تعنت الحكومة وصمود الحراك

تعنت الحكومة وصمود الحراك
الأربعاء 3 أبريل 2019 - 17:22

يعرف المغرب هذه الأيام احتقانا شديدا تبلور في شكل حركات احتجاجية تطالب بإصلاحات ديمقراطية وبعدالة اجتماعية؛ فالاحتجاجات الجماهيرية المنظمة تارة، والعفوية تارة أخرى؛ لا تكاد تهدأ، ونارها مشتعلة منذ اندلاع شرارة الربيع العربي سنة 2011. وكما هو معلوم فقد انتشر المد الثوري، أو لنقل التمرد، في بلدان عربية عدة، ولازال مشتعلا في بعضها بشكل عنيف، وفي البعض الآخر بشكل هادئ وسلمي.

وعلى غرار باقي الحركات الاحتجاجية العربية منذ تلك الفترة تشكلت في المغرب حركات جماهيرية خارج نطاق التنظيمات النقابية والحزبية التقليدية، حراكات غير منظمة في معظمها، غير مؤطرة سياسيا، ولا يقودها زعيم. وهذا يعني أن حراكات اليوم تختلف عن حراكات الأمس؛ التي كانت تنبني على مفهوم الزعامة، وتحكمها خلفية سياسية ومرجعية فكرية محددين؛ أما الآن فقد اختفى دور “الفرد الزعيم” الذي كان يشتغل بشكل عمودي؛ وحل محله دور “الفرد المنسق” الذي يشتغل بشكل أفقي؛ وهو دور يمكن أن يلعبه أي عنصر من الفاعلين.. فكل فرد يمكنه الآن أن ينسق ويقترح ويساهم بأفكاره، في إنضاج الحراك، وذلك بفضل وسائل الاتصال، والإعلام البديل.

إن هذه الاحتجاجات وأخرى تبين بما لا يدع مجالا للشك أن المغرب هذه الأيام على صفيح ساخن جدا، وصلت فيه درجة الاحتقان إلى حد الغليان، وأسباب ذلك متعددة؛ ولكن العامل المحرك فيها سياسي واقتصادي بامتياز، لأن السياسي والاقتصادي لا ينفصلان، كما بينت المادية التاريخية لكارل ماركس، وهذا هو جوهر الصراع في المجتمع المغربي الراهن.

السياسية لعبة تدور حول الاقتصاد والثروات، وإذا لم تكن عادلة فإنها – بالطبع – تكرس الفوارق الطبقية، واللاعدالة الاجتماعية؛ وهذا هو حال الحكومة المغربية الحالية التي تنفذ أوامر المؤسسات النقدية الدولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومؤسسات أخرى…) دون الإخلال ببند واحد منها؛ وبذلك تضع البلاد بين فكي هذه المؤسسات الاستعمارية الجديدة؛ التي تتحكم في سياسة الحكومات المقترضة الضعيفة، كالحكومة المغربية؛ ما يطرح من جديد سؤال الاستقلال الحقيقي.

هل حققت البلدان الفقيرة فعلا استقلالها التام، ومن بينها المغرب؟..

لقد كان هدف الاستعمار المباشر هو نهب ثروات البلدان المستضعفة، والهدف ذاته لازال قائما، لكن بشكل غير مباشر، وعن طريق القروض التي تستنزف خزائن الدول، ثرواتها، وطاقات شعوبها؛ دونما الحاجة إلى جيوش وأسلحة. لم تعد القوى الكبرى تتدخل بالجيوش، إلا في حالات نادرة؛ بل تتدخل من خلال بوابة الاقتصاد، فتفرض هيمنتها، وتفرض مخططات إصلاحية تعود بالنفع الأكبر عليها، تاركة ميدان الصراع المسلح للضعفاء وحدهم، يتقاتلون في ما بينهم.

وإذا كان الاستعمار المباشر أفرز حركات مقاومة في اتجاه خارجي، فإن الاستعمار الجديد أفرز مقاومة داخلية، تتمثل في حركات واحتجاجية تطالب بإصلاحات ديمقراطية وعدالة اجتماعية. وفي بلادنا تواجه الحكومة مطالب الحركات الاحتجاجية المشروعة بالقمع والتهديد والتماطل والاقتطاع من أجور الموظفين، وهي أساليب لم تعد مستعملة سوى في دول الاستبداد السياسي، الهدف منها كسر إرادة الشعب، والانبطاح التام لإرادة المستعمر الجديد؛ وهذا يطرح إشكالية التمثيل الديمقراطي. فإذا كانت الحكومة المنتخبة ملزمة بالاستجابة لمطالب شعبها وحماية حقوقه فإن الحال في المغرب معكوس تماما؛ لأن الحكومة تمتثل لإرادة قوى المال الدولي من جهة، ولإرادة المخزن المتواري خلفها من جهة أخرى، وبتعبير أوضح فإن هذه الحكومة ما هي سوى آلة تنفيذية في يد المؤسسات النقدية الدولية من جهة، وواقي صدمات (pare chocs) للمخزن العميق، من جهة أخرى؛ ولهذا فهي أبعد ما تكون عن التمثيل الديمقراطي الحقيقي لمواطنيها، علما أن نسبة المشاركة في انتخابات 2016 لم تتجاوز 43%؛ ما يكشف بجلاء إن الديمقراطية في بلادنا لا تعدو أن تكون مسرحية تلعب فيها الحكومة أداورا تمثيلية لفاعلين حقيقيين خلفها، وتستنزف طاقات الشعب وخيرات البلاد، متدرعة تارة باسم الإصلاح وتارة أخرى بعجز الميزانية وصناديق المال العام، متجاهلة أن العالم الآن قد انفتح في كل الاتجاهات، عالم تعددت فيه وسائل الاتصال والتواصل، وأضحى بإمكان كل فرد أن يمتلك المعلومة ويمارس الصحافة، بفضل وسائل الاتصال الإلكتروني، وشبكات التواصل الاجتماعي، التي يسرت مهمة تصوير الأحداث، توثيقها، التعليق عليها، وإرسالها بسرعة فائقة، وتبادل المعلومات والأخبار؛ وبالتالي لم يعد بإمكان الإعلام الرسمي احتكار الحقائق والمعلومات، أو إخفاؤها وتزييفها وإعادة صياغتها بما يتماشى وأيديولوجيته.

لقد ساهم الإعلام البديل في فضح عيوب السياسيين، وأدى إلى بوار إعلامهم، وساهم في ارتقاء الوعي السياسي لدى المواطنين بشكل سريع (وإن كان غير عميق) لأنه لم يعد كما كان، إذ كان منحصرا – من قبل – فقط في فئة ضيقة من النخبة المتعلمة؛ أما الآن فإن عصر الصورة والتواصل قد سحب البساط من تحت النظم السياسة التقليدية، وجعل أساليب سيطرتها بالية ومتهالكة، وإن أثبتت فعاليتها بالأمس فهي اليوم لم تعد صالحة. لم يعد القمع، ولا الاستبداد، ولا الاعتقال، ولا التعذيب، ولا التعتيم، أساليب فعالة في ممارسة السلطة؛ فإذا كان الجهل يساهم في سيادة الاستبداد فإن الوعي يساهم في الإحساس بالحرية والمطالبة بها.

لقد بدا واضحا للمغاربة أن ما تقوم به الحكومة من إصلاحات ليس سوى محاولة لترميم الجسم السياسي المتآكل والموشك على التداعي.. إصلاحات مكلفة، يؤدي تكلفتها الباهظة الموظفون من الطبقتين الوسطى والفقيرة، وما دونهما من عاطلين ومعدمين ومهمشين. وحينما نسمع عبارة “إصلاح” فإنه من الطبيعي أن يتبادر إلى الذهن تحسين الوضعية؛ لكن الإصلاح (وخاصة الاقتصادي والاجتماعي) يعني في المغرب تعميق الأزمة لدى الفئة العظمى من المغاربة: إصلاح صندوق الدعم الاجتماعي (المعروف بصندوق المقاصة)، الصندوق المغربي للتقاعد(CMR) ، صناديق التغطية الصحية، ونظام التعليم…كل هذه الإصلاحات وأخرى عمقت الأزمة لدى المغاربة بالخصم من رواتبهم، والزيادة في تكلفة معيشتهم.

وبالتالي، إذا كان الإصلاح يهدف إلى تحقيق الرخاء والسعادة والعدالة الاجتماعية فإنه في المغرب يكرس البؤس والشقاء والفوارق الطبقية؛ لأن المستهدف الحقيقي من أي مخطط إصلاحي هو حماية مصالح المهيمنين: (البنوك العالمية المقرضة، المخزن وخدامه، والشركات الكبرى…).

وبما أن عالم التواصل المفتوح فضح فساد السياسيين بالصوت والصورة، وكشف للمواطنين ما كان خفيا، وقرب منهم الصورة الحقيقية لممارسات صانعي القرار، ومحتكري الثروات؛ فقد دشن المغاربة سلسلة من المقاطعات استهدفت مهرجانات فنية كبرى (كمهرجان موازين) لما يبدر فيها من مال هم في حاجة إليه، كما استهدفت منتجات بعض الشركات العملاقة، التي لا ترحم ضعف قدرتهم المعيشية…فتظاهروا، واعتصموا، ونددوا، واضربوا عن العمل… وكانت لهم الحكومة بالمرصاد، فحركت آلة القمع، والعنف، والاعتقال، والتسريح من العمل، والاقتطاع من الأجور…وفي خضم هذا الصراع غير المتكافئ، استطاع المخزن أن يخمد لهب العديد من الحركات الاحتجاجية، دون قدرته على إخماد الجمر الكامن تحت الرماد؛ فحين تلامس المجتمع المغربي اليوم تستطيع أن تتحسس حرارته المرتفعة وتستطيع جس درجة عالية من الحقد الذي يكنه المغاربة لحكومتهم، ورغبتهم المفرطة في الانتقام، إن عاجلا أو آجلا..بالمقابل تستطيع أن تدرك بسهولة مدى رغبة السياسيين وصناع القرار في الاستماتة لتحصين مواقعهم، حماية مصالحهم، وتسمين رواتبهم وثرواتهم؛ ما يجعلنا أمام وضعية مفارقة: شعب يريد العدالة دون ممارسة السياسة، وحكومة تمارس السياسة دون عدالة.. شعب أرهقته الخطابات السياسية بوعودها الكاذبة؛ فطلق السياسية حكومة وأحزابا، دون التنازل عن المطالبة بحقوقه، وحكومة لا تفقه كنه العمل السياسي العادل، ولكن تمارس السياسة، بشعار: “الغاية تبرر الوسيلة”.

السلطة غاية، وكل ما يحافظ عليها وسيلة مشروعة، ولهذا لا تجد مسؤولا سياسيا واحدا مستعدا لتقديم استقالته من منصبه، إذا أخطأ في عمله؛ فكلهم حريصون على المناصب لا على مصلحة الشعب، كل ما يفهمونه أن السياسة هي تحصين المنصب، تركيع الناس، وإخضاعهم.. ولا يفهمون ما قاله أرسطو، اسبينوزا، هيجل ، ماركس، وراولز…عن فن السياسة، والعدالة، ونظام الحكم، ومشروعية السلطة، وغاياتها…

ومادامت مرجعيات الأحزاب المشاركة في الحكومة هي السلطة والمال فإن المنتسبين إليها يمارسون السياسة من هذا المنطلق، وبهذه الدوافع، وليس من منطلقات وخلفيات فكرية وفلسفية؛ وبالتالي لا يملكون الكفاءة اللازمة، وإن كانوا يمارسون السياسة، فليس كل ممارس للسياسة عارفا بفنها والغاية النبيلة منها. في المغرب يمارس السياسة المقدم، والشيخ، والقائد؛ والعامل، والوالي والعمدة، وزعيم الحزب، والوزير…وكذلك الجاهل، والسارق، والنصاب، والمحتال، والوصولي… كل هؤلاء يشتغلون تحت سقف واحد وفي اتجاه واحد، يتبادلون المصالح، ويحمي بعضهم البعض في تناغم وانسجام تامين.

وهذا طبيعي في كل البلدان التي تستمد مشروعية سلطتها من مصادر غير ديمقراطية، ولا يتم اختيار الفاعل السياسي على أساس عقلاني، تكون فيه الكفاءة هي معيار الاختيار؛ بل لازالت السلطة عندنا تمارس بأشكال تقليدية: (كالانتماء العائلي والقبلي، والحزبي، والديني، والنفوذ الاقتصادي والمصلحة الذاتية…)، وإن كانت تمر عبر صناديق الاقتراع. فالانتخابات ليست هي الديمقراطية، بل هي فقط الجانب الشكلي منها.. وهذا ما يعطي صورة زائفة عن الديمقراطية، علما أن هذه الأخيرة قد تكون سيفا ذا حدين – في كثير من الأحيان – وقد تفضي إلى نقيض ما هو منتظر منها. فإذا لم تكن الديمقراطية محصنة بواسطة الوعي بها، كغاية وليس كوسيلة، فإنها قد تنقلب ضد إرادة الشعوب في أي لحظة، فكلنا يتذكر أن أعتى نظام شمولي في العالم الحديث قد وصل زعيمه للسلطة عبر صناديق الاقتراع، فهتلر لم يصل إلى حكم ألمانيا بانقلاب عسكري؛ ولكن بانتخابات ديمقراطية نزيهة، مستغلا بذلك مرارة الشعور بالهزيمة في الحرب لدى الألمان، محاولا توجيهها للانفراد بالسلطة. وكلنا يعلم أن القادة العرب ينظمون انتخابات شكلية تكون نتائجها معلومة من قبل.

فهل هذه هي الديمقراطية؟

إني لا أزال أتذكر تصريحا أدلى به الرجل الثاني في حزب “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” الجزائرية المحظورة (FIS)، والتي كانت قد فازت في انتخابات 26 دجنبر 1991 بأغلبية مطلقة؛ وهو علي بلحاج، لقد قال، حين إعلان النتائج، وهو منتش بفوز حزبه: “هذا يوم عرس الديمقراطية وهذا يوم مأتمها”، فقطع الشك باليقين، ولم يترك إربة للقول جدا ولا هزلا؛ فاتضح أن الديمقراطية مجرد سلم للتسلق إلى مواقع النفوذ، والشيء نفسه يحدث عندنا في المغرب، ولكن بشكل مختلف. وذلك راجع إلى غموض مفهوم السلطة، وازدواجية الفاعل السياسي. وحتى لا أدخل في التفاصيل، سأكتفي بطرح الأسئلة التالية: من هو الفاعل السياسي الحقيقي في المغرب؟ وما طبيعة السلطة السياسية فيه؛ أهي تقليدية أم حديثة؟ وهل نحتاج إلى ديمقراطية حقيقية أم إلى مجرد انتخابات شكلية؟.

بالطبع أن الشعب يريد الديمقراطية، حتى ولو كان لا يفهمها، أما السلطة الحاكمة فلا يهمها من الديمقراطية سوى جانبها الشكلي.. لا تريد سوى انتخابات لتبرير مشروعيتها، ولا يهم من شارك فيها، ولا كيف يتم إجراؤها، ولا نسبة المشاركة فيها، ولا هل هي نزيهة أو مزورة …ولكن المهم هو إجراؤها، ولو وصلت نسبة المشاركة فيها إلى أدنى المستويات؛ لأن المبتغى منها ليس هو التمثيل الديمقراطي ولا الاستجابة لمطالب المواطنين؛ ولكن المبتغى هو تشكيل حكومة للعب أدوار حددت لها مسبقا.

‫تعليقات الزوار

2
  • هشام سرحان
    الأربعاء 3 أبريل 2019 - 20:26

    كل الشكر والتقدير للمناضل الكبير الأستاذ سرحان، تحليلك منطقي ينم عن تفكير عميق وإدراك لما يجري من داخل وخارج الساحة…
    دمت مناضلا إعلاميا كبيرا شامخا…

  • أحمد خطاري
    الأربعاء 3 أبريل 2019 - 20:39

    سلام الله عليكم
    استاذي المحترم
    كلامك كله يتجه نحو هذف واحد الا هو تحقيق العدالة الاجتماعية التي تتمثل في اعطاء الحق لهذا الشعب الذي يعيش وسط سياسة تمثيلية و مجرد مسرحية تتكرر كل خمس سنوات و عنوانها (الديموقراطية) ، انا اتفق معك بشكل كلي على كل ما احطته من اشكاليات يعيشها هذا الشعب المغربي و انا فرد انتمي اليهم ،ولكن لو كان افضل ان تركز على الجرح الذي نعاني منه، الذي اذا غاب تتدهور الامة بأكملها الا هو التعليم الذي اصبح كلعبة في يد السياسيين للانهم يعلمون ان اذا تفقها الشعب و اصبح واعيا سيصبحون في خطر وانهم سيبعدونهم عن الكراسي التي كانو يدافعون عنها لمدة طويلة ولهذا يضربون التعليم لكي يقبى الشعب المسكين يعيش على ثلاثة اشياء وهي الاكل والنوم و العمل وهذا ما نجده في مجتمعتنا وخير دليل على كلامي هو لو كان الشعب يتعلم و يدرس لوجدت نسبة كبيرة يقرؤن مقالتك ولكن للاسف هناك العكس ونطلب الله عز وجل ان يجعلنا من الذين يصلحون هذه الامة
    وفي اخير اشكرك استاذي المحترم

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب