أن تولد في بلادنا!

أن تولد في بلادنا!
الثلاثاء 22 يناير 2019 - 15:04

أخذت قلمي بقوة. أمسكت به بأطراف بناني حتى سرت رعشة خفيفة بكامل جسدي. كثيرا ما تكتب الروايات، أبطال قصص ينسجها الخيال نسجا وتنتصر لها رغباتنا انتصارا، فنجعل منها نهايات سعيدة، وحتى إن كانت نهايات مأساوية، فذلك لا يغير من حقيقة أنها رواية نسجت من حرير وإستبرق.

لكن هل لي أن أحدثكم عن البدايات المؤلمة؟ مؤلمة بقدر قساوة هذا الواقع، واقع تغلب على خيالي هذه المرة واكتفت بكتابته آلاء. أتعرفون آلاء؟ من المؤكد لا. فهي أيضا اسم آخر كتب في سجلات الولادات. تلقيتها بين يدي في خضم المخاض وتمت عملية الإنجاب بسلام. في تلك اللحظة توقف العالم بأجمعه، بأزمنته وأمكنته أمامي، حياة جديدة قد بدأت للتو. وها هي الصغيرة بصراخها وكأنها هزة الكون وأنينه. لم أنم في تلك المناوبة طرف عين. عادت بي المشاهد مرارا وتكرارا. كيف لي أن أحدثكِ عن مرارة الواقع الذي نعيش؟! لم تسعفني جرأتي أن أتمنى لك حظا موفقا وأمضي، تمنيت لو أنك الطفلة ذات البضع دقائق من العمر أن تمسكي بيدي بقوة علي أستمد القليل من الأمل. ففي بلادنا يا صغيرتي يحدث أن يعم الجهل ويستفحل. في بلادنا مثلا، قد أخبروا أمك في قاعة الولادة أنها يجب أن تتألم حتى تلدك، وأن لا ترفع صوتها بالصراخ رغم ذلك، وأن ليس هنالك دواء يساعدها أو يخفف من آلامها.. شاهدة بذلك على دولة بأكملها وعلى نظام صحي برمته لم يصل بعد إلى مرحلة تقديس الإنسان حتى يوفر لها الدواء اللازم لتخفيف الألم. ووالدتك كأغلب النساء في بلادنا لم تبحث عن حقها ولعلها لا تريد أن تعلم عن حقوقها الشيء الكثير.

جعلني هذا الموقف أتذكر مرارة مواقف كثيرة أعيشها كل يوم. فأين نحن من حقوق الإنسان التي تعتبر كماليات أبعد من أن نطالب بها. ففي زماننا يا صغيرتي قد قسم العالم ونعتبر نحن “العالم الثالث” “النامي” “الرجعي” “المتخلف”. تستفزني هذه الكلمات.. أريد عندها أن أقود معركة سلاحها الإرادة، مستميتة حتى نتغير ونغير ونمضي قدما! لعلي أتمنى أن أراك قائدة مستنيرة بعلمك ولكنني أخشى، لأنك في بلادنا، أن تضلي الطريق.. جدا.

ستكبرين أنت أيضا وستسمعين قصصا كثيرة وخرافات عن الظلم، عن الفقر، عن الحريات المفقودة والقيم المتضاربة والاستغلال والرشوة والسياسات العقيمة وعن .. الحرب. نعم الحرب والبشاعة! أو تعلمين يا حلوتي أن أما مثل أمك، في غزة وفلسطين وسوريا والعراق واليمن وليببا، قد تلد ملاكا كأنت فيباغتهم صاروخ أرسلته دول “العالم الأول” فيقتل الأم والطفل ونصف شعب برمته.. هكذا بكل بساطة.. وعبثية! أو لعلها باسم معاهدات واتفاقيات وصفقات سياسية ودينية واقتصادية.

طبعا الأمر معقد جدا، ولن تكف الحرب بمجرد النحيب على الورق. أوصيك ههنا بالتمعن في التاريخ وبالانتصار للإنسانية والإنسان قبل كل شيء. من ثمة ستجتمع الأمة التي تجمعها الأرض واللغة والحضارة .. طوفان من الأفكار ألم بي .. هل جعلتني كل هذه التفاصيل أثور على صمتي؟ أن لا أتقبل فكرة الموافقة على كل ما يدور حولنا من فقد معنى؟ أم هي سنة الحياة؟

وجدتني ألقي هذه الكلمات:

“ولما رأيت المجد يعلو التاريخ بكيت المعري والعتاهية وابن خلدون التأريخ

حتى صار الدمع سيلا والسيل سيل شعر أكيله كيلا

لكن والجهل على محياهم

تركت النزاع فما نزاعهم

غير اقناع كفيف بسراب كثيف

يضاهون في العلياء أمة

ليس لصداها وقع حفيف

أفلا تنظرون فأنظروا

أسيان بين الجوع والرغيف.”

فحصك الطبي يا آلاء جيد. ذهبت لأطمئن والدتك أيضا وأحملك إليها. نظرت إلى وجهك البريء لآخر مرة. رأيت حلمي في عينيك!

*طالبة طب بالرباط

‫تعليقات الزوار

5
  • Arsad
    الثلاثاء 22 يناير 2019 - 16:33

    يقال لا خير في قوم تتولا امرهم امرأة وأقول لا خير في قوم لا يقدرون دور المرأة وانما تقدم الامم وبلوغها سمو الحضارة بتقديرها للمرأة

  • مغترب في وطن
    الثلاثاء 22 يناير 2019 - 20:52

    مقال في غاية الروعة !!! احسست بحرقة الغربة في كتابتك واتمنى من جريدتكم ان تتطرق وان تترك لمثل هاته الاقلام المجال للتعبير. تحياتي

  • سعيد المغربي
    الأربعاء 23 يناير 2019 - 09:51

    تحية هسبريسية لهذه العبارات الراقية وهذا الحس الأدبي.
    إذن لا يزال هناك أطباء فيهم ذرة من الإنسانية في بلدنا. شكراً

  • sifao
    الأربعاء 23 يناير 2019 - 14:04

    آلاء محظوظة لمجرد انها وُلدت في مستشفى ، المئات من قريناتها يولدن في كهوف او في خيم تفتقر الى ادنى شروط العيش وبالاحرى الولادة ، لماذا تبحثين عن المأساة هنالك في العراق وغزة وسوريا واليمن وهي على مرمى حجر من بيتك ، هنا في الاطلس او في الجنوب وكذا في هوامش المدن الكبيرة ، لا ترحلي بعيدا ، بالقرب منك عند باب المستشفى تنتظر اما حاملا حظها في سرير فارغ لتضع وجعها ، لا تنظري ابعد من قدميك فكل خيرات البؤس بالقرب منك تنتظر التفاتة يد ناعمة

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 1

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب