في مديح أهل التغابي والغباء ...

في مديح أهل التغابي والغباء ...
السبت 6 أكتوبر 2012 - 16:44

لا عُتب على من كان نصيبه من الغباء وفيرا، ولا ضير أن يتغابى المرء إن كان دهره بالتغابي جديرا.

إن أقصر طريق كي تندمج اندماجا كاملا في مجتمع من المجتمعات، هو ذلك الذي على مدخله نصبت لوحة كبيرة، كتب عليها بخط عريض :

( ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا تجاهلت حتى قيل أني جاهل )

فالقول بعكس ما هو سائد من قناعات يجلب لصاحبه صفة الجنون في أحسن الحوال، وربما جلب له حبل المشنقة أو الرمي بالرصاص حتى الموت. تساوى في ذلك الفلاسفة والأنبياء والمصلحون والسياسيون المخلصون لقيمهم و مبادئهم وما تمليه عليهم ضمائرهم وأخلاقهم، لا مصالحهم ولا منافعهم.

( ووفقًا لما جاء في رواية “زينوفون”، ألقى “سقراط” عن عمد دفاعًا جريئًا أمام هيئة المحلفين، لأنه كان يعتقد أنه من الأفضل له أن يموت. ويواصل “زينوفون” حديثه ليصف دفاع “سقراط” والذي يوضح قسوة العهد القديم وكيف كان “سقراط” سعيدًا لأنه سيهرب من هذه القسوة بإعدامه. كما يفهم ضمنًا من وصف “زينوفون” أن “سقراط” تمنى أيضًا الموت لأنه كان يعتقد فعليًا أن الوقت المناسب قد حان لأن يفارق الحياة.

ويتفق أفلاطون وزينوفون على أن “سقراط” كانت لديه الفرصة للهرب، حيث كان بإمكان تابعيه أن يقدموا رشوة لحراس السجن. لكنه اختار البقاء لعدة أسباب هي:

1. لأنه كان يعتقد أن الهروب قد يشير إلى خوفه من الموت وهو الخوف الذي اعتقد بأنه لا وجود له لدى أي فيلسوف حقيقي.

2. لأنه لو هرب من أثينا، لن تلقى تعاليمه أي نجاح في مدينة أخرى لأنه سيستمر في محاورة كل من يقابلهم وسيثير استياءهم بالطبع.

3. ولأنه وافق- على نحو متعمد- على أن يعيش بالمدينة ويخضع لقوانينها، فهو قد أخضع نفسه ضمنيًا لاحتمالية أن يتهمه أهل المدينة بارتكاب بالجرائم وأن يدان من قبل

هيئة المحلفين. ولو قام بما ينافي ذلك، فذلك يعني أنه يخرق العقد الاجتماعي الذي وقعه مع الدولة وبالتالي سيسبب ضررًا لها ومثل هذا التصرف ينافي المبادئ التي ينتهجها “سقراط”. )

لقد اتخذ سقراط موقفه هذا بناء على ما يؤمن به من مباديء ، وما يتسم به من أخلاق. كان له أتباع مخلصون، لكن القوة كانت بيد خصومهم وأعدائهم. كان بإمكان هذا الفيلسوف أن ينجو من الموت المحقق لو آثر التغابي أو تجاهل شانه شأن الغالبية الصامتة أو الناطقة بمنطق الغباء. لكن فلسفته الحالمة، وطوباويته التي ترى الغباء رذيلة، سقته كاس المنون سما زعاقا:

الخلاصة أن غاية ما وصله سقراط من خلال تشبته بفلسفته ومبادئه أنه ارتشف السم راضيا، لأن هذا في رأيه أفضل، وهو ما يليق بفيلسوف عاقل.
لكن الملايين من الناس يرون في ذلك تهورا وانتحارا غبيا. فمن الغبي سقراط الوحيد أم الملايين الذين وقفوا ويقفون أمام المحاكم، ويوكلون المحامين، كي يتبثوا براءتهم، وينجوا من الموت حتى ولو كانوا مذنبين. فكيف لو أنهم أبرياء أصلا.؟؟

أن كثيرا من القناعات ، وكثيرا من الأحكام، ليس مردها إلى مدى نفعها وجدواها في الحياة. ولكن فقط لأن أقوالا صدرت من أقوام صُنفوا في خانة العقلاء، وكتب لها أن تنتشر وتسير بذكرها وتلاوتها الركبان. وبعدها أصبحت عين الحكمة، والصواب الذي لا سبيل للطعن فيه.

هل صحيح أن كل من جد وجد وكل من زرع حصد ؟

فلماذا نفيق كل يوم من نومنا، ونرى مجدين مازالوا يعانقون فقرهم ويلعقون جراح آلامهم، لا هم يحصدون… ولا زرعهم ينجو من الآفات. في حين يحصد آخرون زروعا يانعة، ويجدون كل ما تهواه أنفسهم وتلذه أعينهم، يجدونه أقرب إليهم قُرب البؤس من الجادين الزارعين المستيقظين بالأسحار، والساهرين الليالي الطويلة!

من نصدق ؟ هل المتنبئ الذي يقول :الراي قبل شجاعة الشجعان؟

أم أبا تمام الذي يؤكد : السيف أصدق أنباء من الكتب؟

هل القناعة دوما كنز لا يفنى ؟ دلونا على أصحاب هذا الكنز وأي صنف من البشر هم؟ لماذا لا نجد في مجتمعاتنا الإنسانية من يقنعون بالقناعة في حين نلاقي المتهافتين على ملذات الحياة وعلى الأشياء يقتنونها بكل ثمن، ومن يجعلون الاستهلاك نشاطهم، والسوق معبدهم.

كم نمدح الزهد ونعلي من شأنه. ومع ذلك، لو حدث أن رأيتم زاهدا، دلونا على عنوانه، كي نلتقط بجانبه صورا تذكارية، نضعها في متحف البشرية، كي يعرفوا أن زاهدا مر على أرضنا في زمن ما من الزمنة الجيولوجية حتى اليوم..

ربما أبدو متشائما أو ناكرا لكثير من المثل والأخلاق التي تعارف عليها الناس من كل الملل والنحل، وفي كل زمان وأي مكان. لكن حقيقة الأمر أن كثيرا ما يُعلي الناس من شأن بعض المبادئ في أقوالهم، ويدوسونها في معاشهم وغدوهم ورواحهم. وهو ما يخلق نوعا من الانفصام، لا في شخصية الفرد ولكن في شخصية المجتمع برمته. وهذا مرض خطير ربما لا يريد المجتمع أن ينتبه إليه، لأن الاستمرار في تقمص دورين، هو ما يرضي الناس ويجعلهم منسجمين إلى حد ما مع أحوالهم وشؤونهم، على ما فيها من تناقض وتباين.

عشرات الأمثلة يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد، مع رسم تلك الصور المثالية المستلهمة من النصوص الدينية ومن سير السلف والأبطال القوميين والشخصيات الوطنية والإنسانية. لكن أحوالنا، وما نحن فيه من ترد وتقهقر على كثير من المستويات، يدل على عكس ما ندمن عليه من أقوال ومواعظ وشعارات.

فهل يكفي أن نمدح العلم ونعلي من شأن الثقافة والمعرفة بأقوالنا كي يظهر بيننا علماء كبار، ومثقفون عظام، وتزدهر المعارف بكل أنواعها ؟

نحن نصف أنفسنا بأمة ” إقرأ “

لكن كم منا “يقرأ” ؟ وكم منا يُسمح له أن “يقرأ”؟ وكم منا يُراد له أن “يقرأ”؟ وكيف وبأية مناهج وعلى أي نحو وبكم هي تكلفة سوف “يقرأ” ؟ وماذا بعد القراءة ؟ ولماذا نسمح لأنفسنا أن يستمر بيننا كل هذا الجيش العرمرم من الذين لا يقرؤون، ولا يؤذن لهم أن يقرؤوا ، ولا تعبد أمامهم طرق القراءة والعلم والمعرفة؟

لا شك أن المسافة بين الأقوال والأفعال كبيرة جدا. وهو ما يجلب مقت الخالق عز وجل. فقد ورد في القرآن نص تحذيري وصريح :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )

فلا عجب ، والحال كما سلف، أن تجد البعض يجرؤ على تسمية الأشياء باسمها، ومطابقة القول والفعل لكي لا يعيش أي انفصام في شخصيته، فيفتخر بالجهل، ويصر على التغابي والغباء، ويسخر من المتعلمين الذين يفنون حياتهم في التقاط الكلمات… وماذا عساها تجدي الكلمات ؟.

أهذا خير أم من يقول بأن العلم نور، وأن التقدم لا يكون إلا بالمعرفة، و يحاضر في كل بقاع الدنيا ويسود صفحات الكتب والمجلات والموسوعات … وبالمقابل يغلق في وجه المواطنين أبواب الجامعات ؟؟؟

رجاء … لا تدفعوا الناس أن يؤمنوا حقا بالغباء أو تجبروهم على التغابي …
فمدحي لهما كرها … وخلاصي منهما رجاء.

‫تعليقات الزوار

1
  • azenzar
    الإثنين 8 أكتوبر 2012 - 19:02

    شكرا لك على هدا المقال بالفعل رائع… ننتضر منك اكتر
    merci pour l'article j'ai bien aimé

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب