مسألة عنف

مسألة عنف
الثلاثاء 27 نونبر 2012 - 12:17

وانا أطالع أخبار العالم قبل ايام،استوقفني خبر نشرته قناة العربية عن مقتل طفلة في الخامسة من عمرها، كان القاتل هو والد الطفلة نفسه والذي دفعه الشك في سلوكها الى تعذيبها بوحشية ادت الى وفاتها.

ترددت في ذهني الكثير من التساؤلات،كيف يمكن الشك في عذرية طفلة في الخامسة وفي براءة سلوكها؟ كيف يمكن ان يكون مرتكب الجريمة متدينا وداعية وواعظا تربويا على شاشات الفضائيات؟

وسرعان ما أدى بي تقليب الاجوبة المحتملة في ذهني الى طرح السؤال الذي بدا لي أكثر بداهة ولو انه لا يطرح نفسه بشكل تلقائي: لماذا يلجأ الناس الى أعنف الطرق واكثرها وحشية للتعامل مع مشكلاتهم (سواء كانت مشكلات حقيقية او متوهمة)؟

في اعتقادي،فان مأساة الطفلة لمى (ضحية الخبر المنشور اعلاه) لو حشرت في إطار العنف المنزلي او فسرت فقط من خلال العنف الممارس على المرأة (بالغة او طفلة) لكانت مقاربتنا في فهمها جزئية بل سطحية تماما.

هل سننجح في فهم العنف الممارس على الفتيات الصغيرات والزوجات داخل الاسرة،والعنف الممارس على النساء خارج الاسرة،سواء كان هذا العنف ماديا او رمزيا دون وضعه في سياق مجتمع ينتج ويعيد انتاج العنف على مستوى مؤسساته،سلوكيات افراده وانماط تفكيرهم؟

ما علينا الا ان نفحص عددا من المشاهد التي نجدها في واقعنا المعيش لنجد الجواب

في اللعب التي نشتريها لأطفالنا على شكل أسلحة،نعلمهم ان القتال والقتل يمكن ان يكون تسلية الأقوى،وقد نشاطرهم اختيار الاسلحة في العاب الفيديو واتقان إفراغ الدخيرة في رؤوس الاعداء الافتراضيين،والصراخ انتصارا برؤية دماءهم تسيل على الجدران القاتمة.

في الرياضة حيث نحول بشغف غريب لعبة ككرة القدم الى حرب بين المشجعين،ومن اجل اثبات الانتماء الى فريق ننسلخ عن الانتماء الى الانسانية.

في العالم الافتراضي وعلى مواقع التواصل الاجتماعي لا نتحمل التواجد مع المخالفين لنا في نفس الفضاء،فنخوض حروبا كلامية متعصبة لا نرضى الا وقد خرجنا منها منتصرين باثبات ان رأينا هو الاصح والاصلح في كل الاحوال.

في الافلام والاعمال السينمائية نمجد العنف، فلا ينال رضانا الا العمل الذي استغرق ميزانية ضخمة للإبداع في فن التدمير،بدءا بتدمير الاشخاص والاشياء،الى تدمير الكوكب،وصولا الى تدمير المجرات..

خلف كل تلك المشاهد أمر لا يختلف عن تعنيف الاب لأبناءه (ذكورا او اناثا) او عن تعنيف الزوج لزوجته،فالمبدأ هو نفسه دوما إخضاع الاخر بالقوة لإرادة الذات،ومرده الى الإحساس بتفوق الذات ودونية الآخر.

فالحياة بهذا المعنى ليس لها القيمة نفسها بالنسبة لكل الاحياء،لان حياة البعض تضحي أثمن من حياة البعض الآخر..

وللبعض كرامة إنسانية بينما ليس للبعض الآخر نصيب منها..

والبعض وجد ليسود فيما وجد البعض الآخر ليكون له تابعا..

وهي امور تتوضح لدى الكثيرين اكثر عندما تتعلق بالممارسات السياسية،في الأنظمة الشمولية حيث يسود الاستبداد وسياسة الحديد والنار مقابل ثقافة المواطنة وحقوق الانسان..
في المعتقلات وأقسام الشرطة حيث يتم تعذيب الموقوفين بوحشية لاستخلاص أقوالهم…

في العلاقات الدولية حيث يقصف المدنيون (كما يحصل في سوريا وغزة) ويتعود المجتمع المدني العالمي على تكرار واستمرار ذلك متى كان مفيدا سياسيا وجيوستراتيجيا..
ورغم اختلاف المشاهد فالمبدأ الذي يحكم العنف فيها وينتجه ويعيد إنتاجه مبدأ واحد،في كل وضعية هناك طرف يؤمن بتفوقه ويعتقد بدونية من هو أمامه..لذلك يرى أن بإمكانه ان يسود ويسيطر بالقوة،وكلما كان الطرف الثاني اضعف من ان يواجه،كلما قلت مقاومته،كلما تأكدت فرضية التفوق لدى كليهما..

يتأكد الاحساس بالتفوق لدى الطفل الذي يستطيع التحكم في شخوص اللعبة والتسلي بإيذائهم وقتلهم باستمرار،فالذي يملك ادوات التحكم يمكنه ان يفعل ما يشاء بغيره..
و يتأكد لدى رب الأسرة الذي يعتبر نفسه الأقوى والأكثر تحكما،ويرى في الأسرة مملكته التي يجب ان تسير على هواه،وكلما قلت مقاومة أهل البيت،وحظي بتشجيع من المجتمع أمعن في إظهار قوته وهيمنته،خصوصا عندما تروج الثقافة السائدة صورة الذكر المهيمن على أنها المثال الذي يجب أن يحققه كل رجل..

وعلى مستوى اوسع قليلا فهو نفس شعور التفوق الذي يهيمن على مخيلة الحكام المستبدين عندما يتصورون الوطن كمنزل ضخم يقطنونه بحرية هم واتباعهم،ولا يلعب فيه المواطنون إلا دور قطع الديكور الجامدة التي تزين بابتسامات فارغة كل الجدران والردهات،وإذا تململ البعض منها عن مكانه نقلوه الى المشغل ليعاد صقله او رموا به في قبو منسي..

هذا التفوق الذي لا يثير حفيظتنا إلا عندما نستشعره في مواقف الدول العظمى وهي تتعامل مع الكوكب كرقعة شطرنج تملكها،تتسلى بتحريك قطعها لكي تثبت في كل مرة انها دوما الأذكى والأقوى،فكل ما تراهن عليه من خيرات في اي منطقة في العالم تأخذه وفق قوانين لعبة من اختراعها…

مشكلتنا مع العنف اذن- ان كان العنف يشكل مشكلا بالنسبة لنا على الأقل- لا يجب اختزالها في ابعاده الضيقة..تسعى الخطابات المدافعة عن المستضعفين من ضحايا العنف بأشكاله المختلفة الى إعادة الاعتبار اليهم، لكن غضب الضحايا سرعان ما يتحول الى عنف مضاد، لهذا تتنامى جرائم الاحداث الجانحين،والجرائم ضد الاصول،وعنف النساء ضد الرجال،ولهذا ايضا تتلون كل ثورة ضد الاستبداد والاستغلال بلون الدماء،ليست فقط دماء من يستشهدون من أجل الحرية ولكنها ايضا دماء من تطالهم ايدي الشعوب الغاضبة (كما حصل في استهداف الأشخاص ذوي الاصول الافريقية في ليبيا قبل سقوط نظام القذافي).فكلما وجد الضحايا انفسهم في موقع قوة أنتجوا عنفا مماثلا للذي مورس عليهم او أسوأ منه، فقد تخلصوا (او على الاقل يسعون للتخلص) من أثر الدونية الذي كان لصيقا بهم لكي يصبح لديهم إحساس بتفوقهم هم ودونية من غيرهم.

ربما نحتاج الى خطاب يذكر الجميع وباستمرار (الجلادون والضحايا على حد سواء) ان البشر سواء،وان إنسانية كل كائن بشري محط تكريم واحترام بذاتها.ولأن الخطابات وحدها لم تكن يوما كافية كان لزاما علينا التأصيل لهذه الثقافة التي تعلي من شأن الانسانية وتحميها في كل سلوك يومي لنا كأفراد داخل أسرنا وكمواطنين داخل الدولة وكمواطنين داخل المجتمع البشري غير المحدد بزمان او مكان معينين.وبالنهاية لا نملك إلا نحيي كل أشكال النضال للحد من العنف ضد النساء لكن القضية العادلة تخسر الكثير من فرصها في الانتصار عندما يتشرذم مناضلوها و يقتطعون منها قضايا فرعية تصبح مع الممارسة التاريخية غريبة عن بعضها البعض،وغريبة عن القضية الأصلية،فمجتمعاتنا في عمقها ليست فقط مجتمعات تعنف النساء،ولكنها مجتمعات تخلق دائما أفرادا ضعفاء وتجعل غيرهم يستقوون بضعفهم.
*استاذة فلسفة
[email protected]
www.banaatafkari.blogspot.com

‫تعليقات الزوار

7
  • مغربية
    الثلاثاء 27 نونبر 2012 - 16:24

    ما تحدثي عنه بخصوص الوهابي فيحان الغامدي الذي قتل إبنته مجرد الشجرة التي تخفي الغابة هؤلاء الوهابيون سيئون لا يحبون احدا ومتعطشون للدماء
    ويعتقدون انهم اذا سبوا الأخرين ( المذاهب الأخرى سنة شيعة /التيارات الفكرية العلمانيين/ الليبيراليين) سيتجملون
    كنا صغارا يا اختي وعلمنا اهلنا ابدا لن نصير اذكياء اذا وصفنا الأخرين بالغباء
    وشتمناهم أبدا لن نصير جميليم اذا نعتنا الأخر بالقبح لمجرد عقدة بأنفسنا ومن دون سبب
    شكرا على الموضوع الهادف …

  • إلى صاحب التعليق رقم 2
    الثلاثاء 27 نونبر 2012 - 20:01

    إلى صاحب التعليق رقم 2
    لو فقط أتعبت نفسك قليلا وعملت مجهودا بسيطا للدخول إلى مدونة كاتبة المقال لوجدتها عرّفت في أعلى صفحتها عن أسلوبها في الكتابة
    هذا أسلوبها وعليك احترامه
    متى نرقى من نقد الكاتب إلى نقد المكتوب ومناقشته، كأشخاص بالغين ؟

  • obad
    الثلاثاء 27 نونبر 2012 - 20:47

    موضوع شيق و يتطرق الى موضوع حيوي يمس بالاساس الاسرة و بالتالي المجتمع الذي ننتمي له, لكن المقاربة التي تطرقت بعا الكاتبة للموضوع تبقى شمولية, لقد كنا نود ان تطرح الاستاذة الفاضلة الاسباب و ان تنطلق من فرضيات حتى نصل الى استنتاجات تمكننا من ايجاد الحلول الناجعة لتفادي هذا العنف و العنف المضاد,

  • k/E
    الثلاثاء 27 نونبر 2012 - 22:22

    السلام عليكم و رحمة الله
    شكرا جزيلا للأستاذة نزهة على طرح هذه القضية-موضوع مميز وتحليل منطقي – عفا الله عن هذه البلاد ولا حول ولاقوة إلا بالله

  • sifao
    الأربعاء 28 نونبر 2012 - 10:24

    لا اعتقد أن العنف يرتبط بالقوة وحدها ، نعم ، قد يصدر كفعل ناتج عن الأحساس بالقوة ،وقد يكون رد فعل ناتج عن الشعور بالضعف ، وفي كلتا الحالتين عجز عن تصريف طاقة متوترة بشكل سليم . البخيل يملك كل مقومات العيش الكريم لكن ، يمارس العنف على نفسه ويحرمها من الإشتهاء ، والمازوخي لا يحقق اشباعه الجنسي الا بعد تعنيف ذاته ، والسادي لا يحقق لذته الا بعد ممارسة العنف على الآخر .
    العنف في مملكة الحيوانات ناتج عن الإحساس بالقوة والرغبة في السيطرة ، لذلك يحكمها مبدا البقاء للأقوى ، الا أن مفهوم القوة لدى الأنسان يتخذ صيغا وأشكالا مختلفة ، الذكاء ، الطاقة الجسدية ، الخداع ، الاقناع …
    الرغبة في السيطرة واخضاع الآخر وسلبه ممتلكاته لم يكن ممكنا دون أعداد قوة مادية (السلاح) وبشرية تتيح كسر إلإرادة المضادة، أما الآن فقد تغيرت الأمور، يكفي أن تمتك قوة ذهنية هائلة لتجعل الآخر يخضع نفسه لغيره دون الحاجة الى المجابهة.
    العنف الذي يعنينا في هذا المقام واضحة أصوله ودواعيه ، لكن طرحه للنقاش
    يتطلب الكثير من الجرأة والقليل من المعرفة ، من الطابوهات المسكوت عنها ، بل من المستحيل التفكير فيها .
    شكرا أستاذة

  • Sani3at Hayat
    الأربعاء 28 نونبر 2012 - 23:46

    شكرا على الموضوع الهادف ..شكر جزيل للأستاذة نزهة

  • أم هدى
    الجمعة 30 نونبر 2012 - 10:43

    الأستاذة نزهة في مقالك هذا حاولت أن تدرسي الظاهرة من جميع الجوانب و لو بشكل مقتضب لكن الأهم أنك أوصلت للقارىء زوايا متعددة للتفكير في دراسة و معالجة هذه الظاهرة التي أظنها السبب في كل ما هو سلبي في المجتمع. وفقك الله.

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين