"عَاشَ الشَّعْبُ".. شُرُودٌ فِي زَمَنِ الاِنْسِحَابِ!

"عَاشَ الشَّعْبُ".. شُرُودٌ فِي زَمَنِ الاِنْسِحَابِ!
الأحد 10 نونبر 2019 - 14:12

بدأت منذ مدة غير قصيرة موجة من الأغنية الشبابية (الرَّاب)، تتبنى، في مضامينها، مواضيع اجتماعية وسياسية، اعتبرها بعض المتتبعين مواضيع جريئة، وذات رمزية ثورية غير مسبوقة. كما وجد فيها أغلب الشباب الفيسبوكي، ملاذا تنفيسيا عن مكبوت قهري حاصِلُه مطالب وشكاوى ظلت حبيسة الصدر، وممنوعة البَوْح، حتى انبرى مجموعة من الشباب، يصْدَعون بها أمام الملأ وعبر مختلف المنابر الدعائية، والقنوات المحلية، والعالمية. فصفق لها البعض بحرارة، وعارضها الأغلبية، خصوصا رواد الغناء الأصيل، ونقاد الوسط الفني، الذين اعتبروها نتوءات شاردة عن رسالة الفن النبيل، لتضمنها كلاما غير لائق بأغلبية طبقات الشعب المغربي، ولغرقها في دارجة سوقية، لم يراع كتابها، إن صح أن نسميهم كتابا أصلا، اختيار العبارات والكلمات اللائقة، البعيدة عن لغة المراحيض، و”الشرملة”، فضلا عن تضمنها أنواعا سوقية من السب والشتم والإشادة بالممنوعات والسخرية من صناع القرار السياسي والتربوي والاقتصادي بالبلاد فضلا عن الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين والاجتماعيين. وهو مكمن تصريف الحقد الدفين الذي تُكِنُّه الطبقة الكادحة لهذه الفئات. وهو كذلك مكمن إعجاب هذه الطبقات بهذا النوع من الغناء، وانتصارها له بعد أن وجدت في هذا القاموس الساقط، من السب، والقذف، والتنقيص، ملاذا لتصريف جزء من غيظها الذي لم تستطع أن توصله إلى من يهمهم الأمر بطرق حضارية، وأساليب لائقة، تتوسل الحوار المُؤسِّس، والاحتجاج الراقي، بل والغناء الجميل، البعيد عن سب الظلام، و”التقلاز” (الإشارة بالأصبع) من تحت الرداء،… ثم ادعاء خدمة الشعب، ونصرة الشعب !!.

ومما أدهش تتبعنا، انخراط مجموعة من المواقع المحترمة في هذا السقوط الفني الفظيع، ومساهمتها في نشره بين الأوساط، واستدعاء “رواده” في حوارات مسترسلة، مصورة ومكتوبة، وتقديمهم كأيقونات الساحة الفنية الذين جاؤوا من السماء ليرفعوا الضيم عن الشعب المغربي الكادح، ويمثلوا صوته المبحوح، الذي كُمِّمَ ولم يعد يُسمَع له رنين ولا طنين !.

وأدهى من ذلك وأمَرُّ، جنوح طائفة ممن ظلت تقدم نفسها كجماعة مناضلة، ومُمانِعة، إلى نصرة هذا الخبل الساقط، والإشادة برواده، وتقديم قراءات حوله، بعد أن تتبعتْ في ذهول، المتابعات المليونية، التي حظيت بها، والتعليقات المؤيدة لها، والتي غالبها من نظراء إياهم، ممن يتقنون هكذا سقوط وسباب كلامي. فظنت أن هذا هو الشعب المغربي، وهذه هي انتظاراته، التي ليس منها بطبيعة الحال، مشروع لتأمين الشغل، أو تجويد التعليم، أو إصلاح القضاء، أو توفير الصحة،… وإنما هو هتك لأذن السامع بسباب، وعهارة، وعبارات من “أدب” المراحيض، ثم ادعاء تقديم خدمة لهذا الشعب المغبون، المغلوب على أمره.

ومن أغرب ما سمعت وشاهدت، وأنا أتابع هذا الخبل عبر اليوتيوب، وبعض المواقع الإعلامية التي خصصت برامج، وحوارات مطولة حول هذا المسمى “الراب”، والراب الحقيقي منه بريء ، حوارا مع أحد رواد هذه الصيحة، وهو يتكلم في تبات وثقة عزَّ نظيرهما، عن فتحه العظيم، الذي سينتشل الشعب المغربي من الحكرة والفساد والاستبداد،… وافتخاره بما قدم (هكذا !!) لأجل هذا الشعب الذي يستحق أكثر. والمُحاوِر المسكين، في ذهول، يستمع لهذا “المُخَلِّص” وكأنه مريد بين يدي شيخ لا يملك من أمره شيئا!!.

فبالله على هذه القنوات، المنسحبة من هموم وانتظارات الشعب الحقيقية، والتي تجري هكذا حوارات، إن كان لا بد من إجرائها، أليس عندكم محاوِرون، إلا أمثال هؤلاء ممن يُحَولوِّن المحاوَر إلى زعيم يلقي خطبته العصماء بين أيديهم، وهم صامتون، فيمرر عليهم، وعلينا، ما يشاء، ثم ترفع الجلسة، وقد استأنس بكلامه من المستمعين، في زمن الغثائية، الكثير، وزادت طينته بلة، في مجتمع تعشش فيه الأمية بمخاليبها، لتنتج لنا هذا الجيل الجاهل، يقدم لنا الدروس في السياسة، والاقتصاد والاجتماع، وفي الحقوق والواجبات…؟

أليست هذه من علامات الانحدار الأخير نحو الهاوية، حينما يصمت العالمون والعقلاء ويتكلم الجاهلون؛ بل يخطط الجاهلون، ويوجهون، وينصحون، ويحاكمون، ويدينون،…؟؟ !!.

قالو:” عاش الشعب” !.

هل بمثل هؤلاء سيعيش الشعب؟.

هل بالسب والشتم، والكلام الساقط، ستُحقَّق انتظارات الشعب؟.

لماذا لا نسألهم عن مشاريعهم التي يقترحون لانتشال الكادحات والكادحين من براثين الفقر، والأمية، والمرض، والعطالة، والفساد، والاستبداد،…؟ !!.

ما هي برامجهم؟.. ماذا يقترحون؟ !!.

بدل أن نُجاريَ تفاهاتهم في مواصلة سبابهم على مائدة ما سمي افتراءا حوارا وما هو بحوار؟ !..

لا شك أن الأسئلة مرتبة بدقة لتناسب قاعدة تحقيق “البوز” الإعلامي..لا للإحراج !.

ليس غريبا أن تظهر تقليعات شاردة من هذا القبيل في مجتمع حي ونشيط، كالمجتمع المغربي، وليس غريبا أن يقع هكذا شرود وجنوح، من فئة يستهويها هكذا سقوط . فنحن لا ندعي أننا في مجتمع ملائكي لا يخطئ. ولكن الغريب والمستغرب، حقيقة، هو نزوح عقلاء، وإعلاميين، ومنابر، بل وتوجهات فكرانية وأيديولوجية ممن يصدعوننا بالحديث عن الأزمة، والفساد، والاستبداد،… نحوها، والانتصار لها، بدل الانشغال بإيجاد حلول للأزمة التي أخرجت مثل هؤلاء، من بوابة الفن، يهتكون الاعتبار السامي لهذا الفن الراقي، ويلطخون مسامعنا، على مقصلة الرفض والممانعة، بعبارات تَعَفُّ الآذان عن سماعها، ثم يأتي من يبرر لها هذا السقوط، بمسؤولية المدرسة والمجتمع في تخريجها إلى ساحة الرفض..!.

إنها رسالتهم الحضارية التي انسحبوا منها، وتركوا الشعب فريسة لأبواق الجهل تفترسهم، وهم في صالوناتهم الغارقة في الطوباوية والعدمية، يستنجدون بجماهير جاهزة من إياهم، بعد أن فقدوا لطروحاتهم النخبوية الممانعة، مناصرين ومؤيدين، ولو على حساب الذوق السليم، والعقل المُمَانِع اللبيب؛ وهم يرتبون للفوضى على أرضية الرفض الشارد من خلف حجاب… !

فليست المسؤولية مسؤولية هذه النتوءات الشاردة، ولكن المسؤولية مسؤولية من يؤيد ويطبل، ويحمي وطيس التأييد ويشجع، وبنفس القدر وأكثر، هي مسؤولية من ينسحب من قضايا الأمة، ويترك المقعد فارغا يعتليه كل من هب ودب.. !.

دمتم على وطن.. !!.

‫تعليقات الزوار

5
  • أستاذ الاجتماعيات
    الأحد 10 نونبر 2019 - 21:29

    أعترف أني أعيش في عذاب، عذاب سببه العيش في مجتمع طغت في قيم "القبح" بكل أشكاله و أنواعه و تجلياته، قبح أصبح هو القاعدة في الشارع و في وسائل التواصل الإجتماعي و في محطات التلفزة و الراديو و في المنازل و حتى تحت قبة البرلمان!!!
    أينما وليتُ وجهي أرى القبح، القبح في تسريحات الشعر، خاصة تسريحات شعر الذكور، القبح في الهندام، القبح في الألفاظ، القبح في شوارع متسخة فوضية تعج بأصحاب العرفات و باعة الفَراشة، القبح في الطرقات و السياقة، القبح في الإدارة، القبح في المعاملات، القبح في الأغاني و المسلسلات و الأفلام، القبح في وسائل النقل، القبح في البوادي و الأحياء السكنية بالمدن، القبح السياسي المقزز في الأحزاب و الحكومة و تحت قبة البرلمان…
    هل أصبح المغرب كدولة و مجتمع تجسيدا واقعيا للقبح؟؟؟ هل أصبحت المعايير التي صنف بها العالم الثالث، منذ عقود خلت، متجاوزا و أكثر تحضرا و رفقا بما نعيشه اليوم من واقع مرير، قد نصنف من خلاله كعالم سادس أو سابع؟؟؟

  • المهدي
    الأحد 10 نونبر 2019 - 21:36

    استمعت للأغنية فإذا بها مجرد ترتيب للبذاءة والكلام الساقط خصوصاً مقطعها الأخير الذي فاق في سوقيته وتطاوله الوقح على أعلى سلطة .. إن كان الشعب ينتظر من الحشاشين أن ينطقوا باسمه ويحملوا مشعل قضاياه فسلام على هذا الشعب .. عشنا جيل الاغنية / الرصاصة لفنانين حملوا في رقي وتألق هموم الشعب فكانت أغانيهم تهز مشاعر المثقف والأمي والغني والفقير .. كان الشيخ إمام إذا غنى هزٍّ العروش من غير بذاءة وكانت كلماته التي ينسجها ببراعة زجّال الطبقات المسحوقة الشاعر أحمد فؤاد نجم تنفذ الى المسام فتردد في البيوت ورحاب الجامعات وفي المظاهرات الصاخبة من غير تحفظ على تعبير مخل بالآداب ولا قادح في الأعراض …
    شيد قصورك في المزارع
    من كَدِّنا وعرق جبيننا
    والخمّارات جنب المصانع
    والسجن مطرح الجنينة
    وأطلق كلابك في الشوارع
    وأكبل سلاسلك علينا … إلخ ..
    أين هؤلاء من الشيخ إمام وناس الغيوان ومجموعة لمشاهب ومارسيل خليفة وغيرهم ممن كانت أغانيهم تسبب السهر والحمى لمن تعنيهم وصداها يصدح في الأفاق متجاوزاً كل الحدود مقارنة مع منحرف معاناته تتلخص في : كنت مع درّية ومعايا يطرو وتعدّاو علي البوليس وانا كرامتي والله ما نسمح فيها !!!!!

  • حسن التادلي/ متصرف
    الثلاثاء 12 نونبر 2019 - 23:11

    ايها الكاتب المحترم … امثال اولائك المغنيين المنحرفين لا بيتحقون حتى التفاتة منا …. لكن للأسف انهم منتوج صنعه حكامنا عبر التعليم الرديئ و انسحاب الدولة … فكل اؤولائك الذين يتحدثون بتلك اللغة المتدنية يخالون انفسهم يتحدثون في السياسة .. في حين ان افواههم لا تنطق الا بعرا تزكم رائحته الانوف ….
    عاش الشعب …. قائل هذا الكلام يعتقد نفسه انه حقق فتحا مبينا … في حين ان الشعب عاش و لا يزال بالرغم من انفه …..

  • موهموه
    الجمعة 15 نونبر 2019 - 19:42

    لا يخفى على أحد أن للمؤسسة الملكية صلاحيات واسعة في المغرب أما البرلمان و الحكومة فلا تقوى على مخالفة التعليمات السامية. لكن مقابل هذه السلطة لا يوجد مثقفون أو صحافيون أو سياسيون أو فاعلون مدنيون يستطيعون انتقاد سياسات المؤسسة الملكية،.
    مثلا يتم التصويت لميزانية القصر في البرلمان دون نقاش، بل إن تلك الميزانية هي النقطة الوحيدة التي يتفق عليها كل الأحزاب أغلبية و معارضة، يمينا و يسارا، الكل يقول سمعنا و أطعنا.
    و لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، ظهرت هته الأغنية التي تنتقد المؤسسة الملكية، لتملأ الفراغ الذي كان يجب أن يملأه المفكرون و الكتاب، بكلام موضوعي علمي مؤدب.

  • المحلل
    الجمعة 22 نونبر 2019 - 19:41

    الاغنية هي تجسيد لواقع شعب .
    هي مراة للمستوى الاخلاقي والاجتماعي الذي اريد للمواطن المغربي ان يكون عليه .

صوت وصورة
مدير “الفاو" وتجربة المغرب
الجمعة 19 أبريل 2024 - 01:10

مدير “الفاو" وتجربة المغرب

صوت وصورة
سفينة ألمانية ترسو بميناء طنجة
الخميس 18 أبريل 2024 - 23:17

سفينة ألمانية ترسو بميناء طنجة

صوت وصورة
الأيام العلمية "سماء بلا حدود"
الخميس 18 أبريل 2024 - 23:08

الأيام العلمية "سماء بلا حدود"

صوت وصورة
شراكة بين "لارام" و"سافران"
الخميس 18 أبريل 2024 - 22:17

شراكة بين "لارام" و"سافران"

صوت وصورة
استكمال هياكل مجلس النواب
الخميس 18 أبريل 2024 - 21:53 1

استكمال هياكل مجلس النواب

صوت وصورة
تفاصيل متابعة كريمة غيث
الخميس 18 أبريل 2024 - 19:44 7

تفاصيل متابعة كريمة غيث