تداعيات جائحة كورونا على بنية النظام العالمي

تداعيات جائحة كورونا على بنية النظام العالمي
الجمعة 8 ماي 2020 - 13:05

كان العالم قبل جائحة كورونا يرزح تحت نظام دولي بقيادة قطب وحيد تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية، هذا النظام الذي يقوم على نظام قيمي في العلاقات الاقتصادية لا تهمه إلا مصالح الشركات متعددة الجنسية العملاقة التي تهدف إلى الربح، بغض النظر عن تفقير الفئات الضعيفة والانعكاس السلبي للتقدم التكنولوجي على المناخ والبيئة.

لكن انتشار جائحة كورونا، وعجز الترسانة الصحية للنظام الرأسمالي الذي ترعاه العولمة، أسقط ورقة التوت الأخيرة عن النظام الرأسمالي المتوحش في طريقة إدارته لأزمة كورونا.

هذه التحولات الجوهرية غير المسبوقة التي يشهدها العالم تدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة الجوهرية، مفادها كيف يكون شكل العالم ما بعد كورونا؟ وكيف تكون بنية النظام العالمي؟ وما هي التأثيرات والمتغيرات؟.

وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الفقرات التالية:

1- قراءة في الوضع الحالي

تدفعنا الأسئلة السابقة إلى وضع فرضيات وتوقعات مبنية على أسس موضوعية وتاريخية، تحيلنا على نهاية العولمة الأمريكية المتوحشة، واستشراف مرحلة جديدة ما بعد كورونا لنظام دولي ببناء جديد تكون الصين أحد ركائزه، حيث إن جل التوقعات لعالم ما بعد كورونا توحي بتغييرات جذرية في النظام العالمي، الذي ستفقد فيه الولايات المتحدة الأمريكية الزعامة والسيطرة، رغم أنها ستبقى أكبر قوة اقتصادية (احتياطي هائل من البترول، الذهب..)، بفعل حقائق لا يمكن تناسيها أيضا (العلوم – التكنولوجيا – التحكم في الأنترنيت، Google- Twitter، سلاسل المطاعم العالمية التي تتوفر عليها MC Donald’s).

إلا أن الوجه الحقيقي للتاريخ الأمريكي منذ “ثيودور روزفلت”، المبني على الأطماع الإمبريالية، هو الذي جعل هذا النظام الرأسمالي ينخر ويضعف ويعرّض للتآكل الداخلي، لأن مسار الهزيمة سيحدد بسبب جائحة كورونا كجزء من الأجزاء، إذ لا يمكن أن يكون هناك تغيير مفاجئ مبني على مجرد الأوبئة، وإنما هذه الوضعية نتاج لمقدمات حدثت وانتهت، وذلك راجع للسياسة الرأسمالية المتوحشة للولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا في عهد “دونالد ترامب”، حيث أصبح هذا الأخير يتصرف كبلطجي وبقدر غير يسير من الشعبوية، ما أدى إلى ما يقارب 55% ممن فقدوا الثقة في مصداقيته، إضافة إلى استمراره في الحصول على مئات الملايير من الدولارات من المملكة العربية السعودية؛ زيادة على تصاعد منسوب المصلحة الأمريكية في عهده تحت شعار (أمريكا أولا)، وانسحابه أيضا من معظم الاتفاقيات الدولية (كيوتو مثلا)، والتراجع عن تمويل منظمة الصحة العالمية، والتهديد بالانسحاب من منظمة التجارة العالمية، وخلافاته مع اليونسكو، والعدول عن الاتفاق النووي مع إيران سنة 2018، والذي تم سنة 2015.

كل هذا يسمح بإمكانية استشراف مرحلة جديدة في النظام الدولي ما بعد كورونا، وهي الجائحة التي كانت بمثابة إنذار لهذا النظام الرأسمالي متعدد الألوان، لكي يصحح المسار ويسد الثغرات، ربما لبناء نظام نيو رأسمالي جديد.

هذا النظام الأمريكي يواجه التهديد من طرف ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم، وأول دولة صناعية من حيث الناتج الدولي الصناعي، وهي الصين، التي أصبحت تنافس السيطرة الأمريكية على العالم، لتصبح قوة موازية أو على الأقل مشاركة في إدارة العالم؛ ما يجعلنا أمام عولمة ثنائية ذات اتجاهين في التفكير، تفكير اقتصادي استثماري يريد الهيمنة على الأسواق ويستثمر فيها، وآخر يريد الهيمنة بواسطة الحروب والعقوبات.

ومن المرجح أن تكون سيطرة الصين ناعمة باعتبارها قوة اقتصادية تتصف بالصفة ذاتها، وذلك راجع إلى أن المرجعية الصينية تختلف عن المرجعية الأمريكية، كما سبق الذكر.

وعليه فإن الكثير من المؤشرات تتجه إلى توقع أن يكون النظام العالمي الجديد بتفوق صيني، ما سيشكل منعطفا غير مسبوق في تاريخ الصين؛ وذلك راجع طبعا إلى أمور ثقافية وحضارية مرتبطة بتاريخها، تعتمد على مجموعة من المبادئ والأخلاقيات، كإيمان البلاد بأن ازدهار المحيط سيساهم في ازدهارها، ويعمل على تشجيع المبادلات التجارية الخاصة بها، وتقديم المساعدات المالية، المصرفية والمهنية. كل هذا يصب في إيمان دولة الصين بتعميم الخير وتقاسمه مع المحيط، ما سيساعدها على تحقيق قفزة نوعية في تأثيث فضاء دولي حضاري وناعم، يساهم في ازدياد الانحسار الأمريكي.

وهذا ما تحدث عنه (JOSEPH S.NYE.Jr) في كتابه (the future of power) الذي دعا إلى ضرورة إعادة النظر في مستقبل العالم، لتكسير القطبية الأحادية، وتغييره بنظام بديل، يشاركه ويتقاسم معه تسيير العالم مثل الصين، التي أصبحت تحتل مكان الصدارة دون هيمنة أو قوة عسكرية.

الصين أصبحت تتوفر على منظومة صناعية خاصة بها، بما يقارب نصف مليون براءة اختراع، تؤمن بالأخلاق في العلاقات الدولية، زيادة على أنها لا تقيم الحروب، بل تقيم الأسواق.

2- النظام العالمي ما بعد كورونا

لعل ما أثبتته جائحة كورونا “كوفيد 19” عندما كانت بدايتها في الصين (ووهان)، وأعلنت إثرها البلاد توقيف صناعتها لاحتواء الفيروس، ما أحدث تبعثرا وشرخا في الأسواق والاقتصاد العالمي، أن جميع متطلبات السوق العالمية تأتي من الصين، ما شكل ثغرة اقتصادية لم تستطع أي دولة سدها.

وهذه القوة الناعمة تجد تفسيرها انطلاقا من تاريخها، أي تاريخ الحضارة الكونفوشية، حيث يجد الباحث في هذا التاريخ مجموعة من المعتقدات والعادات المتغلغلة في العمق الصيني التي تفسر هذه القوة، كما يلاحظ أيضا أنها، أي الصين، أقل الإمبراطوريات حروبا على مر التاريخ، إضافة إلى الترابط العائلي القوي بين أفراد الأسر الصينية.

كل هذا ساهم في صعود الصين كقوة موازية للولايات المتحدة الأمريكية، قوة لا تروم السيطرة على العالم، بل تريد التعامل معه تجاريا، وتحريك الدورة الاقتصادية العالمية، والاستثمار، وهو ما يتجلى من خلال مشروع مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومشروع القرن الاقتصادي في العالم، الذي يحاول أن يضع أسسا لنظام دولي جديد، تبدأ ملامحه في القارة الأسيوية، ليمتد تدريجيا ليشمل العالم كله. وعليه سيتطلع العالم للقيادة الصينية من أجل تحقيق النمو والاستقرار..إضافة إلى محاولات إقامة شراكات جيواستراتيجية، مع إيران وتركيا، تعرف بطريق الحرير الجديد من الشرق باتجاه أوروبا مرورا بإيران وتركيا، لتكسير شوكة الولايات المتحدة الأمريكية والقضاء على نفوذها في المنطقة.

وإذا ما كتب لمبادرة (الحزام والطريق) النجاح فإن الحركة على الطريق الأسيوي ستسير بشكل انسيابي أكثر مما هو عليه الوضع الآن، وسيسير عمل قطاع الخدمات اللوجستية بشكل أسرع، الأمر الذي سيمكن البلدان المنقطعة عن الأسواق العالمية من الانغماس في حركة التجارة بشكل أكبر، لتشكل بالطبع هذه المبادرة انطلاقة عالمية صينية غير مسبوقة.

كل هذا أثار مجموعة من التساؤلات بين صناع القرار السياسي والباحثين الأكاديميين، يلخصها Sean M Lynn-Jones في أربعة أسئلة:

1- كم تبلغ قدرات الصين الاقتصادية والعسكرية؟.

2- كيف ينعكس نمو قوة الصين على الاستقرار والسلام الدوليين؟.

3- ما هي نوايا الصين؟ هل تسعى بقوة إلى أن تتحدى وتغير النظام الدولي؟.

4- كيف يجب أن تتعامل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأخرى مع تنامي قوة الصين؟.

وبغض النظر عن كل تلك التساؤلات، فإن بروز الصين في السنوات الأخيرة كقوة صاعدة على المستويين الإقليمي والدولي عززته جملة من المؤشرات، منها:

– الصين ثالث قوة فضائية ونووية بعد الولايات المتحدة وأوروبا.

– الصين ضمن الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي.

– الصين تمثل قوة عالمية ثانية في جذب الاستثمار بعد (و.م.أ) والقوة الثالثة بعد (و.م.أ) واليابان، الثانية في حجم الإنتاج الإجمالي.

– تمتلك الصين موقعا إستراتيجيا يربط شرق آسيا وشرق أوروبا وتتحكم بعدد من الطرق البحرية والبرية.

– القوة العالمية الأولى في احتياطي النقدي الأجنبي الذي بلغ أكثر من 2 تريليون دولار.

– التحالف الصيني – الروسي يخلق توازنا إستراتيجيا في مواجهة الحلف الأطلسي في جنوب وشرق آسيا.

– التوجه الصيني نحو المنطقة العربية.

– تداعيات جائحة كورونا التي أبانت عن أنانية الولايات (و.م.أ) وعدم قدرتها على مستوى احتواء الأزمة الصحية والمساعدات المادية والإنسانية.

لكن رغم كل هذا يبقى السؤال الجوهري المطروح هو هل الاقتصاد قادر لوحده على قيادة العالم؟.

على اعتبار أن الصين رغم قوتها الصناعية والاقتصادية، إلا أن هناك مجموعة من الحدود التي قد تكون عائقا أمام احتلال مكان الصدارة والزعامة؛ وذلك راجع كما سبق الذكر إلى قوة ووحدة المعتقدات والعادات المتجذرة في التاريخ الصيني، ما يجعلها تجد صعوبة في نشر اللغة الصينية مثلا، وسلاسة الاندماج في المجتمعات الدولية، من خلال التواصل، زيادة على ثقافة الطعام والأكل الصينية المختلفة، مقارنة مع التفكير العولمي الأمريكي، الذي استطاع أن ينشر جميع أنظمته عبر الأنترنيت، والاعتماد على السينما الهوليودية، لنشر فكر (العم سام)؛ إضافة إلى أن المنتوج الأمريكي يصل إلى أبعد نقطة في العالم، حضرية كانت أم قروية (مثلا مشروب كوكاكولا، وسلاسل المطاعم الأمريكية الشهيرة Mc Donald’s)…

كل هذا كان وراء سلاسة تقبل النظام العالمي الأمريكي من طرف الدول الرأسمالية المشاركة.

الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل أيضا عن مدى قدرة الصين على إقامة نظام عالمي جديد بمعزل عن السبل اللاأخلاقية التي سلكتها الرأسمالية المتوحشة.

وخلاصة القول أن التحدي الأكبر أمام الصين لتحقيق نجاحها وتفوقها يبقى استغلال جائحة كورونا لرتق فتق الجروح التي أحدثها هذا الوباء وكسب صداقة الدولة المشاركة في النظام العالمي، لكي تقدر على مواجهة الضغوطات الأمريكية التي تسعى إلى الحفاظ على مكانتها كقطب واحد ومهيمن في النظام الدولي بشعار (أمريكا أولا)، وذلك عبر التعاون البناء مع حلفائها في العالم، لاسيما روسيا.

* باحث في القانون الدولي العام، كلية العلوم القانونية والاجتماعية والاقتصادية، مكناس.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين