الأنبياء المكيافيليون

الأنبياء المكيافيليون
الخميس 9 فبراير 2012 - 00:13

طُهرانيون … متسامون … مثاليون …

يتبنون كل فعل “ملائكي” .ولم يسبق لهم أبدا أن سقطوا في حبائل الشيطان…فالشيطان لا يقف لهم بالمرصاد،لأنه يعرف بدايةً أن معركته معهم خاسرة.وحتى أتباعه يخافون هؤلاء الأنبياء،لأنهم أولو بأس شديد.

وسوساته الهامسة،وإيحاءاته من بعيد،لا تصل مبتغاها…لقد تطهروا من كل وسواس،ونجوا من حبائل كل خناس.

كل همهم أن ينعم غيرهم ليشقوا هم في سبيل إسعاده،وغاية مناهم أن يروا الآخرين في جنات النعيم الدنيوية.لأنهم سخروا أنفسهم لخدمة الخلق والدفاع عن مصالحهم والدود عن حقوقهم.

يصلون ليلهم بنهارهم،لا ينامون في سبيل قضاء مصالح الآخرين إلا قليلا.عيونهم محمرة،جنوبهم تتجافى عن المضاجع،عرفوا أن الحق قل أنصاره،وأن الخير ندر أتباعه،فجعلوا من أنفسهم حماة للحق يدودون عنه بكل وسيلة،وعضوا بنواجدهم على كل معاني الخير والفضيلة.

هكذا يحلو لبعض الناس أن يرسموا لأنفسهم أجمل صورة في خيالهم.يحسبون أن الحق بدونهم إلى انحسار،وأن الفضيلة لولاهم إلى زوال،وأن الخير في غيابهم إلى اضمحلال.ولأنهم يعيشون في كهوفهم،مقيدين بأغلال تفكيرهم،مستسلمين لنوازع صدورهم،يصدقون أنهم الأطهر والأصلح والأنقى والأتقى و الأبقى … وفي كل مرة يُحكمون إغلاق الأبواب من حول حصونهم،كي لا يدلف إلى ساحتها متطفلون لا يعرفون قدرهم،أو مندسون قد يتآمرون على تدنيس طهارتهم…

وكلما دارت المعارك،وحمي وطيسها… رجعوا إلى الوراء لكي لا تتسخ هاماتهم بغبار المعارك الوهمية.فهم ينتظرون اللحظة التاريخية ،تلك التي ستعود بهم إلى أمجادهم الغابرة أو تقفز بهم إلى أحلامهم الكبيرة،كي يتبوؤوا موقع القيادة عن جدارة واستحقاق.فهم لم يُخلقوا للتدافع والتنافس والاحتكام إلى ما قد يقوله الناس في حقهم.ذلك مجرد لهاث وراء السراب.إنهم موعودون ،والوعد آت لا شك في ذلك.ومن شك فقد جعل للشيطان منفذا إلى قلبه وعقله.

السادة الأنبياء أيضا لم يخلقوا كي يشاركوا باقي الناس همومهم وأهدافهم،آلامهم وآمالهم،أشواقهم وأشواكهم… هم لا يخضعون لباقي القوانين التي تحكم سائر العباد.ولذلك لا يلبسون إلا لباسا خالص البياض،ولا يتداولون في مجالسهم إلا أفكارا عذرية ثمن بكارتها لا يعرفه إلا من أوتي الحكمة على نهج الربانيين الراقين دوما وأبدا في معارج الكمال.

فتراهم يسخرون من كل من يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه. لأن المعركة محسومة النتيجة.ولأن العبث والحق لا يلتقيان.ولأنهم إلى جانب الحق،فهم لا يعبؤون بالعابثين.

ولا يضيعون وقتهم الثمين في ترقيع ثوب مزقته السنون…

ولا يقنعون بنصف مقعد ولا بحصة الأسد حتى،شعارهم نكون أو لا نكون..لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

*************
لكن … وما أصعب لكن هذه !

لقد علمتنا التجارب أن كثيرا من الناس الذين يظهرون متعالين عن الواقع هم أكثر الناس انغماسا فيه.والذين يذمون الشهوات لا يملون من الاغتراف منها.والذين يسبون الآلهة والأصنام المزيفة،هم في الخفاء يظلون لها عاكفين.وإن أخطر سقوط هو سقوط أولئك المتطرفين المثاليين الذين يبزون الناس بطهرانيتهم وتساميهم لكنهم عند الامتحان الحقيقي يظهرون حقيقة ما هم عليه.

وفي كل التجارب التاريخية،تبث أن الغلاة إما يشعلونها نارا لا تبقي ولا تذر.وإما ينقلبون على أعقابهم فيبيحون لأنفسهم كل ما حرموه على غيرهم،ويجعلون المباديء والشعارات حطبا لنارهم التي يحرقون بها آخر صفحة في كتبهم المقدسة.

إسألوا التاريخ ينبئكم عما فعله الثوار والزهاد والقديسون بأتباعهم وأبناء شعوبهم حين أمسكوا بتلابيب السلطة وسكروا بخمرة التسلط.

لقد جعلوا القريب يتمنى لو كان بعيدا،والحاضر يتمنى لو كان غائبا.وأذاقوا الجميع أهوالا تشيب لها الغربان.

ودائما هناك عشرات الحجج يقدمونها لكل من قد ينتقدهم أو يعاتبهم مجرد عتاب.فالمتآمرون والمندسون والموالون للخارج والعملاء والكفرة والملحدون والزنادقة من كل لون،لا بد أن تدوسهم الأرجل الطاهرة،ويشهد مصيرَهم المفجعَ أبناء الثورة وأهل الإيمان،كي يزدادوا ثورة ويقينا وإيمانا أنهم على طريق الحق ماضون.

إن أقصر طريق للحق في هذه الدنيا هو الإيمان الصادق بحق الآخر في الاختلاف معنا والدفاع عن رأيه مهما بدا لنا غريبا وصادما.إن الله لم يخلق أحدا عبثا.ومن العبث البين أن نتعالى ونتسامى على أحد من خلق الله لا لشيء سوى أننا لا نتفق معه أو نخالفه وجهة النظر.

وأجمل ما يمكن أن يقدمه الإنسان لأخيه الإنسان هو مساعدته على أن يعيش حياة حرة كريمة حسب ما يؤمن به ويعتقده لا أن يجبره أو يرشيه كي يقاسمه وجهة نظره هو ولو نفاقا.

وكل هذا متوقف على تربية النفس وتمرينها،وعلى ترويض الفكر وتوجيهه،كي يؤمن أن الحقيقة ليست ملكية مسجلة من حق أناس دون آخرين ،ومن حق تيار دون آخر.
ألا وإن خير الخلق التواضع…التواضع في كل شيء،فكرا وعلما وسياسة …

ومن تواضع لله رفعه

فهل يرعوي الأنبياء المكيافيليون ؟

[email protected]

‫تعليقات الزوار

10
  • جلال
    الخميس 9 فبراير 2012 - 00:43

    هدا مقال مفيد و في الصميم
    اضن لحسن الحض ان عموم المغاربة بدؤوا يدركون حقيقة هده الاصنام ليس فقط لانهم اكتسبوا وعيا اكبر و انما لان ريح الحراك عرت عورات هده الاصنام
    الشعب المغربي لم يعد مخدوعا باشباه الابطال، و المنافقين و الشياطين و الوصوليين النرجسيين،الدين ضنوا انها فرصتهم في الانقضاض على احلامنا .

  • مغربي
    الخميس 9 فبراير 2012 - 00:57

    و نسيت أنهم يرون الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و الصحابة الكرام, يقظة لا في المنام, و أن الحجاب يكشف لهم, فيعلمون ما كان و ما يكون و ما يجب أن يكون.
    و نسيت أنهم ملائكة منزهون معصومون من الكبائر و الصغائر و من الخطأ و النسيان, في حين أن الباقين عندهم ليسوا سوى "قرناء السوء" و في أفضل الأحوال "بلاطجة و شبيحة".

  • jastimi
    الخميس 9 فبراير 2012 - 01:49

    أحب أن أكون من أوائل من يهنئك على هذا المقال…فأفضل ما فيه التعميم القوي اللهجة الذي قد يصيب نقده حتى المتكلم نفسه و لا يستثني ..مع اني أرجو ان يكون القارئ فطنا الى تقييد الأنبياء بالميكيافيليين فلا ينقلب هذا التعميم الى أسوأ ما في المقال…فالأنبياء الحقيقيون أنفسهم كما يبدو ان عيني الكاتب تشير ..لم يدعوا العصمة المطلقة و لا البياض التام و انما اعلنوها صراحة ان لاعصمة الا لمن عصمه الله و ان الحق لا يجتمع في فرد و لا طائفة و ان لا معصوم الا الجماعة بكاملها.. فكيف بمن يدعي عصمة لم تدعيها النبوة بلسان حاله و ان أنكر بلسان مقاله؟؟ و لا ينزلن احد المقال على احد بعينه فكلننا معنيون..قأخيرا في المحصلة..لا مناص من الوقوع في اثم الخطأ

  • Mohamed Fetham
    الخميس 9 فبراير 2012 - 01:51

    Pourquoi cette haine et cette rage envers le PJD. Nous avons eu une série de défaites économiques et sociales sous de nombreux partis. La dernière équipe n'était autre que les Socialistes qui ont prouvé durant leur reigne qu'ils étaient comme les autres . Il ne restait plus aux marocains qu'un seul espoir: le PJD. Laissons les travailler et aprés on peut les juger. Ne criez pas derrière la caravane elle ne s'arretera pas. Qui voulez -vous choisir pour gouverner ce pays?Le peuple a dit son mot,si vous etes vraiment démocrates ,acceptez votre défaite et cachez vous. Dans cinq ans on peut critiquer ce gouvernement. Mais pas maintenant. Vous avez peur de leur réussite. Vous savez qu'ils sont venus pour remédier à ces maux qui rongent le corps du maroc. Les journaux ne cessent d'indexer cetains responsables qui se sont remplis les poches de l'argent des contibuables sans aucune punité. C'est ça que vous voulez defendre? ALLAH YASTAR

  • MILOUD
    الخميس 9 فبراير 2012 - 09:36

    اجمل ما قرأته على هذا المنبر منذ شهور اهنئ صاحب هذا المقال على عمق ونفاذ التفكير وبلاغة التصوير وشكرا

  • عمو
    الخميس 9 فبراير 2012 - 13:41

    مقال جد رائع لغة رزينة موفق أخي

  • عن بعد
    الخميس 9 فبراير 2012 - 13:47

    ….قال المتنبي

    وَمن البَليّةِ عَذْلُ مَن لا يَرْعَوي .. عَن جَهِلِهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ

    وَجُفُونُهُ مَا تَسْتَقِرّ كَأنّهَا .. مَطْرُوفَةٌ أوْ فُتّ فيها حِصرِمُ

    وَإذا أشَارَ مُحَدّثاً فَكَأنّهُ .. قِرْدٌ يُقَهْقِهُ أوْ عَجوزٌ تَلْطِمُ

  • يوسف مشرع
    الخميس 9 فبراير 2012 - 13:51

    لكن اللبيب الكريم ,فاته التوجيه بالاشارة دون التعميم والتعويم, واهتم بالخدش دون التقويم ,وفرط في امر اهداه اليه القدر السليم .وماهي الا ساعة ثم تنقضي*ويحمد غب السير من هو سائر.
    سياتي يوم تفنى فيه العبارات ,وتضمحل الاشارات,ويفتح كتاب الهفوات والسقطات, ويكون الاستدراك قد فات,وهذه هي الحقيقة التي نعرفها ولا نملكها (للاسف) لان القلوب اذا صدأت انى لها ان تستوعب.والتواضع من شيم العقلاء بلا ريب ,والتواضع والانبطاح(مختلفان) لايسقون من ماء واحد ,كما لا يخفى على اللبيب. وملاك الامر في الشدة شيئان:اصغرهما قوة قلب صاحبهاعلى ما ينوبه,واعظمهاحسن تفويضه الى مالكه ورازقه,فاليه الرغبة في تقريب الفرج,وتجلية القلوب.

  • حسن الخاتمة
    الجمعة 10 فبراير 2012 - 23:23

    نسأل الله حسن الخاتمة

    ورد في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه و سلم :
    "فوالله إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غير باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها غير ذراع أو ذراعين فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها"

    فلا يغتر أحد منا بإيمانه
    لأنه لا يضمن لنفسه حسن الخاتمة

    فلا يستعلي على غيره و لو كان عاصيا أو كافرا
    لأنه قد يكتب الله له حسن الخاتمة

    فحتى المبَشرون بالجنة رضوان الله عليهم كانوا يخشون سوء الخاتمة
    فما اغتروا و ما استأسدوا و ما استعلوا على غيرهم

    فلا يليق بالمسلم أن يظن أنه أفضل إسلاما و إيمانا من غيره
    و لا أن يتصرف من بين الناس كمن ضمن مقعده في الجنة

    و نسأل الله الهداية الثبات عليها

  • مغربي
    السبت 11 فبراير 2012 - 10:29

    شكرا لصاحب التعليق 8.التواضع ليس هو الانبطاح ,
    اللهم ارزقنا الفهم عنك. واجمع شتاتنا .يارب

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 2

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات