مغامرة الحسين 2

مغامرة الحسين 2
الأربعاء 16 شتنبر 2020 - 23:28

لم يتردد الحسين أبدا في اختيار الوجهة التي سيقضي فيها ليلته. انتظر بعض الوقت حتى أتم الإمام حديثه مع أحد المصلين ثم رافقه إلى بيته الذي يبعد بضعة أمتار فقط عن المسجد.

“تصبحون على خير”

هكذا ودعه الإمام وانحدر إلى غرفته عبر السلم الخشبي، تاركا الحسين وصديقه يقضيان ليلتهما الأولى خارج البيت.

لأول مرة يحرم الحسين من مجالسة أفراد أسرته حول مائدة العشاء والتزاحم معهم للظفر بلقمة قبل فوات الأوان. أثناء عملية الأكل تغيب القرابة العائلية بالمرة. كل واحد يعتمد على نفسه ويستخدم خطته الشخصية للوصول إلى هدفه.

لأول مرة يحرم من اقتسام الغرفة التي تجمعه بإخوانه كل ليلة. ويحرم من سماع حكايات الليل المثيرة، ومشاركتهم تبادل الأحاديث الممتعة التي دأبوا على تداولها بمجرد اندثار الفانوس الزيتي العتيق. مهمة الاندثار هذه كانت تقوم بها الأم كل ليلة بعد صلاة العشاء معلنة بذلك حلول وقت النوم.

ولكن هل كان فعلا غياب ضوء الفانوس يرغم الحسين وإخوانه على إقفال جفونهم والاستسلام لهدوء الليل؟

بالعكس كانت الظلمة إيذانا بافتتاح المسرح اليومي الحر الذي يطلق فيه العنان للإخوان للتعبير عما يخالجهم بكل حرية ودون رقابة الأبوين. مواضيع المسرح كانت تدور في الغالب حول خصومات ساكنة الدوار حول سقي الماء، الفقيه والمسيد، سلطة المقدم، زيارة السوق، ألبسة العيد، الزواج والطلاق، جبروت الوالد…

يا إلهي كيف سيقضي الحسين هذه الليلة؟

لأول مرة يبيت الحسين فوق سقف بيت غريب، لا وجود فيه لباب أو نافذة. سقف في الهواء الطلق بدون أسوار. حتى البطانية الصوفية – التي تعود عليها في مرقده – والتي تضفي عليه الدفء وتساعده على الاستسلام للنوم غابت عنه هذه الليلة.

تدحرج الحسين داخل جلبابه الذي لم يستطع الاستغناء عنه هذه المرة حتى في الليل. ليفترش حصيرا أبسط من حصير المسيد الذي ألف مقاومة خشونته وحدة سيقانه. واغتطى بلحاف رقيق دون وسادة، بعدما أفرغ حصيلة القب ووضعها جنبه.

حلكة الظلام الكثيفة المنتشرة حول السطح تحجب عن ناظره كل شيء. جو معتدل تتخلله نسمات باردة من حين لحين. هدوء غريب يخيم على المكان، سرعان ما يقطع بنباح الكلاب الظالة التي تتقاتل من أجل لقمة العيش. أو مواء القطط المستمر الناتج عن شعورها هي الأخرى بالجوع.

لا أدري هل ستجد هذه الحيوانات شيئا تقتاته لتريح نفسها من التسكع والتشاجر طيلة الليل.

حاول الحسين الظفر بقسط من الراحة بعد العناء الكبير الذي أحس به هذا اليوم. خصوصا بعد الآثار الناجمة عن هذه المغامرة الكبيرة. لكن باله لم يهدأ من التفكير في أمه. فهو يدري أكثر من أي شخص آخر مدى عناية أمه وحرصها على سلامته وسلامة كل إخوانه. ويعي أيضا أن له مكانة خاصة لديها لكونه أصغر إخوته. أو كما يقال، فهو آخر العش.

ترى كيف ستقضي هي الأخرى هذه الليلة؟

ومما زاد الطين بلة، هو شخير صديقه المعطي المستمر. شخير مدو يستحيل إهماله أو التغاضي عنه. حاول الحسين تنبيه صديقه عدة مرات، لكن دون جدوى. فبمجرد انسحاب الإمام إلى غرفته، انزوى المعطي بحصيرته وسط السقف ثم أرخى العنان لحنجرته القوية كاسرة بذلك هدوء الليل. ومعبرة عن العياء الكبير الذي يلم به.

وحتى وإن حاول الحسين إغماض عينيه لبضعة دقائق من كثرة الأرق الشديد، حين ينقص شخير المعطي في بعض الأحيان، فإن نباح الكلاب ومواء القطط لم ينقطع بالمرة طيلة الليل. كل هذا – شخير، عياء، ظلمة، نباح، مواء، تفكير، خوف، ساهم في خلق ليلة بيضاء للحسين.

وأخيرا عندما أدرك أن هذا هو مصيره هذه الليلة، استلقى على ظهره متأملا جمال السماء، وكأنه يكتشف ذلك لأول مرة. وحملق أيضا في النجوم التي أبهرته بضوئها وبتنوعها وكثرتها. وكأنها هي أيضا أصرت على الحضور لتؤنس وحدته في هذه الغربة. غير مبال بقساوة الحصير أو شخير المعطي ولا مبال بالمرة بالنباح والمواء المستمر. لحظة لم تدم طويلا.

وفجأة سمع صوت سعال يخترق المجال. أحس بعد ذلك بحركة حول السلم الخشبي الذي كان بالقرب منه. ثم تلاه صوت وقع أقدام يقترب شيئا فشيئا من السطح.

“السلام عليكم”

هكذا بادر الإمام ضيوفه. وأضاف:

“الصلاة خير من النوم”.

هرول الحسين بجمع حصيرته ولحافه. ثم أخذ يتحسس في الظلمة المكان الذي وضع فيه حصيلته ليضعها من جديد في قبه. وانحدر بعد ذلك عبر السلم بكل بطء خوفا من السقوط. لأن الظلمة لم تفسح المجال بعد لنور الصباح.

وانطلق الثلاثة في طريقهم إلى المسجد لصلاة الفجر، كما كان متفقا عليه من قبل.

ترى ما هو مصير الحسين بعد هذه الليلة؟

‫تعليقات الزوار

4
  • مغترب
    الخميس 17 شتنبر 2020 - 11:54

    كنت في انتظار الجزء 2
    وفعلا كان هذا الجزء الجديد كما تعودنا منك شيقا وممتعا للغاية
    تحياتي و تقديري الكبير لخيالك الواسع

  • hamid
    الخميس 17 شتنبر 2020 - 18:43

    الفقيه
    قصة حاول الكاتب من وراءها تصوير الحياة كما عشناها في البادية. تعود بنا الى ايام الصبى و الحياة البسيطة.
    علي هو نموذج للطفل المغربي في البادية.
    كتابة لطيفة و قصة مشوقة.

  • عبد اللطيف
    الجمعة 18 شتنبر 2020 - 15:34

    كنت أنتظر بفا رغ الصبر الجزء الثاني، ولم بخب ظني فهو ممتع، مشوق وجذاب. كتب بأسلوب جميل وسلس ليعبر عن الحياة في البادية، تلك الحياة البسيطة والجميلة. لقد توفقت وبامتياز في وصف الحياة في البادية بأسلوبك التصويري الجميل والممتع. فهناك تسلسل في الأفكار يجعل الصورة واضحة أمامك، كأنك تشاهد فيلما قصيرا.
    أتمنى لك المزيد من التوفيق والنجاح والتألق فى مشوارك الثقافي،فأنت تتوفر على جميع المقومات من أجل تحقيق ذلك
    تحياتي

  • إكرام الضيف على السطح
    الجمعة 18 شتنبر 2020 - 16:20

    الفقيه لم يكترث لضيفيه اللذين ناما على السطح مثل الكلاب من دون أن يمدهما حتى بالأغطية والوسائد، وهو الذي يظل يقدم للناس مواعيظ عن الإكرام والإحسان للضيف. نام قرير العين ولم ينشغل إلا بإيفاقهما فجرا لأداء الصلاة. "الصلاة خير من النوم". هل ناما أصلا؟ لا يهم ، ما يهم هو أن يكون الإنسان في خدمة الدين.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين