وهي تجربـــــة تستحق المزيد من التشجيع والدعم والتطوير الكفيل بتكوين صحافيين متخصصين في المادة القانونية والاقتصادية، والتفكير في إيـــــلاء التكوين الصحافي المزيد من الاهتمام من خلال التفكير في فتح ماستر مهني متخصص في الصحافة القانونية والاقتصادية وغيرها، في وقت يجري الحديث عن إصلاح الجامعة وجعل التكوين الجامعي في خدمة التكوين المهني وعبره سوق الشغل.

صفوة القول، لا بد من الإقرار بأن العمل الصحافي هو بحث عن المعلومة ووضعها تحت تصرف جمهور الناس، وفي الآن نفسه هو “صناعة” تتطلب شروط ‘الحرفية” و”المهنية” و”الدقة” احترامــا للزبون/المتلقي، وجعله في صلب التحول السياسي والمؤسساتي والاقتصادي والاجتماعي والقضائي والأمني والتربوي… إلخ. واحترام الزبون/ المتلقي يمر حتما من الإيمان بـ”التخصص” وجعله قناة لا محيد عنهـــا للارتقــاء بالعمل الصحافي بشكل يجعل من مهنة الصحافـة “سلطة رابعة” حقيقيـة ملتزمة بأخلاقيات المهنة ومحترمة لمقتضيات التشريع الصحافي، مؤثرة في واقعها ومساهمة في تحقيـــق التنميــــة الشاملـــة. لذلك يبقى “التخصص” رهانا أساسيا أمام مختلف المتدخلين في الحقل الإعلامي، وربح هذا الرهـــان هو ربـح للجـــــودة وإقصـــاء لكل مفردات العشوائية والارتجال …

*أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي(المحمدية) باحث في القانون وقضايا الأمن والتربية والتكوين

[email protected]

‫تعليقات الزوار

3
  • ايوا حتى هو
    الإثنين 15 أكتوبر 2018 - 10:19

    تابعني كليان ما كليان , المهم كي ما درنا وحلة ، تحية احترام ، را هادو ما عارفين والو گاع ،

  • سعادة الضابط
    الإثنين 15 أكتوبر 2018 - 12:28

    بصدق اخي عزيز لماذا تركت قطاع الامن الوطني وولجت اسوأ قطاع يسيره أخطر قُطَّاع المافيات من الوزير الى رؤساء المصالح بالتربية الوطنينة مرورا بمدراء الأكاديميات اللصوص الحقيقيين لميزانيات ضحة من لوجتيك وإطعام مدرسي يأخذون حصة الأسد في الكعكة التي لا يعرفها الكثير.
    في الأمن الوطني ينتشر الفساد لكن أخطر فساد في قطاع التعليم. لقد نَذِمْتَ أخي عزيز أعرف لكن لا تحزن امامك أفق جميل لأنك شجاع ولاتستسلم.

صوت وصورة
أحكام قضية الدهس بالبيضاء
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 23:58 4

أحكام قضية الدهس بالبيضاء

صوت وصورة
معرض الحلي الأمازيغية للقصر الملكي
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 23:55

معرض الحلي الأمازيغية للقصر الملكي

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 3

احتجاج بوزارة التشغيل