هل يؤدي إعدام قتلة السائحتين إلى تحقيق العدالة؟

هل يؤدي إعدام قتلة السائحتين إلى تحقيق العدالة؟
الإثنين 31 دجنبر 2018 - 21:07

لقد كان هذا السؤال، الذي طرحه أحد أصدقائي على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، بمثابة الصاعقة التي عصفت بوجدان الناس قبل عقولهم، وكشفت عن العواطف والغرائز والأحقاد التي تعتمل في سرائرهم، بل وضعف التكوين الفكري. فبمجرد أن طرح السؤال انهالت التعليقات المطالبة بإعدام القتلة في الساحة العمومية “جامع الفنا”. لقد أصبت حقا بالصدمة من هول فظاعة التعليقات التي ينشرها من يتظاهرون بحياديتهم وتقدميتهم، وكأنهم يحاولون نفي التهمة عن أنفسهم… ويظهرون بمظهر الرجل المتسامح والمتعايش مع الآخرين.. هذه المحاولة التي لم يسلم منها حتى بعض العناصر المحسوبة على التيار الإسلامي المتشدد، والتي سبق لها أن قامت بتكفير بعض المواطنين وحرضت عليهم. ومن اختبار فرضيتي بشكل جيد قمت في يوم غد بطرح السؤال نفسه على تلاميذي، فكان هو عين الجواب الذي تمت الإشارة عليه. ثم حاولت أن أتبين مدى ثباتهم على موقفهم وأعدت لهم السؤال: هل سيؤدي إعدامنا للقتلة إلى تحقيق العدالة حقا؟ ثم أردفت أليس أن التعامل مع القتلة بنفس المنطق سيجعلنا في نفس المستوى؟

هكذا بدؤوا يستعيدون وعيهم ويلملمون كلماتهم.. وعوا بأن الأجوبة الاندفاعية لا تعطي أكلها. أحسوا بأنهم في ورطة حقيقية !! الأمر الذي جعلهم يعون أن المعاملة بالمثل ليس هي الحل. العدالة أشمل وأعم من المعاملة بالمثل أو ما يسمى بقانون “طاليون”، هذا الأخير الذي نجد له حضورا قويا في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة لكن وجوده سابق عليها.. لقد كان أساس العدالة في الحضارات الإنسانية في عصور ما قبل التاريخ. ومنه، فليس الأديان السماوية وحدها تؤمن بمسألة “العين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن السن بالسن والجروح قصاص” (سورة التوبة، الآية 45) كما يعتقد الكثير من الناس، بل هذا القانون ضارب بجذوره في عمق التاريخ الإنساني.. وإذا ما تعاملنا بهذا القانون وعملنا على تنفيذ الإعدام في حق هؤلاء القتلة، أفليس أن الأمر قد يجعل العدالة تنزلق من مستوى العقل إلى مستوى الغريزة، بحيث تتخذ العدالة صورة الانتقام. وإن كان الأمر كذلك، فهل تنحد حدود العدالة بحدود الانتقام أم أن العدالة أوسع من الانتقام؟

لا شك في أن الانتقام هو نوع من العدالة؛ لكنه ليس العدالة بالتعريف. إنه العدالة في مستواها الحيواني.. تتحقق العدالة داخل المملكة الحيوانية عن طريق الانتقام. أما داخل مملكة الإنسان فإنها أكثر من مجرد انتقام من المعتدي. الانتقام سلوك حيواني خسيس تديره الرغبات والغرائز والأحقاد.. أما العدالة فهي عقلية، إنها تميل إلى تحقيق الإنصاف، حسب مفهوم الفيلسوف اليوناني أرسطو، بين الناس. العدالة هي إحقاق الحق بين المتقاضين وليس مجرد مناسبة للانتقام من طرف الجاني.. تقوم العدالة على العقل، إنها تطبيق لقواعد العقل الكوني الذي لا يدخل في حسابه إلا ما يجب أن يكون، العقل بمعناه الكانطي..العدالة تقوم على الواجب الأخلاقي الذي هو كذلك ليس لكونه يقوم على أساس ديني أو ثقافي أو إثني.. بل هو واجب لأن العقل الكوني يقره بعيدا عن كل أشكال التحيز إلى أي طرف.. ومنه، فإن الغاية من العدالة هي إحقاق الحق وليس إرضاء للخواطر أو تنفيسا عنها.. بينما أن الانتقام يتخذ صبغة اندفاعية ومحلية وموضعية.. إنه متحيز إلى الدين أو العرق أو الطبقة أو ما دون ذلك. وهنا يكمن قصور “قانون طاليون” الذي يقوم على التعامل بالمثل.. فهل سنكون نحن المالكين لملكة العقل أكثر عقلانية استنارة وتحضرا من هؤلاء الهمج إذا ما طبقنا فيهم الإعدام؟

أقول، لتلاميذي الأعزاء وللمعلقين الفيسبوكيين، إن المسألة أعقد مما يتبادر إلى مخيلاتنا منذ الوهلة الأولى؛ لأن هذا الأمر لن يجعلنا أكثر عقلانية ولا أكثر إنسانية ولا أكثر رحمة منهم؛ ذلك أن التطرف سيكون هو سيد الموقف!! لأننا سنكون آنئذ قد انتقلنا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. انتقلنا من التطرف باسم الدين إلى التطرف باسم العدالة، فنعيد بذلك نفس سيناريو محاكمة “جون كالاس” التي عالجها الفيلسوف الفرنسي فولتير في كتابه حول “التسامح”، هذا الكتاب الذي ظل لما يقرب من ثلاثة قرون صرخة في وجه التطرف والتعصب الديني. وعليه، لا يمكن الادعاء بأن العدالة يمكن أن تقوم على التعامل بالمثل، لأن هذا المبدأ نفسه قد يؤدي إلى الظلم.

ولبيان المسألة بشكل جيد سنعود إلى الفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس، هذا الأخير الذي يميز في كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، الذي يرفض هذا المبدأ لأنه لا يحقق المساواة أو العدالة حينما يكون الظلم حدث بين شخصيتين اعتباريتين مختلفتين، بحيث فإذا ما قام رجل أمن أو موظف الدولة بصفع مواطن، فهل يمكن لتحقيق العدالة أن يقتصر على التعامل بالمثل فيقوم المواطن المظلوم برد صفعته؟! أم أن الأمر أكثر من ذلك؟

أعتقد أن العدالة أسمى من مجرد التعامل بالمثل، لأن هذا الأمر يمكن القبول به، من المنظور الأرسطي، حينما تكون العلاقة بين الظالم والمظلوم متساوية. أما حينما يكونان مختلفين: أحدهما ممثل دولة والآخر مواطن يصبح التعامل بالمثل قاصرا عن تحقيق العدالة. وعلى هذا الأساس، نجد أرسطو يميز بين العدالة الحسابية أو المساواتية والعدالة التوزيعية؛ لأن اعتماد مبدأ المعاملة بالمثل، الذي يدخل ضمن العدالة الحسابية، لا يحقق العدالة حينما يتعلق الأمر بمحاكمة طرفين من مستويين مختلفين، لأنه إذا قام الشخص المصفوع بصفع ممثل الدولة، فإن الأمر سيؤدي إلى إضعاف هيبة الدولة، لأن الظالم في هذه الحالة لا يمثل نفسه بل يمثل الدولة. وعليه، فإن الإنصاف هنا يكون هو الحل بدل المعاملة بالمثل.

وإجمالا يمكن القول إنه يوجد بين العدالة والانتقام أو قانون طاليون بَوْن شاسع لا يمكن عبوره. العدالة لا تتحقق بمجرد خضوعنا للغرائز البهيمية ورغبة الانتقام وإنما بخضوعنا لمبادئ العقل الكوني، الذي لا يتخذ الجريمة كذريعة من أجل أن يفسح المجال أمام الرغبات الهوجاء لتنكل بالآخر حسب هواها.. العدالة تعالج القضية في شموليتها لا فقط في جزئيتها.. إنها تراعي الجوانب الإنسانية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية… لأن غايتها ليس فقط التعذيب بل تحسيس الجاني بجسارة جريمته.. جعله يدرك أن الاقتصاص الذاتي سيجعل كل واحد منا، بما فيه هو نفسه، في مرمى الاقتصاص منه من طرف الآخرين، أي سيجعل كل واحد منا جانيا وحاكما في الوقت ذاته؛ الأمر الذي سيعيدنا إلى حالة الطبيعة التي هي “حالة حرب الكل ضد الكل” كما يبين ذلك الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز.

*أستاذ باحث، المحمدية

‫تعليقات الزوار

4
  • تحقيق العدالة؟
    الإثنين 31 دجنبر 2018 - 22:11

    أطرح السؤال على نفسي مساءا ما جزاء من قتل نفسا بدم بارد وقطع أوصالها وفصل الرأس عن الجسد دون ما ذنب إقترفته الضحية؟ وفي صباح اليوم التالي طرحت السؤال بصيغة أخرى لعلي أجد جوابا وقد ألغيت فكرة الإعدام فاشتدت حيرتي وتشتت أفكاري علما بأني لست أبا أو أما للضحية لكني إنسان مثلها ، ويبقى السؤال ماهو جزاء القاتل إن لم يكن الإعدام ليعتبر غيره؟؟؟؟؟؟

  • Peace
    الثلاثاء 1 يناير 2019 - 13:47

    في الاسلا هناك حكم الاعدام او العفو ككفارة له او صدقة و هناك الدية و تساوي ثمن مائة بقرة او مائة من الابل, اي ما يعادل مائة مليون سنتيم, اذا اخذنا بمقولة بقرة متوسطة الحجم و يمكن ان يكون اكثر. لكي لا يقول احدكم ان الاسلام متحجر و غير مرن في الاحكام. هذا من جهة, من جهة اخرى القاضي هو الذي يحكم, على حسب الوقائع في الدولة الحديثة, يمكن مثلا ان يقول الذبح و تقطيع الاعضاء ينم عن الحقد الشديد و مرض نفسي خطير جدا يجرد الانسان من انسانيته و ينتشر في المجتمع بسبب اديولوجية معينة و له اضرار خطيرة على الفرد و المجتمع و الدولة و الدين و لا تنفع مع هذه الظاهرة لا دية و لا غيرها و لذلك يجب اعدامهم ليكونوا عبرة لغيرهم او يقول سندخلهم لزنزانة انفرادية مدى الحياة و ننظر في امرهم مع ذكتور اختصاصي في الامراض النفسية و ربما في هذه الحالة بالضبط ايضا مع رجل دين لينظر من حين لاخر في حالهم و يعطونا تقرير عن تطور حالتهم….اذن هذا قرار قضائي و ايضا سياسي و ديني و نفسي و المسالة ليست سهلة.

  • Kamal
    الثلاثاء 1 يناير 2019 - 23:35

    ان كان احد الضحايا من عائلتك او اقاربك ماطرحت هذا السؤال. حتى امريكا التي هي قائدة العالم الحر فيها الاعدام. ذبح و تقطيع وربما اغتصاب قبل ذلك ثم تصوير الجريمة البشعة بالفيديو، فخورين بما اقترفت يداهم. و بعد كل هذا تريدهم ان يعيشوا في سجن 5 نجوم اكل و تطبيب…لستَ ارق قلبا من الامريكان.يجب تنفيد حكم الاعدام فيم و كفى.

  • مومو
    الأربعاء 2 يناير 2019 - 09:02

    هناك نوعان من القضايا، و لا يجب الخلط بينهما. القضايا المدينية و التي يكون محورها الممتلكات المادية، كأن يكسر أحد زجاج سيارة شخص آخر خطأ، أي دون نية شر. و هنا يمكن تحقيق العدالة بدقة، حيث يصلح الجاني ما كسر أو يدفع ثمن إصلاحه، فلو كان ثمن إصلاح الزجاج 5643 درهم، عليه أن يدفع 5643 درهم لا أقل و لا أكثر.
    أما القضايا الجنائية، فيكون محورها التعدي على حقوق الناس الأساسية، فالسرقة تعد على الحق في التملك، و القتل تعد على الحق في الحياة، و الاغتصاب تعد على حق الناس في أجسادهم، و هنا لا يمكن تحقيق العدالة. لأنه ببساطة لا يمكننا إعطاء قيمة لحقوق الناس تمكن من تحديد العقوبة بدقة. لنفترض أن هناك مدة سجنية تعادل جرما ما كالسرقة بدقة، لماذا إذن تكون كل الأحكام بالسنوات؟ لو كانت العقوبات السجنية عادلة لكانت مدتها تقاس بدقة الأيام، لأن سجن أحدهم يوما واحدا أكثر من جرمه ليس عدلا.
    بعيدا عن التصورات الفلسفية، الهدف من العقوبات الجنائية عملي محض، وهو إعطاء العبرة، و تخويف الناس من ارتكاب مثل تلك الجرائم، لهذا طالب الناس بالإعدام، لأن العبرة يجب أن تكون حادة في جرم فضيع مثل القتل.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة