الإسلاميون الجدد والأسئلة القديمة

الإسلاميون الجدد والأسئلة القديمة
الأربعاء 20 فبراير 2019 - 18:51

عرفت الحركات الإسلاموية مستجدات عدة في الفكر، وتغيرات شتى في الممارسة، وصلت عند البعض حد نزع القداسة عن الالتزام التنظيمي في السياسة، والانتقال من المطلق إلى النسبي في الفلسفة؛ فما هو سياق هذا الانقلاب وكيف نفهمه؟ وما هي أبرز سماته وخصائصه؟.

السياق العام: أو ما بعد الإسلام السياسي

لقد اعترف الآباء المؤسسون للحركات الراديكالية في العالمين العربي والإسلامي بالفجوة الكبيرة التي حدثت بين الشرق والغرب، ابتداء من القرن 14، واجتهدوا في تقديم أجوبة عامة لهذه الانتكاسة الحضرية، باستدعاء نوع محدد من التاريخ الإسلامي، نبشوا في تراثه عما يصلح في اعتقادهم لقيادة الأمة سياسيا، وما يضمن رخاءها اقتصاديا وما يحقق أمنها ماديا ونفسيا، لبناء الفرد والمجتمع المسلم ضمن ثقافته الأصيلة، “الجامعة”، “الشاملة”.

إلا أن الهوة بين الطرفين كانت أعمق، وحجم التباين بين الشرق والغرب ازداد اتساعا، ولم تنجح المحاولات الإصلاحية لرواد النهضة العربية خلال القرن 19 في هدمها، رغم محاولاتها الجريئة.

محاولات سيختطفها إخوان حسن البنا، وتأخذ منحى صداميا في النصف الثاني من القرن الماضي مع التيارات التكفيرية، التي وجدت في كتابات سيد قطب أرضية دينية معاصرة لتبرير إجرامها في الداخل والخارج.

بعدها، استقرت الحالة الإسلامية على نوع من التعامل الحذر عندما حاولت بعض التنظيمات ذات المرجعية الدينية الوصول إلى البرلمان عبر مدخل تجريب الانتخابات هذه المرة، بأذرع حربية متوارية، وأخرى عديدة في صيغة مدنية، منها الحركة للدعوة، والجمعية لـ”الإحسان”، والفصيل الطلابي بالجامعة، والنقابة للشغيلة.

طرح راهن عليه الإسلام السياسي كثيرا، واعتقد أنه راكم ما يكفي من الجناح الحزبي للوصول إلى السلطة مع ما عرف بالربيع العربي، لكن سرعان ما اتضح فشل تدبيره السياسي، وانحسار نموذجه الديني المنغلق، والفكري الجامد، وسط عالم لا يهدأ له بال، يعج بشباب لم يعد يقبل تنميط واجترار تنظيمات “أرثوذوكسية” أفقيا، ويرفض علاقة الشيخ بالمريد عموديا.

هذا النسق التنظيمي البطيء في عالم متسارع، وذاك اليأس من مناهج التعليم والدعوة بالجماعة ستدفع حسب الباحث المصري حسام تمام “مجموعات من الشباب المبادر، حديث التعليم، كي يتحرك ويؤسس عمله الخاص، سواء الدعوي أو الاقتصادي. وسيظهر في ما بعد وفي الإطار نفسه “الإسلامي الناجح”، صاحب الفاعلية الاقتصادية، والمتحرر من الالتزام السياسي، مستثمرًا قيم الثروة والإنجاز. إنه نوع جديد من التدين ارتكز على الثروة واخترق بعمق خيال الإسلام الجديد في مصر”.

في خضم هذه الانقلابات الكبرى، اقترحت عدة حلول ركزت على إحداث ثورة في المنهج (المنهج الاقتصادي) وابتكار في المضمون (الإدارة والتنمية)، منهج ومضمون سيروجه الشيخ/الأستاذ/الداعية/المدرب/المفتي مع فجر التسعينيات، أمثال طارق السويدان، ومحمد أحمد الراشد، ومحمد التكريتي، ثم نجيب الرفاعي وغيرهم من المتشبعين بالفكر الإداري، المنتشر بقوة وقتها في جامعات الاقتصاد الأمريكية، حيث تواجدوا لمدة من الزمن.

وهكذا، مع منتصف تسعينيات القرن المنصرم، عرف الإسلاميون تحولات ومنعطفات جديدة في مسارهم، بعد فشل الصحوة الإسلامية وفي قلبها الإسلام السياسي، كما عبر عن ذلك أكاديميون؛ ما أجبرهم على النزول بورقة أخرى، من سماتها “تعايش الأسلمة والعولمة”، سماها الباحث السويسري بارتيك هايني “إسلام السوق”.

مفهوم إسلام السوق

لقد عرف هايني إسلام السوق بأنه “مزيج من النزعة الفردانية المتعولمة ونزع للقداسة عن الالتزام التنظيمي، بما يتضمنه ذلك من التخلي عن الشعارات الكبرى التي كانت تدعو إلى أن الإسلام هو الحل وإعادة النظر في فكرة شمولية الإسلام لكل مناحي الحياة”.

إن شئنا، حسب الباحث المغربي عبد الهادي أعراب تدين )منزوع الدسم) يعبّر عن “برجزة” سيرورة الأسلمة، وإعادة برمجة العرض الديني ليوافق العالمية، أو قل هو إسلام البورجوازية المتدينة الجديدة الخالي من أي تعبير ديني عن المحرومين والمهمشين، والأقرب إلى التدين العملي الرأسمالي الذي رصده “ماكس فيبر” لدى البروتستانت؛ هو روح أو توجّه جديد توطّن وانتشر وامتد إعلاميا امتداد الشلال؛ فصار ظاهرة مجتمعية لدى الطبقات الوسطى الحضرية.

ينفي باتريك هيني أن يكون “إسلام السوق حركة مؤسسة على حزب أو تنظيم، ولا تيارا إيديولوجيا كالسلفية، أو سياسيا كالإسلام السياسي. ولا يمثل “إسلام السوق” مدرسة في الفكر الديني، وإنما في الواقع هو حالة أو توجه قادر على التوطن والتأثير في كل حقائق الإسلام المعاصر، يمكن أن يتجلى في بعض أنماط الحياة وأشكال معينة من الدعوة لدى السلفية والإخوان والصوفية أيضا”.

مفهوم مرتبط بما يعرفه عالم اليوم في ما يسميه الفيلسوف البولندي زيجمونت باومان الثقافة السائلة، لا يمكن القبض عليها إلا عبر استيعاب انقلاب العقل والخطاب الإسلامويين، من مرجعياته الكبرى ونظرته الشمولية للأنا والغير وما يتوسطهما، إلى أطروحات ما بعد الإسلام السياسي والمقاربة التقنوقراطية، المهمشة نسبيا للإيديولوجية، المتكيفة مع متطلبات ترويج المنتجات الثقافية والرمزية في السوق الاقتصادية، بطريقة مكشوفة، ميكيافيلية، من شعاراتها الغاية تبرر الوسيلة، وإن تعلق الأمر بـ”الدين”.

السمات والخصائص

لمعالجة سمات وخصائص “إسلام السوق” لا بد من رصد النقلة النوعية، من عدة مفاهيمية قديمة ثنائية، لا مجال فيها لأفكار وسطى زادها: “الكفر والإيمان – دار الحرب ودار الإسلام – الدنيا والآخرة -الجنة والنار – النور والظلام – مجتمع ملائكي ومجتمع شيطاني”، وغيرها من تقابلات الخطاب الأصولي، المحكوم بثالوث “العنف والمقدس والحقيقة”، كما انتبه إلى ذلك مبكرا المفكر الجزائري محمد أركون.

انتقال تكتيكي استهدف به أصحابه تغيير الآليات، إيمانا منهم بتطور الواقع، أو انصياعا لمنطق التاريخ. في الحالتين فإن العولمة حاضرة مؤثرة في كل شيء، وذلك ما يمكن الوقوف على حقيقته عبر استحضار الجهاز المفاهيمي الجديد )تسليع الإسلام- إسلام المشاريع – سوق الحلال والبركة – علمنة التديّن – عصرنة الدعوة – المنجمنت الأخلاقي – عالم الألبسة المعولم – فقه الازدهار- أسلمة العولمة – الحشمة – التمثيل – الصورة الفاضلة – ومجتمع الفرجة).

هذا المنحى اعتبره الباحث عبد الهادي أعراب عملية خطرة ومكلّفة، لأنها ترمي إلى اقتطاع مفاهيم إسلامية من سياقها اللغوي والحضاري وإذابتها في سياق معولم سائل، لذلك فهي ليست سوى “مجرد جهد ترقيعي وتوافقي بين الإسلام والغرب بشكل ضمني أحيانا وعلني أحيانا أخرى”.

فبإعادة تفسير وإحياء الإسلام في ضوء العولمة تمكن فرسان إسلام السوق من الدخول إلى الحداثة، لكن بعيدا عن بوابة عصر الأنوار، وهو ما يفسر أن تحديث الإسلام لم يتم تيولوجيا، وإنما توقف سوسيولوجيا عند حدود التكيف والمواءمة دون طرح بديل صلب.

ويؤكد الباحث أن “الحداثة الدينية الحقيقية لا تتم إلا عبر نزع الطابع الأيديولوجي للديني؛ ولأن الأمر اقتصر هاهنا على العواطف والمشاعر بعيدا عن مراجعة الأسس النظرية، نكون بذلك أمام مرحلة تحديث دون مشروع الحداثة، وعليه إسلام السوق لا يقدم إلا النموذج المحلي لروح الرأسمالية، أي نسخة محلية لإحياء المضامين والمعاني القديمة، تجعل من الإسلام مجرد محرك أو أداة للعلمنة أو إطارا أكثر منه محتوى”، أو مظهرا أو تمثيلا.

والسبب في ذلك يرجع إلى اعتماد “فلسفة النظر” المتلونة بالإعجاب والتلذذ حد الافتتان، إلى درجة أصبح معها كل ما يعاش، يعاش على نحو غير مباشر، مبتعدا متحولا إلى تمثيل، وفرجة في حركية مستمرة طبعت المجتمعات المعاصرة، تستعمل وسائل متنوعة من دعاية وإعلان وإشهار، لتجعل مرئيا ذلك العالم الذي لم يعد يمكن الإمساك به مباشرة، تجعله “تحت الأنظار” بتعبير الباحث الإيطالي جي ديبور.

وهكذا من الطبيعي أن يصبح “النظر” مع الإسلاميين هو الموجه والغاية، الحكم والفيصل لمشروع “الجماعة”، بعدما كان “القلب” مضغة الجسد، التي إذا صلحت صلح “الفرد”، قلب في حاجة دائمة حتى لا ينقلب إلى الترانيم والأناشيد الدينية الحماسية المغرقة في التغني بالمحن وذات الأثر من حيث التعبئة، لكسب التحدي كما كان يعتقد الجيل الأول.

الاستجابة لهذا التحدي عبر عنها الجيل الثاني والثالث من أبناء حركات الإسلام السياسي، خصوصا الذين تواجدوا بالغرب، عندما استحل كل أنوع المعروضات التعبيرية الفنية بما فيها الراب، والروك وغيرهما، وبكافة الأدوات الموسيقية المتوفرة، لكي يرضوا الجمهور الذي بدا متعطشا لهذا النوع من الأغاني التي يشعر فيها بالاسترخاء والسعادة والنشوة، بدل تلك التي تذكره بالموت وبالتعاسة وبالجهاد وبالمحن، يقول الباحث المغربي رشيد الجرموني.

حتى اللباس (الحجاب نموذجا) الذي عد تعبيرا إيديولوجيا خلال السنوات السابقة سيسلع، ولم يعد فقط رمزا لـ “حشمة” و”تقوى”، وإنما للتباهي والموضة والزينة والتموقع الاجتماعي، بل والتماهي مع آخر صيحات السوق التجارية وقوانينها الكافرة بالمقدس، المهتمة بمنطق العرض والطلب، كما حدث في تركيا العلمانية التي تزامن ولوجها إلى السوق الحر مع تشكل طبقة أدنى بقليل من البورجوازية، وأكبر بكثير من المتوسطة، شكلت ما يعرف الآن بالنموذج التركي، الذي يحاول حزب العدالة التنمية هناك تصديره للعالم العربي عبر الإعلام، ومن خلال شركات النسيج التركية التي غزت الأسواق العربية، خاصة تلك التي تربطها بأنقرة اتفاقية تبادل حر.

‫تعليقات الزوار

2
  • أبوندى
    السبت 23 فبراير 2019 - 19:22

    مادام الفقهاء والشيوخ في الدول الاسلامية الغنية على الخصوص هم أولياء الامروالساهرون على تطبيق القوانين السماوية والمتخصصون في اصدار الفتاوى التكميلية فالحداثة لا يمكنها ان تنطلق من الحقل الديني لتتكيف مع متطلبات المجتمعات الغربية ومع السوق العالمية.
    التحايل على ما هو شرعي هو الوسيلة لاقرار تعامل اجتماعي وسياسي واقتصادي متعادل ومستوفي للشروط مع الدول المتقدمة.تركيا تقدمت بفعل النموذج العلماني الذي سمح لها بالتعامل مع الدول الراسمالية ومع أية دولة بكل حرية ودون قيود دينية وهي نموذج ناجح اجتمتاعيا واقتصاديا رغم التشويش من الحزب الحاكم الذي يريد أن يعود بها الى الوراء.
    ادا لم تتحول الدول الاسلامية الى دول علمانية تمكنها من تحديث قوانينها وهياكلها الادارية والاقتصادية والثقافية والسياسية خارج الاطار الديني فانها ستكون منافقة في تعاملاتها مع شعوبها أولا ومع الدول المتقدمة ثانيا التي تفرض عليها في تعاملاتها معها نماذج مجتمعية واقتصادية عصرية ومتطورة بفعل قوتها وهيمنتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات